** متابعات ثقافية متميزة ** Blogs al ssadh
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.

** متابعات ثقافية متميزة ** Blogs al ssadh

موقع للمتابعة الثقافية العامة
 
الرئيسيةالأحداثالمنشوراتأحدث الصورالتسجيلدخول



مدونات الصدح ترحب بكم وتتمنى لك جولة ممتازة

وتدعوكم الى دعمها بالتسجيل والمشاركة

عدد زوار مدونات الصدح

إرسال موضوع جديد   إرسال مساهمة في موضوع
 

 نهضة أخطأت الحداثة

اذهب الى الأسفل 
كاتب الموضوعرسالة
هذا الكتاب
فريق العمـــــل *****
هذا الكتاب


عدد الرسائل : 1296

الموقع : لب الكلمة
تاريخ التسجيل : 16/06/2009
وســــــــــام النشــــــــــــــاط : 3

نهضة أخطأت الحداثة Empty
27092012
مُساهمةنهضة أخطأت الحداثة

نهضة أخطأت الحداثة

عانى الفكر النهضوي
العربي من إشكالية بنيوية كانت تغيب ملامحها عن رؤية أكثر المشتغلين على
مفاهيم التخلف والتحديث، عبر أجيال من القرنين الأخيرين. فلم يكن ثمة تنبه
واضح للفصل بين النهضوي والسياسوي الراهن. بما يعني أن أسئلة النهضة قلَّما
كانت متميزة عن الظروف الآنية المحيطة بها، ومن أهمها ولا شك ضغوط
التحديات السياسية التي كانت غالباً ما توصف بكونها تحديات مصيرية، تتعدى
الهمَّ الفكري الخالص، كيما تتناول وجود الأمة واستمراريتها عينها. وهو أمر
يكاد يكون مألوفاً ومفهوماً بالنسبة لأمة واقعة دائماً تحت تسلط القوى
الأجنبية ذات التميز بعوامل التفوق الحضاري التي حُرمت منها هي لأسباب
عديدة، وطيلة عصور مغرقة في القدم. فكان الوعي النهضوي مشدوداً دائماً على
وتيرة وحيدة. يحتلها عنف المضاهاة بين الذات والآخر. إنه ذلك العنف الذي
يغذي سيكلوجية الإضطهاد الجمعي تحت وطأة الشعور بالدونية المسلوبة الارادة،
إزاء طغيان الآخر ليس بأدوات سيطرته المادية المباشرة فقط، ولكن كذلك
بأسرار الشخصية الحضارية المعقدة والغامضة، القائمة وراءها – هذه العلاقة
الضدية بين الذات والآخر تحكمت في تأسيس الدوافع الأولى للحراك العام
الموصوف بالاجتماعي. الأمر الذي أعاق نشأة الفكر بما يرجع أولاً لذاته.
فكان انشغال النخبة الثقافية بابتكار الحلول الآنية لتراكم المشكلات العامة
الراهنة والطارئة، يجعل النهضة في منأى عن طرح الأسئلة الأساسية، المتعلقة
بالعقل العربي نفسه الذي يسعى إلى فهم الواقع والتعامل معه. وفي حين تقع
المتغيرات الموضوعية من سياسة واقتصادية وحتى العسكرية من حول الإنسان
العربي، إلا أن طريقة وَعْيهِ لها تظل في منأى عن مساءلتها لأجهزتها
المعرفية، وقد راحت تمارس عاداتها الذهنية التقليدية، خاضعةً لذات المعايير
التي يتبناها الفهم الجمعي التقليدي لأشياء العالم من حوله. ما يمكن
التعبير عنه فلسفياً بالقول إن الحالة اللامعرفية، أو ما قبل المعرفية
تتابع طغيانها على الحالة المعرفية البعدية اللاحقة بها. ومؤداه أنه إذا
كان العقل يرى إلى العالم من خلال منظار أسود، فسوف يستمر في رؤيته مظلماً،
وإن كانت تجتاح العالمَ عواصفُ الأنواء والأضواء من كل جهة. إن فهم العالم
لا بد أن يكون عالمياً كونياً من طبيعة موضوعه، بينما ينوء الوعي العربي
تحت وطأة ظروفه الخاصة.

