شـــــــاعــــر ورســـــــام
لا نعلم الى أي حقبة تاريخية تعود اولى قصص الحب المعروفة، لكننا نستطيع
الجزم ان هذا الشعور المتبادل بين الرجل والمرأة قديم قدم التجمعات
البشرية الاولى. وقد اورث هذا الحب، "الهياً" أكان ام ارضياً وعلى مر
العصور، اشعارا وطقوساً وممارسات لم تكن كلها ضمن حدود الحياء. لكن الزنى،
كان في حضارات عديدة، ممنوعا ويخضع لأحكام صارمة... حين يُكتشف امره.
في أثينا القديمة كان الحكم بالزنى ينطبق على كل علاقة خارجة على اطار
الحياة الزوجية، وليس فقط مع زوجة رجل ولكن ايضا مع الامهات والفتيات
والاخوات، المتزوجات منهن والعازبات، وحتى مع عشيقة رجل آخر. النساء
الوحيدات المسموح باقامة علاقات معهن هن المومسات. كان العقاب على فعل
الزنى شديدا وقد يصل الى الحكم بالموت على الزاني او الزانية، في حين كان
الرومان ارحم من الاغريقيين، فتهمة الزنى تنطبق فقط على الرجل حين يقيم
علاقة مع امرأة متزوجة، وتسقط عنه التهمة حين تكون الفتاة عزباء.
لكن قانونا جرى التصويت عليه بمبادرة من اوغست سمي Lex Iulia De
Adulteriis وقامت على اساسه محكمة خاصة ودائمة للنظر في هذا النوع من
"الجرائم". سمح هذا القانون بالقتل من دون محاكمة: يحق لوالد الزوجة
الزانية معاقبة المتورط مع ابنته بقتله، شرط ان يقوم ايضا بقتل ابنته، في
حال اكتشاف فعل الزنى في منزله او في منزل صهره. وهذا الاخير يمتلك حق
العقاب بالقتل اذا كان الزاني ينتمي الى طبقة اجتماعية أقل شأنا من طبقته،
وفي حال مفاجأته للزاني في بيته، لكنه لا يملك الحق في قتل زوجته، بل يُترك
الامر للسلطات لملاحقتها على اساس كونها "قوادة".هذا عن الزنى، ولكن ماذا
عن الحب وما ينجم عنه من اشعار وطقوس وممارسات جنسية ورموز مختلفة.
في بلاد ما بين النهرين
ثمة مجموعة من الشعر الايروتيكي السومري يعود تاريخها الى الالف الثالث
قبل الميلاد، ترد فيها، كموضوع رئيسي، غراميات راعي المواشي دوموزي والالهة
اينانا، ومقاطع تدور حول الغزل والزواج. وقد رأى البعض في هذه المقاطع
نوعا من الطقوس ذات الطابع الملكي، التي جرت الاستعانة بها خلال مراسيم
واحتفالات معينة.
تُفصح المرأة عن رغبتها وما تشعر به من اثارة بتعابير وتشابيه واضحة:
"فرجي، هضاب مروية جيدا، لا تحفر قناة، سأكون انا قناتك، لا تبحث عن ثلم
رطب، مهبلي سيكون ثلمك" (مقطع من شعر نانايا، ربما كانت تغنيه مومس). كانت
الاستعارات الزراعية غير منفصلة عن الوظائف الاساسية للمملكة، التي تسهر
على تأمين ازدهار الزراعة واعمال الري. ومع ان الشعر يتوجه الى الملك، وهو
هنا الملك شو سن اور، فلغة هذا الشعر اقرب الى لغة البشر العاديين: "كي
تبقى، كي تبقى، عليك ان تقسم لي، ان تبقى قريبا من المدينة، ان لا تفعل
شيئا، مع امرأة غريبة، عليك ان تقسم لي، ان تضع يدك اليمنى على فرجي، ان
تدلك رأسي بيدك اليسرى، قرب فمك من فمي، الثم شفاهي، وعندها ستقسم لي، تلك
هي طريقة النساء في حلّ عقد الاشياء، يا اخي صاحب الوجه الرقيق".وهناك
مقطوعات شعرية من فئة اخرى، اكثر واقعية، كانت تستعمل كتعاويذ طقوسية طبية
لعلاج مشاكل الضعف الجنسي. هذه المقطوعات السحرية المسماة شازيفا (الداخل
المنتصب) حفظت لنا شعرا ايروتيكيا فاضحا: "لتهب الريح، لترتجف الحديقة،
لتتجمع الغيوم، ليتدحرج المطر، لكن انتصابي نهرا فائضا، ليكن قضيبي،
المشدود كوتر قيثارة، لا يخرج منها ابدا". والتعويذة الطقوسية تقول: "ضع
ثلاث عقد على وتر القيثارة، اقرأ هذا المقطع سبع مرات، اربط الوتر الى يدها
اليمنى او اليسرى، وستعرف بعدها مدى قوته.
