سارتر:
يندرج
تفكير "سارتر" في مسألة "الغير" ( في علاقة بالبحث عن تحديد الإنساني في
الإنسان") في إطار السياق الذي استحدثه "هيقل" و القائم على القطع مع
التصور الديكارتي الذي يؤسس للإنية كأنانة مكتفية بذاتها ومنغلقة على ذاتها
لا يكتسب في إطارها الغير غير منزلة العرض والهامش. في مقابل هذا الموقف
يذهب سارتر إلى ما سبق وحدده هيقل من اعتبار العلاقة مع الغير هي المجال
الذي يتشكل ويتحقق ضمنه الإنساني في الإنسان. فالإنسان لم يكن قط منغلق على
ذاته في وحدته المتعالية وإنما كان دائما منفتحا ومرتبطا بالغير. و بعبارة
أخرى فان تحقق "الإنساني" في الإنسان يضل مشروطا بتجاوز كل تحديد للإنساني
في إطار مفاهيم الوحدة والثبات والتعالي نحو تأصيل الانية في إطار مفاهيم
الكثرة والتعدد والاختلاف: تتجلى هذه الكثرة في التأكيد على البعد العلائقي
للوجود الإنساني.
يمثل حضور الغير ضرورة بالنسبة لسارتر بحيث لا يمكن
أن نفهم خصوصية الوجود الإنساني بمعزل عن هذا الحضور، غير أن ما يجب أن
ننتبه إليه منذ البداية أن المشكل الأصلي لدى سارتر لا يتعلق بالغير فالغير
لا يكتسب قيمة في ذاته وإنما يطرح سارتر مسألة العلاقة مع الغير في إطار
رهانه الأولي المتعلق بقيمة الحرية بما هي القيمة الدالة على فرادة وخصوصية
الوجود الإنساني على نحو كوني. فإذا ما كان الصراع الذي ينقاد إليه الأنا،
عند هيقل، هو من أجل انتزاع اعتراف الآخر بسيادة هذا الأنا وتكريس حريته
مقابل عبودية الآخر فان قيمة الحرية ، عند سارتر، هي التي تؤجج الصراع أصلا
من أجل الاحتفاظ باستقلالية الأنا.
تبرز لنا "تجربة الخجل" أن حضور
الغير هو مواز لسلب حرية الأنا إذ يحد من إمكاناتها الذاتية و حريتها
وتوازنها النفسي. ففي حالة حضور الذات قبالة ذاتها و بمعزل عن أي حضور لطرف
خارجي يكون الأنا في حالة تطابق كامل مع ذاته إذ يتصرف ويتحرك بكل تلقائية
ووفق ما يرغب فيه. غير أن حضور الغير، حين يستشعر الأنا نظرة هذا الآخر
المسلطة عليه حتى يستشعر إرباكا حقيقيا يتجلى في فقدان الأنا لعفويتها،
التي هي دليل حريتها، لتتحول حالة الرضا عن الذات و التلقائية في التصرف
إلى إحساس بالخجل والمهانة مصدره وعيه بكونه قد تحول إلى موضوع نظر أي إلى
موضع نقد وتقييم بما يعني في نهاية الأمر أن هذه الذات، التي كانت في الأصل
مركز ذاتها، قد تحولت إلى مجرد هامش وشيء من الأشياء. هذا التحول الذي
يفرضه حضور الآخر هو في حقيقة الأمر تكريس لعلاقة متبادلة بين الأنا والغير
إذ كلاهما يعمد إلى تشيئة الآخر وبالتالي موضعته.
ترجع علاقة الصراع
والموضعة والتشيئة المتبادلة بين الأنا والغير إلى علاقة الانفصال بين
الطرفين الناتجة والمتجلية في نفس الوقت في الانفصال الجسدي وما يفرضه من
استقلالية فعلية لكل أنا عن الأنا الآخر . وهكذا فان كل طرف يتبدى بالنسبة
للآخر كشيء في ذاته غير قابل للمعرفة والتواصل الحقيقي.
يدور هذا الصراع
حول "الموضعة" ، ويتجلى هذا الصراع في كوني أعمل على اختزال الآخر في صورة
موضوع للمعرفة والحكم، و بتحولي له إلى مجرد موضوع فاني أفقده بالتالي
ضرورة ومباشرة حريته وإرادته ليكون مجرد شيء. لا يمكن للأنا أن ينظر للآخر
إلا على هذا النحو أنه لو نظر الأنا للآخر على أساس كونه ذاتا فان الأنا
سيتحول هو ذاته إلى موضوع وبالتالي إلى شيء. يقوم الصراع بيت الأنا والغير
على أساس هذا الموقف المتبادل بين الأنا والغير حين يعمد كل طرف إلى تشيئة
الآخر وموضعته حتى لا يتحول الأنا ذاته إلى شيء. لذلك يكون الاعتراف بالآخر
كذات من باب التناقض والاستحالة لأنه يحيل مباشرة على افتقاد الأنا
لحريتها وهي القيمة الكونية التي يفتقد بها الكائن الإنساني خاصيته
الإنسانية إن افتقدها.