هكذا كانت ثنائية
الذات والآخر التي تحكمت في مسيرة النهضة، تفجّر مراحل جدليتها التاريخية
عبر معارك عقيمة لا طائل تحتها، ما دامت لا تستطيع أن تتعامل مع الآخر إلا
بذات أنظمتها المعرفية التي تتعامل بها مع نفسها وتدير شؤونها بحسبها.
فراحت كل حقبة في تاريخانية النهضة تعيد إنتاج حصائل عين الحقبة التي
سبقتها. ذلك أن الفكر النهضوي كان معاقاً باستمرار، سواءً اتجه إلى تفكيك
عِقَدِ الذات والكشف عن آليات تكوينها، أو اتجه نحو فهم الآخر في محاولة
لتخطي ممارساته الضدية، وصولاً إلى سبْر جذور تفوقه. فالأسئلة المعرفية
معطلة تحت وطأة البحث عن وسائل الدفاع الآنية لدى الذات للرد على تحديات
الآخر الذي غالباً ما يملأ الفضاء العربي بالمعارك الحدية خلال غزواته
الاستعمارية أو هجوماته الحضارية المتواصلة. من هنا كان وقوع الوعي النهضوي
تحت وطأة إشكالية التقليد وتظاهرات المماثلة، وحالات التماهي مع الآخر
والردّ عليها بالرفض الحدّي تارة، أو تجاهل إشكالية العلاقة أصلاً،
والاعتراف العاجز بخطرها تارة أخرى، ما يشكّل سيكلوجية معقدة متراكبة،
مانعةً مقدماً، للبحث عن أي عملية تجسيرِ تواصلية سليمة بين نشوء وتكون
أسئلة الذات عبر الآخر، وبين عملية اكتساب وتنمية الأجوية التي تخصّ الذات
وحدها باستقلال أنطولوجي عن عنف الثنائية الصراعية عينها بين القطبين؛ بحيث
أن غياب العقل المعرفي أعاق دائماً ولادة الأسئلة الجذرية، مانعاً خاصة
سؤال الكشف عن أصول التقدم وشروطه، كما لو أنها لا تنبع من ظروف الأمة
القومية، وإمكانيات مجتمعاتها الراهنة خاصتها. فجدلية المثاقفة كانت ممتنعة
عن التحقق التلقائي. وكان البديل الدائم عنها هو سهولة التقليد. إذ إن
المثاقفة تتطلب إمكانية التبادل.

في حين أن المجتمع
المحجوز في أسار تأخره التاريخي عندما يُفاجأ بكل فعاليات الآخر المتقدم
عليه في كل شيء، لا تسمح له صدمة المفاجأة المستمرة أن يتجاوز عتبة رد
الفعل الغريزي، المتمثل في الاندفاع وراء جاذبية التقليد المباشر، القائم
فقط على فعل الأخذ من الآخر، دون القدرة على إعطائه له ولذاته معاً، ما
يقابله. فالتقليد هو أخذ بدون كشف للذات، لحاجاتها الأصلية، ولا معرفة
بجوهر الآخر، بينما لا تولد المثاقفة إلا من جدلية الأخذ والعطاء معاً.
فالهوة قاطعة بين الموقفين: التقليد والمثاقفة. وقد يتمادى الأول حتى
التغلغل في نسيج الثاني. وكثيراً ما تكون علّة تعثر الفعل النهضوي ناجمة عن
ممارسة المثاقفة كامتداد لآليات التقليد عينها، ولكن عبر التباساتها
بمظاهر التقدم الزائفة.