اما بعض المقاطع من الشعر الايروتيكي الآكادي التي عُثر عليها، فكانت
ذات طابع سادي يدعو الى علاقات جنسية عنيفة: "لقد ضربتك على رأسك، وقمت
بتخريب قواك العقلية، فلتر الامور كما اراها، ولتكن طريقتك في التفكير
كطريقتي. سوف امسك بك كما امسك اشتار بـ دوموزي، كما تمسك آلهة البيرة
بالسكير. سأقيّدك بثغري المغلق، بمهبلي الرطب، بفمي المليء باللعاب... انظر
الى نفسك وارتعش كوتر... فليلمع بريقك فوقي كملك الشمس شاماش، الاله
القمر... الكاهنات الوثنيات يفضلن الشواء، النساء المتزوجات يبغضن
ازواجهن". وكان لدى الاكاديين شعر آخر "اكثر لطفا"، مع حفاظه على الطابع
المباشر، وهو، كما الشعر السومري الذي يشتق منه، ذو علاقة بالملك ويخاطبه:
"دقات قلبك هي موسيقى مرحة، انهض كي امارس الجنس معك! بالتاج الذي يغطي
رؤوسنا، بالحلق المعلق في آذاننا، مد يدك، ضعها على اعضائي الجنسية، داعب
الثديين، ادخل، لقد فتحت ساقي".
ويبدو، في ما يتعلق بالجنس، ان سكان بلاد ما بين النهرين قد تعاطوا معظم
انواع الممارسات، من دون الوصول الى المبالغة، ومن دون تصنّع الحياء
والحشمة ايضا. والنساء الـ"ناديتو"، اي العوانس البائرات، المنذورات لإلهة
من الآلهة، لم يتمتعن بحق الانجاب ولكن في ما يتعلق بالامور الاخرى لم تكن
حياتهن الجنسية خاضعة للمراقبة او المحاسبة. اما حدود العلاقات الجنسية فقد
كانت تتحدد قياسا الى طبيعة التركيبات الاجتماعية والعائلية ونظام الملكية
وغيرها. وعلاقة الجنس بالناحية الخلقية وبالدين تتبع التنظيم نفسه، اذ كان
يتداخل معها من دون ان يزعجها او يمنعها، ومن الواضح ان المعبودين اينانا
واشتار كانا على معرفة بالممارسات الجنسية المختلفة. ومن المرجح ان
البابليين كانوا سيعتبرون الامر مسلياً لو عادوا لرؤيتنا ونحن اليوم
منهمكون في البحث عن اسرار علاقاتهم الجنسية، ولهذا السبب لم يتوان هؤلاء
من التلاعب بأعصاب هيرودوتس، حين اوحوا اليه ان كل نساء شعبهم كن مجبرات
على ممارسة الدعارة، ولو لمرة واحدة على الاقل خلال حياتهن.
في بلاد النيل
التمثيل المتكرر للعري، استعمال الاشارات الفجة وشبه البذيئة في الكتابة
الهيروغليفية، اللجوء الى التمائم التعبيرية في الطقوس واوصاف الالعاب
الالهية في الاساطير، كل هذه الامور تشير الى ان الحضارة المصرية لم تعتمد
في مواجهة الجنس موقفا مخادعا او استهجانيا. فالحيوية الفائضة والانحراف
على انواعه اللذين اشارت اليهما بعض الوثائق المعثور عليها في دير المدينة،
تقدم بعض الامثلة الواضحة على الحدود الاخلاقية والممنوعات التي نص عليها
الدين. ومهما كانت اغاني الحب في العصور الفرعونية المتأخرة ذات طابع
حميمي، فهي تصف، قبل كل شيء آخر، تبادل النظرات الاولى والانتظار المنهك
للقاء الآخر، وتراجع سيطرة العقل بالتوازي مع تصاعد الشعور بالرغبة، التي
يصبح تحقيقها صعبا، الا على مستوى التخيل والحلم.
وهناك بعض الافعال ذات المدلول الجنسي كفتح "ابواب" العشيقة، تكشف نواحي
نفسية اكثر مما تشير الى لعبة مزدوجة مقصودة ومتعمدة، وهناك ايضا اشارات
اخرى ككسر اناء فخاري، او استعمال خاص لورق البردى في تشخيص اوضاع خلاعية،
وبدقة مفرطة، تدور رحاها في حميمية المنزل او في بيت الدعارة.
