هـل لوجودنـا مـن معنـى؟
مَحلٌّ جَديدٌ للحَدْس وَالإيمَان في مجَال العُلوم الوَضْعيَّة
يؤسِّس كتابُ
المفكِّر الفرنسي جان ستون هل لوجودنا من معنى؟
[*]
لمحاولة نقدية جريئة في تحليل صيرورة المعرفة البشرية، عبر الحفر في تطور علاقة
العقل بالأسئلة الفلسفية الجوهرية التي واجهت الإنسانية، من نحو: ما هو أصل الكون؟
ما معنى الحياة أو طبيعة الإنسان والعالم؟
ينقسم الكتاب إلى أربعة فصول، يلخِّص كلٌّ منها أبرز ما راكمت الإنسانيةُ من معارف
ونظريات أو إجابات عن تلك الأسئلة الكبرى التي تحدَّت العقل الإنساني إلى الآن. من
ذلك، على سبيل المثال، مبحث حقيقية الوجود، حيث يضعنا جان ستون أمام حصيلة
مهمة لصيرورة المعرفة الإنسانية بطبيعة المادة والاكتشافات التي تمَّ التوصلُ إليها
في ميدان الفيزياء الكوانتية
physique
quantique
بالذات والتي كشفت، بما لا يدع مجالاً للشك، عن أن ما يوجد حقيقة إنما هو علاقات
بين أعداد وليس بين أشياء – الأمر الذي كان قد نزع صفة «الشيئية» عن المادة وجعل من
غير الممكن، كما كان يسود في النظرة الكلاسيكية، تصوُّر أن أصل الموجودات كلِّها
جسيماتٌ صغيرةٌ هي بمثابة «لَبِنات أصلية» مشكِّلة للمادة، بل إن الجسيمات التي
تحيط بنا وتؤلِّف أجسامنا ليست أكثر من «مسارات» للموجودات الفعلية، وإن حقيقة ما
هو موجود تندُّ عن الزمان والمكان والطاقة والمادة، وهي تتموقَع خارج حدود الأبعاد
المحيطة بنا.
وفيما يتعلق بالسؤال «من أين جئنا وإلى أين نمضي؟»، الذي يتناول مسألة أصل الكون،
نجد الكاتب، هنا أيضًا، لكن بالاعتماد على نظريات مختلفة، كالنسبية العامة
Relativité générale
لأينشتاين والـBig
Bang
(نظرية «الانفجار الأعظم»)، يذهب في اتجاه التدليل على أن العالم لا يفسِّر نفسه
بنفسه وأنه لا بدَّ من الإقرار بوجود مستويات أخرى للواقع
niveaux
de réalité
حتى نفهم سياق أصل الكون.
لا
شكَّ في أن الكون معدَّل بطريقة دقيقة، وإذا غيَّرنا في واحدة من الثوابت الأساسية
فيه فإنه يصير عاجزًا عن إحداث التعقيد
complexité.
ألا يدل ذلك على أن الكون هو مِن خَلْقِ «إله»؟ (إذ يمكن لنا أن نتصور في البدء
وجود عدد غير محدود من «الأكوان الموازية»
univers
parallèles،
وأننا وُجِدْنا بالمصادفة في الكون الوحيد المعدَّل في شكل معيَّن نعتبره «حسنًا».)
يدفعنا ذلك إلى تصوُّر هذه الفرضية في إطار المقاربة العلمية، وهو ما كان يرفضه
العلمُ الكلاسيكي.
أما
فيما يتعلق بالسؤال: من أين أتينا؟ – وهو السؤال عن تطور الحياة – فيدافع المؤلِّف
بكلِّ قوة عن فكرة كون الأحياء جميعًا يشتركون في «جدٍّ» واحد. وبالتوازي مع ذلك،
لا يمكن لنا قطعًا القبولُ بالداروِنية حين تدَّعي أن «المصادفة» و«الانتقاء
الطبيعي» من الآليات التي أتاحت ذلك التطور. هكذا، إذن، يفصل المؤلِّف بين
التطور
évolution
(الذي لا يمكن لنا أن نشكِّك فيه من دون أن نتعرض للهزء، بحسب رأيه) وبين
الداروِنية التي تريد إقناعنا بأن هذا التطور وقع من دون أية غائية.