في حقبة الانبهار
الأول باكتشاف الغرب، سيطرت ثنائية أوروبا والشرق على بدايات الفكر
النهضوي. فاحتلت أوروبا موقع النموذج الذي يفرض على الآخر أفعال المضاهاة
بين أحواله المتردية ومزايا النموذج الطاغي. والمضاهاة لم تكن تخرج عن
المقارنة بين مظاهر القطبين، لا بهدف تفكيك عوامل كل منهما، بقدر ما كانت
المقارنة مشفوعة بإطلاق أحكام القيم من تحبيذ وتعظيم للآخر أو للذات، أو من
رفض وتسفيه للمعتقدات والمسالك العامة والفردية. كانت الدوافع نحو
المماثلة إلى درجة التماهي مع النموذج المتفوق تعمّق من جهةٍ الشعورَ
بدونية الذات، ومن جهة أخرى تحرّض على الممانعة والمدافعة بتطوير نزعات
الرفض والاستعلاء المعاكس، والتقهقر نحو جنائن الماضي المفقودة. وفي مثل
هذه الظروف البائسة من الانغمار تحت موجات أحكام القيم الصادرة مرة بحق
الآخر، ومرة أخرى بحق الذات، ما كان مقدراً للفكر النقدي أن يولد، أو يستقل
عن سلطة المضاهاة الفورية وأفخاخها المعرفية الزائفة.

إن السؤال المعرفي
الذي طرحه فكر النهضة عن سبب تفوق الغرب (المسيحي) وتأخر الشرق المسلم، لا
يزال معلقاً في الفراغ. ولم تأت الأجوبة عليه، وبدءاً من رواده أنفسهم
الذين أعلنوه(1)،
باكتشافات فكرية أو بنيوية واقعية إلا من خلال سيطرة لثنائية جديدة، ذات
رنة بلاغية. وهي الأصالة والحداثة، وتناظر ثنائية الذات والآخر. فتغدو
الذات محلاً مرجعياً للأصالة، ويظل الآخر مالكاً حصرياً للحداثة، وموزّعاً
لحِصَصٍ منها على بقية العالم. وبذلك فات الوعيَ النهضويّ، في مختلف
حقباته. طرْحُ إشكالية الحداثة من أصولها الوجودية (الأنطولوجية)، تحت وطأة
طغيان التقييم المعياري الذي يمارسه الفرز الاحتكاري لمصطلحيْ الأصالة
والحداثة؛ وذلك كلما لاحت في منعطفات الحدث التاريخي، ملامحُ موضوعية
لثقافة التأسيس في المختلف وضرورتها المطلقة الحيوية
بالنسبة لتحولات المصير العام، كما تَتَبيّنه النّخبُ الفكرية، من أزمة
كارثية إلى أخرى. فكيف يمكن الكلام عن الحداثة بدون عقل حداثوي، يكتفي
بوظيفة التقاط أقانيم وطقوس وشعارات تتداول أشباه الأفاهيم الشائعة عن
التقدم والتغيير، دون أن يكون العقل هو نفسه مُنْتجَ الأفكار التي تغيره،
قبل أن يكون متلقياً لأفكار سواه.

الواضح إن إشكالية
الحداثة، ترجع أساساً إلى اشكالية العقل التي لم تطرح لدى مفكري النهضة
عامة إلا من خلال ما ينبغي تبنيّه سواء من الأفكار أو المذاهب وصولاً إلى
الأيديولوجيات وعصرها، أو ما لا ينبغي الأخذ به. لم يجرِ التنبّه إلى
المبدأ القائل أن العقل الحداثوي هو ما ينبغي أن يكون أولاً موضوعَ
استفهامه البدئي لذاته عبر مختلف إنتاجاته. فقد اقتصر التعامل مع العقل
بصورة عامة، وليس الموصوف بالحداثوي بَعدُ، كما لو كان جهازَ اختيارٍ
وانتقاد للأفكار الجاهزة التي يلتقطها من لدن متحفيْن أحدهما لبضائع الغرب،
والآخر لمأثورات التراث. فبعد إفلاس كل جيل من طوائف هذه الاستعارات، يعود
العقل إلى اكتشاف غربته الأولى إزاء كل ما كان استعاره من بضائع الآخرين
وألصقه بكيانه، كما لو كان من صنعه ومن علاماته. لكنه سرعان ما يغطي غربته
السابقة باستعارة أدلجات أخرى من خارجه. إنه التفكير في المنظومات الفكرية
كبدائل عن بعضها؛ وهي المطروحة في سوق التداول السياسي عبر موجاته
المتتالية، دون التفكير في عملة المفاهيم المؤسسة لهذه المنظومات.