المكتسبات:
*تتأسس كونية " الإنساني" عند سارتر على قيمة الحرية كقيمة يختص بها الوجود الإنساني.
*يمثل حضور الآخر عائقا وخطرا يهدد هذه الحرية من جهة كون الآخر، كما تبرز ذلك تجربة الخجل، يعمد إلى موضعة وتشيئة الأنا.
*علاقة الأنا مع الآخر هي علاقة صراع تتجلى في الموضعة والتشيئة المتبادلة.
أسئلة تقويمية:
ما هي القيمة المؤسسة لكونية الإنساني عند سارتر.
ما هو مضمون وتبعات تجربة الخجل؟
حدد دلالة الموضعة.
* ليفيناس
لعل
أهم ما يميز تفكير ليفيناس في مسألة الغير هواجسها العملية؛ إذ لا يتعلق
الأمر بقضايا نظرية تعود على اهتمامات وانشغالات العقل ذاته ولكن يرتبط
التفكير في مسألة الغير بواقع تاريخي/ إنساني يقوم على كثير من العنف تجاه
الغير سواء باعتبار هذا الغير ثقافة أخرى أو بالأشخاص والفئات الذين دفعوا
داخل حضارتنا المعاصرة إلى زاوية الهامشيين، وبشرا من الدرجة الثانية.
يتعلق الأمر في النهاية بالنظر في منزلة الأرمل واليتيم والمعاق والمهاجر
والأقليات والمعدمين، منزلة ارتبطت بممارسة جميع أشكال الاستبعاد والإقصاء
والعنف تجاههم. تستلزم هذه الوضعية حسب ليفيناس أن نعيد التفكير في "
الإنساني" وأن نعيد تحديدا التفكير في منزلة الغير وادعاء غيريته
واستتباعات هذا الربط بين الغير والغيرية.
تستلزم هذه المراجعة، حسب
ليفيناس، أن نعيد قراءة تاريخ الفلسفة الغربية. يجد هذا الربط بين الغير
والغيرية، واستتباعاته القيمية والعملية المتمثلة في تهميش واستبعاد الغير،
أساسه في الفلسفة اليونانية ذاتها. لم تفكر الفلسفة اليونانية في الإنسان
إلا من جهة معرفية؛ أي تحديد شروط ومقتضيات تحصيل المعرفة اليقينية. على
هذا الأساس تم النظر للفرد برده للنوع الذي ينتمي إليه، وأنه لا وجود للشخص
في فرديته وإنما في ما هو عام ومشترك مع بقية الأفراد . يتعلق الأمر برفض
الكثرة واعتبارها غير ممكنة أانطولوجيا ومعرفيا وخاصة عمليا. فالمعرفة غير
ممكنة إلا ماهويا والوجود الحقيقي هو الوجود الماهوي الثابت. إن هذا النمط
التفكير الماهوي لا يمكن أن يقود إلا إلى استبعاد الغير وربطه بمجال
الغيرية ونفي إنسانيته وبالتالي تشريع العنف ضده. تثبت ملامح الحضارة
اليونانية، مدى مشروعية تأويل ليفيناس لاستتباعات الربط بين التفكير في
الإنساني ومقتضى التفكير الماهوي فالإنسان داخل هذه الحضارة تم حصره في
اليوناني الرجل الحر، ووقع تنزيل الطفل والمرأة والعبد منزلة الأشياء، ووصم
الغير يوناني بكونه بربري وغير إنسان.
لم تمثل فلسفة ديكارت، حسب
ليفيناس، قطعا حقيقيا مع هذا التصور للإنساني وإنما هي استمرار لاستبعاد
الغير وإقصائه من مجال "الإنساني" وربطه بالغيرية. فالأنا الديكارتي القائم
بذاته والمكتف بها لتحقيق إنيته من جهة، ومبدأ الحرية المطلقة الذي يقوم
عليه وجوده من جهة ثانية، يجعل منه "إمبراطورية مغلقة". ليس الغير، بذلك،
غير موضوع ومجال للاستكشاف والمعرفة والهيمنة؛ وجوده كما حقيقته تخضعان
بشكل مطلق لإرادة الأنا وما تقرره الذات حولها. تتقوم كامل الحضارة الغربية
الحديثة والمعاصرة في إطار هذا السياق الذي خطه ديكارت: أولوية الأنا
وحريتها المطلقة، التي لا يمكن أن تؤدي في نهاية الأمر إلا إلى حرية
الهيمنة والتسلط على الغير.
