الحلاج: فنان
الأساطير
وليد
قارصلي
أحزننا
موت مصطفى الحلاج (حيفا 1938 - دمشق 2002)، كما أحزن
كلَّ الذين عرفوه. من ناحيتي – والحق أقول –
وإن كنت أعرفه عن بعد في الماضي، فقد تعرَّفت
إليه عن كثب خلال السنتين الماضيتين، حين جاء
وصديقنا المشترك عاصم خليفة يقترح نشر صور لبعض
أعماله في صفحتنا الفنِّية؛ فكان في الواقع
أول فنَّان تنشر له معابر (راجع الإصدار
الثاني، باب "فن"). وكنا نفكر بكتابة
تعزية وتذكير به في الإصدار القادم من
معابر، حتى قرأتُ ما كتبه صديقنا الفنان
وليد قارصلي حول "جديد الحلاج في الفنِّ
العالمي: الملحمة الفلسفية"، فاتخذنا
قرارنا بنشر رثاء وليد ("الحلاج: فنان
الأساطير")، بالإضافة إلى نصِّه المذكور،
على صفحتنا الفنية للإصدار العاشر، لأنها من
أجمل ما كُتِبَ فيه. ثم أضفنا نص نزيه خاطر،
الجميل هو الآخر، في النهار، تعريفاً
بالحلاج وبخصوصية إبداعه.
أكرم
أنطاكي
قبل
يومين اتصل بي، وكان كلامُه كالغناء.
واستغربت اتصاله لأنه كان عندي قبل ساعات. كان
يتحدث عن تقصيره تجاهي – ولم يصادف مرة أن
عاتبتُه. وبصراحة فإني أنقبض دائماً من طريقة
كهذه في البوح، لأني أتقزَّم من خجلي، ولا أرى
ثقباً في الأرض يبتلعني.
قال
إنه الآن يمكنه ترك القبو الذي يعيش فيه. وقال
إنه الآن بدأ يتنفس بعد أن تحددتْ لدى الآخرين
قيمة مشاريعه الضخمة، وتقرر أن يذهب إلى
أمريكا بدعوة خاصة ليعرض هناك أطول لوحة في
العالم، ويسجِّلها في كتاب غينيس للأرقام
القياسية، بالإضافة لإقامة معارض في عدة مدن
هناك.
لقد
انشغلنا جميعاً بموضوع تصوير تلك اللوحة
العملاقة وتوثيقها. إنها، بالفعل، عمل جبار،
ليس فقط من حيث الحجم بل ومن حيث المحتوى
والشكل الفني.
موفق
قات اعتمد تصويرها بالفيديو؛ عماد صبري قام
بالتصوير الفوتوغرافي ليل نهار؛ وتعهدت أنا
التوضيب الكومبيوتري؛ وشارك عدد كبير آخر من
الأصدقاء في إدارة بعض أعماله اللانهائية.
كنا نشعر به والنشاط يدبُّ فيه، ويلفُّه الحب
والوطن وهاجس الإنسان.
لا
أحد يصدق... لا أحد يريد أن يصدق أنه رحل
محترقاً! ورحلتْ معه أكبرُ لوحة في العالم قبل
أن يحتويها كتاب غينيس. رحلتْ كلُّ أعماله.
وتلوَّنت روحُه بلون المحروق البني – ذلك
اللون الذي طالما خرجت لوحاتُه مصبوغةً به –
وكلُّها يصرخ: "يا وطـنـنـنـنـنـنـ...!"
اعذروني...
فإني لا أجيد هذا النوع من الكتابة. ولكننا
عمَّا قريب سنلتقي به كثيراً.
إنه
مصطفى الحلاج... فنان الأساطير...
الملحمة
الفلسفية: جديد الحلاج في الفن العالمي
وليد
قارصلي
بعد
خروجي من الصدمة وقعت في حالة من الحنق
والإحباط.
لا
أريد الحديث عن أيِّ موت – وهذا الموت أيضاً...
قد تكون الكلمات هي كلماتي، وهي هلامية
وقاسية في نفس الوقت. أجدني غاضباً أكثر منِّي
حزيناً. تقبَّلتُ الموت... ولكن لن يمنعني أحدٌ
من الحنق عليه.
كنت
أشتكي في الفترة الأخيرة من غزارة ذلك السيل
الجارف، ورغبتي في التعبير بالكلمات – لا
باللوحات – عن مئات القضايا التي كانت تقلقني.
والآن...
أشعر بخواء... لا أرى قاعاً لهذه الهوة الجشعة.
يطلبون
مني "رأيي" بفن الحلاج... وكأنه أكلة
لذيذة، تهز برأسك وأنت تأكلها, فيكتفي
الناظرون ويفهمون من لذتك في الأكل أنه ممتع!
سألتُ
مرة أستاذي الجيورجي ياشفيللي: "لماذا
تقولون إن الرسوم المصرية والرافدية عظيمة –
مع أنها مليئة بالأغلاط والتشويه والبعد عن
الواقع الأكاديمي؟!"
ضحك
أستاذي من سذاجتي وقتئذٍ، وانبرى يشرح لي كيف
توصَّل فنان العصور القديمة إلى أن يكتب ما
يريد من خلال التغيرات التي يضعها في الجسم
المرسوم. وهكذا صار يسرد القصص والحكايات
بالاعتماد على التشويه والتحوير. فالهمُّ
الأول هو إظهار الفعل أو الحالة، والتعبير
عنها بدقة. انتهى كلام أستاذي.