من هنا، لا يكشف
تاريخ الأفكار النهضوية عن حركة نمو أو تطور في مسيرة وعي متكامل بقدر ما
تبرز المشاهد الثقافية عبر نقلات بين أنظمة ذات صياغة شعارية تداولية تلبي
حاجات استهوائية لدى جمهور معين، أكثر منها فكرية، تلبي حاجات آنية مرتبطة
بمتغيرات الظروف العامة المحيطة بالمجتمعات خلال مرحلة الاستعمار، وبما جاء
بعدها من مرحلة الاستقلالات الوطنية وبناء الدولة الحديثة. فقد تغلبت على
هذه المسيرة آلية استعارة حلول وأجوبة لمشكلات الآخر الغربي على أنها حلول
صالحة لمشكلات الذات. بمعنى أن التفاعل مع الآخر، لم يولد تفاعلَ الذات مع
إنتاجاتها. لم يحدث أن حاولت الذاتُ التعرفَ إلى نفسها، والكشف عن بنيتها،
إلا من خلال ما كانت تلتقطه صُدفةً من بيانات الآخر عن أحواله الخاصة به.
فكانت هناك عمليات من استعارة إشكاليات الآخر الظاهرة، وإلصاقها بالذات؛
ويحدث هذا في كل منعطف، كان يمكن أن يولد فيه النقدُ من مسبباته الخاصة
العائدة إلى معاناة النُخَب، واستشعار الظروف المحيطة بخواصها وعلاماتها
الفارقة؛ لكن تتجدد سلطة الالتباس مع أشباهها الناتئة لدى النموذج الغربي
المسيطر. فلا تنمو ثمة وظيفة حقيقية للنقد. فهو لن يتعرف إلى أدواته، ولن
يثير نقاشات واعية حول مناهجه، في الوقت الذي يفشل في اكتشاف موضوعاته كما
هي. وبالتالي عندما تضيع لحظة النقد الذاتي من زمن النهضة، يغدو من العسير
أن تتقوّم العناصر التاريخية بموضوعية قد تؤدي إلى انبناء أُقنوم واضح
ومستقل لمفهوم الحداثة. وعندئذ يخبط التغيير خبط عشواء عاجزاً عن تشكيل أية
مُراكمةٍ لإنجازات متكاملة في بنية المجتمع. ويغدو الحراكُ العام مجرّدَ
انتقالاتٍ بين بدائل لفظوية خالصة، تقذف بها التحولات السياسية وما يرافقها
من شعارات مؤدلجة، تهبُّ من العالم الآخر، حيثما كلُّ متغيراته إنما تسير
وفق تكامل عضوي بين وقائعه العامة وأفكاره القائدة والموجهة. في حين يبقى
الوعي الثقافي العربي عقيماً من كل تأثير في الذهنية المتوارثة للجماهير
الواسعة، والراكدة ركودَها اللازمني تحت مويجات العواصف الأيديولوجية التي
تتدافع على سطحها، ويمسح بعضُها الجديد اللامع بعضَها الآخر القديم العابر
أصلاً.

لا يصّح الحديث عن صدمة
حقيقية للحداثة في الوقت الذي عجزت ثقافة النهضة، وفي أعلى مستويات نضجها
النسبي، خاصة خلال حقبة الاستقلالات الوطنية، عن فرض الاستشعار بضرورة طرح
لإشكالية العقل، متخطيةً حالاتِ الغرق الدائمة في تداول المذهبيات
السياسوية، ومتوجهة رأساً إلى تعرية العقل نفسه والحفر، حتى عمق نظام
أنظمته المعرفية. فلقد اكتفت ثقافة النهضة باستخدام العقل كأدوات تعليل
وتسويغ لما ينبغي عليه أن يتبنى من الأفكار والمذاهب والأيديولوجيات. وما
لا ينبغي له الأخذ به من تلك الأنساق الفكروية المعروضة والواردة غالباً
كأطياف صاعدة أو هابطة على هوامش الحركات والتيارات السياسية. لم تدق بعدُ
ساعةُ النقد الجذرية المستقلة في الزمن النهضوي المتعثر. لقد بقي نظام
الأنظمة المعرفية المتوارث لا شعورياً، مسيطراً كلياً على عمليات الفهم
الحاضرة بين التبني أو الرفض للأفكار والمذاهب الجاهزة. كأن ثمة كأساً
تمتلئ بسوائل ذات ألوان مختلفة متغيرة. لكن تظل الكأس هي عينها ناجية من أي
تغيير تستعيره من محتوياتها. فالحداثة ليست في الأفكار بقدر ما هي في الآلة الصانعة للأفكار. ومثل هذه البداهة لم تتوصل إلى كشفها أية طُفرة أيديولوجية أو سياسوية ادّعت تجديداً للبنى الثقافوية المسيطرة.