كانت الشهوة الجنسية مفتاح الحياة المتجددة للنوع البشري ولسواه. ولم
يتوان المصريون عن ادخال اشارات الجنس غير المبطنة، وحتى الجامحة احيانا،
في مفاهيمهم وطقوسهم الدينية والجنائزية. والعالم الآخر، الذي هو مكان
السيطرة الذكورية كما في عالم الاحياء، يتم فيه ارضاء الرغبة الذكورية عبر
تعدد الشريكات، ويسمح منه باختطاف فتاة ما او "سرقة" الزوجات الشرعيات. وفي
الاساطير الخاصة بنشأة الكون يعتبر آتوم وري وآمون او مين آلهة الانتصاب
بامتياز، بالرغم من كونهم محكومين بارضاء رغباتهم ذاتيا، من طريق الاستمناء
في ظل وحدتهم الحتمية والأبدية.
التوازن الاخلاقي للعالم، بحسب المصريين القدماء، لا يستثني اللذة.
واليد الحرة لـ مين المرتفعة نحو السماء ترمز، بحسب الرموز الهيروغليفية
الى فعل البناء والى الاشادة بالفرح. كما ان الالهة هاتور المقيمة في حدائق
المتعة، والمستنقعات الخصبة او مغارات جيبل تؤجج، كلها، الرغبة وتسهر على
الوحدة الجسدية والشهوانية. وتحريك ورق البردى او الجُنك، وسكب المشروبات،
هي دعوة الى الحب. حب اكبر من ان تحققه حياة الاسرة العادية، التي تفترض
وجود شريك واحد فقط.
الحب والموت لدى الإيتروسك
لو عدنا الى ما خلفه شعب الايتروسك من آثار فنية في مجال التصوير لرأينا
ان الفرح الممزوج بالضوء الذي ميّز حضارات الجزر المتوسطية وخصوصا تلك
الواقعة في ارخبيل سيخلاديس حول جزيرة كريت، سيحتجب ويذبل حين نصل الى ضفاف
البحر الثيراني. واذا كانت الابحاث الحديثة التي قام بها مورو كريستوفاني
استطاعت ان تزيل بعض الضباب الذي يغلف جوانب من ثقافة الايتروسك، فان هذه
الابحاث لم تنجح في ازالة غشاء الحزن والحنين، الذي يغطي وجوه الشخصيات،
المرسومة او المنحوتة، على ايدي فنانين غير معروفين. كان ذاك الشعور
الانساني المتمحور حول الحزن والتوق الى الماضي جزءا لا يتجزأ من الحضارة
الايتروسكية.
ورغم تبجيل معنى الحياة والتعلق بها، فان الموروث الفني لهذا الشعب
يترك، غالبا، انطباعا او اشارة الى الموت الذي يختلط مع الجنس، المتمثل
بطريقة فيها الكثير من التباهي والقليل من البساطة، كأنها دلالة على حنين
الى الحياة التي تمضي بسرعة ومن دون رحمة. وفي حال اهمالنا هذا المفهوم، او
هذه النظرية، سيكون من الصعب ادراك هدف احد الفنانين المجهولين في تمثيل
مشاهد جنس جماعي بطريقة واضحة وصريحة، وذلك على جدران احد اقدم القبور ذات
الطراز الايوني، العائدة الى عام 550 قبل المسيح. وبحسب القواعد المعروفة،
او المتبعة، في العالم القديم يمكننا ملاحظة ان الشخصيات الذكورية في تلك
الرسوم تتمتع ببشرة ملونة اكثر من بشرة المرأة، اذ كان العري ذو اللون
الشاحب مميزا للأشخاص الذين لا يتعرضون لأشعة الشمس خلال العمل، ومن
الطبيعي ان تكون النساء في عداد هؤلاء الاشخاص. اما الدافع الى تزيين هذا
القبر بالرسوم فلا يزال مجهولا، وكل ما نعرفه انه سمي "قبر الثيران"، نظرا
الى وجود رسوم لمجموعات من الثيران النائمة او الراكضة على واجهته.
بعض الجداريات العائدة الى زمن الايتروسك، ويمثل بعضها نساء مغطيات
بالذهب وبالحلى، تشير الى ان هذا الشعب كان محبا للألوان الملأى بالحياة
كالاصفر والاحمر والازرق. لكن الانطباع العام الذي تتركه الجداريات
الايروتيكية التي لا تزال محفوظة في بعض الاماكن، يدل على ان الايتروسك قد
تعاملوا مع الجنس بشيء من "الفلسفة". لقد كان الفعل الجنسي ذا اعتبار
ويُنظر اليه كمسألة ضرورية، لكن هذه الضرورة تتجاوز الواقع الآني المعيش
لتصبح صلة وصل سرمدية بينه وبين العتبة التالية المتمثلة في نهاية الحياة
الارضية.