إن
جميع المهتمين بالفن أصبحوا يفهمون لماذا
الرأس الفرعوني جانبي، والعين داخل الوجه
الجانبي تظهر فيه مواجهةً؛ ثم لماذا يبدو
الصدر مواجهةً، بينما الساقان جانبيتان.
إنها،
باختصار شديد، اختزال (أصبح قاعدة) من أجل
النظر إلى الجسم من أكبر عدد من زوايا النظر. (ولنتذكر
أيضاً أن هذه القاعدة اقتبسها التكعيبيون بعد
آلاف السنين في بيانهم وفي فنهم.)
وكما
عند قدماء المصريين، ترى شخوص الحلاج ذات
خطوط منحوتة بثبات ومتانة، وفي نفس الوقت
تسيل حنواً ورشاقة. وبعد أن عرفنا لوحات الحفر
الشهيرة للحلاج، منذ الستينات والسبعينات،
وهو ما توقف لحظة عن البحث، وكأنه أراد أن
يعيد إلينا طقوس الرسم ويؤرِّخ لحياتنا
العصرية، كما فعلوا في العالم القديم. وحتى
إذا تجرأنا وقارنَّا بين ما نمتلكه في عالمنا
من مادة وروح، سنجده لا يختلف كثيراً عن تجوال
النفس في الماضي. ولكننا بالتأكيد امتداد لهم.
ويغوص
الحلاج أكثر فأكثر في تمازُجنا مع الحكاية
والأسطورة، بل ويؤلف كائنات خيالية لا حصر
لها، تظنها، للوهلة الأولى، من عالم ألف ليلة
وليلة. ولكن أين؟ لقد تخطَّى الحلاج فكرة ألف
ليلة وليلة في ملحمته الأخيرة – اللوحة التي
بطول 93 متراً (ذكر بعضهم أرقاماً أخرى، ولكنها
كانت أرقاماً تحكي عن مشاريع غير منفَّذة؛
فاقتضى التنويه). إن
الملحمة تلك هي عبارة عن مسيرة حشد هائل من
البشر (ومن غير البشر أيضاً) في اتجاه واحد
غالباً – والكل منهمك في الوصول، بلا تزاحم
ولا أحداث نزق أو قلق. الجميع يسيرون بهدوء
كأنهم في استعراض حتمي، وقد تداخلت أجسام
بعضهم بعضاً من شدة الزحام. لا ليست هذه هي
الفكرة الأساسية. إنها كائنات ولدت هكذا؛
والكل يرى ذلك طبيعياً: نبتتْ لهذا الجمل
غلاصم وجناحان؛ وهذا حصان له رجل دجاجة ويد
إنسان وصدر امرأة؛ وهذه السمكة
لها
أرجل كلب وعرف ديك؛ والرجل هو توأم سيامي لذئب
أو فيل؛ أما المرأة في هذه الملحمة فهي غالباً
تزهو برشاقة مصيرية وجمال لا مفرَّ منه، وكأن
العالم كلَّه يدور ويتحرك من أجل هذا الجمال.
وتعود
التظاهرة المختلطة لجميع الكائنات لتكمل
مسيرتها نحو مجهول–معلوم، وتسمع أنغاماً
أخرى غير الأنغام المرافقة لعرض اللوحة على
الفيديو، التي، برأيي، يلزمها تأليف خاص، لا
أن يُستَعان بقطع موسيقية رومانسية معروفة (من
نوع السلو)، بل صارت مبتذلة أحياناً من كثرة
تكرارها في التكسيات والمطاعم والدكاكين.
إن
هذه الكائنات الغريبة متوافقة ومنسجمة مع
عالمها وعالم الإنسان أيضاً. فلا تجد فيما
بينها استنكاراً أو دهشة من عدد الأرجل
والأيدي والرؤوس والتلاحمات – مع ملاحظة أن
الحلاج لا يستخدم الصفات المألوفة والمبتذلة
والمشهورة شعبياً عن الحيوانات ليضيفها،
مجسَّمةً، إلى الإنسان. أبداً... فهذه الفكرة
ساذجة أصلاً، بينما العمق في شخوص الحلاج
يأتي من تنوع الطبيعة اللانهائية في
الاحتمالات. (مع أن هذا
لا يمنع تشبُّه الحيوان بالإنسان واستحواذه
على صفاته، وبالعكس.)
إن
كلَّ من رأى وشاهد ونظر إلى هذه الملحمة
الفلسفية كان يعجب من الصبر والجَلَد على
تثبيت فكرة المسيرة الأبدية والتحام الإنسان
بالطبيعة، بما في ذلك الموت الذي يمر أمامنا
في كل بضعة أمتار من اللوحة. وحتى هذا الموت
يمر منسجماً بطقوسه المختلفة – مرة مع تشييع
خَشوع
لتابوت؛ ومرة لجمهرة من النادبات، المصريات
الملامح والملبس؛ بل ومرة أخرى
نرى
الميت ملفوفاً بكفن وهو يطير في مكانه من
المسيرة، لتحل محلَّه لحظاتٌ احتفالية
بمولود أو لحظة عشق بين كائنين مُبهَمي الأصل.
لن
أدَّعي أنني حفظت ما في اللوحة–الملحمة عن
ظهر قلب، وفككت رموزها، ودخلت إلى قلب وعقل
الحلاج – ذلك الإنسان اللغز والأسطورة هو
نفسه. فمن أجل هذا تلزمني مشاهدتُها خمس سنوات
متواصلة، أي نفس الزمن الذي استغرق صنعُها
الحلاج، وربما أكثر.