رغم أهمية النقد الذي وجهه ليفيناس لذاتية
ديكارت المتعالية، ومسلمة الحرية التي يقوم عليها موقفه، فانه يعتبر هذه
اللحظة لحظة هامة من جهة تأسيسها لمفهوم الذات، تأسيسا سمح بالقطع مع منطق
الانطولوجيا الذي يتعقل الوجود كوحدة كلية، ليس هناك من حضور في إطارها
لغير النوع، وتغييب كامل لحضور الأنا الفردي. غير أن اكتشاف الذات وفصلها
عن كلية الوجود وتمييزها عن الآخر لم يسمح في هذه المرحلة بالتفكير في
الغير بما أن هذه الذات لا تحتاج لهذا الغير في تعيين إنيتها، إنها مكتفية
بذاتها. ولكي يكون من الممكن فعليا التفكير في علاقة الأنا بالغير لا بد من
إعادة النظر في الأساس، ذاته، الذي قاد لاكتشاف الذات، أي تجاوز الربط بين
تأسيس الذات ومطلب اليقين/ المعرفة؛ إن الذات هي كائن حي قبل أن تكون كائن
المعرفة؛ إنه يوجد داخل العالم، وانه من خلال اللغة ينفتح على الغير الذي
هو ذاته ليس مجرد موضوع للمعرفة وإنما كائن حي.
تتمثل جدة مشروع ليفيناس
في هذا التحول الذي فرضه على الفلسفة، والطريقة التي اعتادت أن تفكر من
خلالها، أي أن لا يكون التفكير في الوجود والمعرفة هما اللذان يقودان
للتفكير في المسألة الأخلاقية، وإنما الانطلاق من الأخلاق ذاتها كمبدأ أول
لكل فعل فلسفي. يتعلق الأمر إذن بالإتيقا باعتبارها المجال الذي يجب أن
تقارب داخله مسألة الذات بما أن هذا المجال تحديدا هو الذي يجعل من تفكير
علاقة الذات بالغير مباشرا وصريحا. بقدر ما يحضر مفهوم الذات داخل فلسفة
ليفيناس، في تواصل مع التقليد الذي دشنه ديكارت، وكرسته فيما بعد
الفينومولوجيا، فان دلالة الذات والمجال الإشكالي الذي سيتم مقاربة المفهوم
داخله يكاد يكون مستحدثا تماما، وهو ما يكسب أطروحة ليفيناس طرافتها.
يتمثل
مشروع ليفيناس في دحض وتجاوز الأشكال المختلفة التي تعودت الفلسفة من
خلالها النظر إلى الغير، باعتبار أن هذه الأشكال من العلاقة التي تعودت
الفلسفة أن تنظر من خلالها للغير هي التي كرست كل أشكال العنف ضده، فهي
نظرت إليه إما باعتباره:
- موضوعا للمعرفة وهو ما يدفع الذات إلى محاولة
اختزال الغير في معطيات محددة تتناسب وانتظارات الذات بما يجعل من الذات
قادرة على استيعاب الغير في بنيتها الخاصة بحيث تكون كل معرفة تملك. وجعل
الذات موضوعا للمعرفة هو في نهاية الأمر سعي لامتلاكه.
- أو تشكيل
العلاقة معه انطلاقا من مبدأ الحاجة بحيث يكون الغير موضوعا لاستكمال نقص
داخل الذات. بذلك لا يكون حب الآخر حبا يتعلق بالآخر في ذاته وإنما اهتمام
من الآخر انطلاقا من البحث على إشباع حاجاتي الخاصة، تكون العلاقة مع الغير
مبنية في هذه الحالة على أنانية مطلقة للذات لا ترى في الغير إلا ما يشبع
حاجاتها و بغض النظر عما يكون عليه الغير فعليا. وبالتالي يتنزل الغير
منزلة الأداة و الوسيلة.
- الوجه الثالث للعلاقة الممكنة بين الذات
والغير هي تلك العلاقة القائمة على إرادة الهيمنة والتسلط حيث تسعى الذات
لبسط هيمنتها وإرادتها على الغير ولا ترى فيه بالتالي ندا لها وإنما فقط
موضوعا لسلطتها إن العلاقة مع الغير لا يمكن تأسيسها انطلاقا لا من مبدأ
المعرفة(تحويل الغير لموضوع للمعرفة ومن ثمة للتملك) ولا على أساس الحاجة(
تحويل الآخر إلى مجرد وسيلة و أداة لإشباع حاجات الذات) ولا انطلاقا من
إرادة الهيمنة( تحويل الغير لموضوع للهيمنة والتسلط).