ويعرض المؤلِّف لمواقف مجموعة من العلماء (من أكثرهم إلى أقلهم «داروِنية»)، خالصًا
إلى أن الفرضية الأقرب إلى الحدوث – بحسب رأيه – هي أن التطور يتم في إطار
مُعَدٍّ سلفًا. فمثلما أن الماء المنحدر من علٍ لا بدَّ من أن يتبع المسارات
التي سبق أن حفرها في الجبل، فكذلك التطور: إن مثله في تقنينه (أي وضعه في قنوات)
كمثل الماء على جنبات الجبل. فـ«المصادفة» محكومة بقوانين الطبيعة التي تجعل من
نتائج معينة حتمية الحدوث، عاجلاً أو آجلاً، وإنْ تدَّخلت المصادفةُ قطعًا في أثناء
المسيرة.
يبدأ الفصل المخصَّص للطبيعة البشرية في الكتاب («من نحن؟»)، مثل الفصل السابق،
بعرض مجموعة كاملة من مواقف العلماء، من أكثرهم مادية إلى أقلِّهم مادية. وهذا
المشهد يمكِّننا من الانتباه إلى أننا بعيدون جدًّا من امتلاك نظرية تفسِّر طبيعة
الوعي وعمله. يعرض المؤلِّف إذًا مجموعة من التجارب لا يعلم بها الجمهور
العريض إلا لمامًا، ولا تهدف إلى إثبات أن الإنسان يملك حرية الاختيار وحسب،
ولكن أيضًا إلى أن الوعي لا يمكن له أن يوصف تمامًا بمصطلحات علم الأعصاب
neurologie.
إذ يُظهِرُ بعض التجارب التي أُجرِيَتْ على رهبان من التيبت أنهم، عندما يتأملون،
يعيشون حالاً شبيهة بما قبل الغيبوبة، بينما هم في الواقع في وعيهم الكامل!
جان ستون
ذلك
ما يمكِّن المؤلِّف من الدفاع عن الفرضية (وهي لا تتمتع إلا بقبول أقلِّية في أوساط
علماء الأعصاب) القائلة إن الدماغ، مثله في ذلك مثل جهاز الراديو، هو جهاز
استقبال للوعي، وليس منتجًا له. وينتهي هذا القسم بفصل مخصَّص للرياضيات، نجد
فيه شهاداتِ علماء كبار في الرياضيات تبيِّن لنا أنهم على علاقة مع «عالم الذوات
الرياضية»، وهو عالم «حقيقي» في نظرهم فعلاً. بذا لم تبقَ الرياضيات من خلق العقل
البشري، بل هو يكتشفها ويستخلصها من عالمٍ ما قَبْلي
a priori
كانت تعيش فيه.
يعطي هذا الكتاب للقارئ فرصة السياحة في الكون، في المادة، في الحياة، في الوعي،
وفي الرياضيات، والخلوص، كلَّ مرة، إلى نتائج تُناقِض التصور الكلاسيكي، الاختزالي
réductionniste
والمادي، الناشئ عن الحداثة الغربية. ولا شكَّ في أن عددًا من المختصين لا يشاطرون
المؤلِّف رأيه، لكن المنهج الذي اتَّبعه على غاية من الصرامة علميًّا، ويسانده فيه
علماءٌ كثيرون.
قدَّم للكتاب الأستروفيزيائي المرموق تْرِنْ كسوان ثوآن، وقرَّظه في آخره عالم
الأعصاب دومينيك لاپلان، وعرضه عضو في «أكاديمية العلوم الأخلاقية والسياسية» في
فرنسا، هو الفيزيائي والفيلسوف الكبير برنار دِسپانيا، الذي ختم بالقول إن الكتاب
«متفرِّد».
والنتائج التي استخلصها الكتابُ نفسه من رحلته عبر المعارف هي أن العلم يبدو
مؤيِّدًا ما كان حدسًا رئيسيًّا لدى الأديان كلِّها: وجود مستوى آخر من الحقيقة
الواقعية، خارج الزمن والمكان والطاقة والمادة، وفي شكل من الأشكال، إمكان
إقامة العقل البشري علاقة مع هذا المستوى الآخر.
طبعًا، لا يقصد الكتاب بأيِّ حال من الأحوال البرهان على وجود الله، لكنه يجعل من
القول بوجوده أكثر صدقية من ذي قبل: إذ تمكَّن من حلِّ الصراعات القائمة، أو التي
قامت، بين الرؤية الدينية والرؤية العلمية للعالم. لكن ذلك يحتاج إلى ثمن: القبول
بالمعارف العلمية الأساسية وعدم نفي بعض البديهيات.
وبذلك ألا تسطِّر هذه المنهجية لنفسها «طريقًا وسطًا»، تنأى بنفسها عن القائلين
بالمادية الفظة، المكتفين بها، وعن أولئك الذين يعتقدون أن النصوص الدينية هي كتب
«علمية» تفسَّر تفسيرًا حرفيًّا؟!