مقابل هذه الأشكال
من العلاقة التي يفضي لها التصور التقليدي للذات بداية من ديكارت ووصولا
إلى الفينمولوجيا سعى ليفيناس إلى تأسيس شكل آخر من العلاقة. تبرز هذه
الجدة كما أسلفنا في إعادة تشكيل مفهوم الذات ذاته، وتأسيسه داخل سياق
الايتيقا وهو ما يعني النظر للذات لا ككائن متعالي منغلق على ذاته ومكتف
بها وإنما باعتبار الذات "ذات مضيافة"« le sujet est un hôte ». تفهم
الضيافة انطلاقا من تصور مخصوص للذات في علاقتها بالغير. يقوم هذا التصور
على اعتبار حقيقة الغير مرتبطة بالضعف والهشاشة من جهة، و أنه من مسؤولية
الذات مساعدة الغير من جهة ثانية. يمثل هذا التحول في ربط حقيقة الذات
بالمسؤولية، عوض الحرية، نقطة ارتكاز ليفيناس في مقاربة علاقة الذات مع
الغير.
يحيلنا مبدأ المسؤولية تجاه الغير في فلسفة ليفيناس إلى مفهوم
مركزي داخل نسقه ألا وهو مفهوم "تجربة الوجه". ما يجب الانتباه إليه بداية
أن ما يقصده ليفيناس بالوجه هو كل جزء من البدن يتجلى فيه الضعف ويمكن أن
يوجه ضده العنف. إن اللقاء بالآخر يتم بتوسط الوجه؛ النظر في وجه الآخر
وليس في عينيه هو الذي يشعرنا بالمسؤولية تجاه هذا الوجه العاري والمعرض
لكل أشكال العنف وخاصة القتل. فالوجه ذاته وبقدر ما يجعله العري معرض للقتل
فان هذا الوجه في عريه، الدال على ضعفه، ما يجعل من القتل ممنوعا و غير
مقبول. تتجلى هذه المسؤولية تجاه الغير في أبسط مظاهرها في ما تستشعره
الذات من ضرورة تبادل الحديث مع الغير والتوجه إليه بالكلام ولو كان ذلك
بشكل مصطنع وتعلق فقط بمواضيع تبدو تافهة كالسؤال عن أحوال .
تتقوم
العلاقة مع الغير إذن على أساس هذا الإحساس بالمسؤولية تجاه الغير، إحساس
يجعل من كل إمكان لتملكه أو الهيمنة عليه غير مشروع. وبالتالي فما يحاول
ليفيناس تأسيسه هو تأسيس لاستشكال العلاقة مع الغير داخل الايتيقا وليس
داخل المعرفة، وانطلاقا من مقتضيات الإحساس بالمسؤولية تجاه الغير وليس
اندفاعا تحت تأثير الاعتقاد في حرية الذات.
المكتسبات:
*يمثل مشكل العنف كممارسة تاريخية موجهة ضد الآخر حافز التفكير في مسألة الغير عند ليفيناس.
*يجد
هذا العنف ضد الآخر، حسب ليفيناس أساسه في منطلقات الفلسفة اليونانية حين
جعلت من البحث في الماهية أساس نظرها. إن كل تحديد ماهوي يفترض ضرورة
استبعاد وإقصاء غير الماهية التي تم تعيينها.
* مثلت فلسفة ديكارت التي كرست مفهوم الذاتية إقصاء الغير واستبعاده حين جعلت من الحرية، أي حرية الذات، مسلمتها الأساسية
*
يستلزم تحقيق الإنساني على وجه كوني تأسيس مفهوم الذات لا على أساس مفهوم
الحرية وإنما على أساس مبدأ وقيمة المسؤولية التي تفرض على الذات مسؤولية
أخلاقية تجاه الآخر تمنع كل إقصاء أو ممارسة للعنف ضده.
أسئلة تقويمية:
كيف يمثل التحديد الماهوي للإنسان تكريسا للعنف والإقصاء ضد الآخر؟
ما هي استتباعات ربط الذات بقيمة الحرية؟
على أية قيمة يجب تأسيس مفهوم الذات حسب ليفيناس؟
كيف يمكن لقيمة المسؤولية أن تكون قيمة كونية مؤسسة "للإنساني"؟
الأحد أكتوبر 28, 2012 3:30 pm من طرف ماردة