تحت وطأة مضاهاة
الذات المستضعفة بالآخر المستقوي بتفوقه والمداهم، لم يكن ثمة فسحة معرفية
تتيح للعقل أن يغدو موضوعاً مركزياً لاستفهامه لذاته أولاً.
وبالتالي مثلما تجاهلت النهضةُ طرْحَ إشكالية العقل العربي كاستفهام لذاته
أولاً، كذلك لم تأتها لحظةُ وعي، تدفعها إلى استطلاع العقل الغربي نفسه،
وطريقة تعامله مع إمكاناته. فاقتصرت أفعال النقد على إنتاج حلقات متوالية
من ثقافة المضاهاة، التي منعت في المحصلة تحقّق تلك القفزة النادرة ما فوق
توالي تمسرحات المشاكلة وحدها، إلى الفعل المثاقِف، الذي من شأنه أن يكسر
من حدية التقابل بين قطبي الثنائية: الشرق / الغرب. لم تكن تلك الثنائية
قادرة على إنتاج أية جدلية معرفية بين قطبيها. فالمشاكلة تحبس التقابل في
مرتبة التضاد العقيم، الذي بدوره يؤدي إلى الموقفين التقليديين: إما
التسليم بطغيان الآخر والتماهي معه إلى درجة الانمحاء، وإما رفضه ومضاعفة
التماهي مع الذات في موروثها المعهود خارج كل لحظة تاريخية راهنة. ما يجعل
العقل عاجزاً عن إعادة تأسيس ذاته اختلافياً في آن واحد، عن كل من الموروث
المكرور أو المجلوب المستعار، إِثر كل دورة أيديولوجية مستنفذة.

هذا العجز لا يصدر
فقط عن ممانعة الظروف واشتداد قهرها الشامل والمتنوع للفرد المتخلف،
ومبادراته المستقلة، بل آتية كذلك، وفي أهم أسبابها، من فشل العقل نفسه في
الإقرار بعقم أُوّاليته ذاتها، المحتكِرة لفعاليته النقدية، والمتمثلة في
التشرد الصدفوي، والتنقل بين الأنظمة المعرفية كبدائل عن بعضها دون الفوز
بتلك القفزة النوعية والاستثنائية خارج مسلسل البدائل، واكتشاف قانونها
الأساسي والكلي: وهو نظام أنظمتها المعرفية، وذلك بالتصدي له وتفكيك ألغازه
المستورة والمتوارية دائماً وراء تلك النقلات العبثية.

إنه العصر التنويري
الذي لم تَلِدْه أبداً أزمانٌ التغيير الفكروي السياسوي، ولا تمكّنت مرة من
صناعة البوصلة المشيرة إلى ملامحه المستحيلة. وما يمكن تسجيله في المحصلة
البائسة للمشروع النهضوي ككل، التي تتنوع تسمياته دون أن تتحرر من خطاباته
الأحادية، هو أن الخطر الحقيقي المداهم الذي ينبغي وصفه بالخطر الحضاري،
بات يُحدِق بإرادة التغيير نفسها ولا ينجم عن استعصاء موانعها الخارجية
فحسب، فلم يبدّد أو يفقد المشروعُ النهضوي عصرَه التنويري وحده فقط، بل
يكاد يفقد الشعور بهذا الفقدان نفسه.

ماذا يعني التغيير بدون التنوير؟

لا يمكن القول إن
ثقافة النهضة قد طورت أفكاراً مترابطة أو واضحة تتعلق ببناء خطاب متماسك
على الأقل في ناحية الاستشعار الأولي بإشكالية القضية، ومن ثم العمل على
توصيف ظاهراتها، واقتراح مناهج معينة لمقاربتها. فكانت الأحزاب الموصوفة
بالعقائدية هي السباقة في تشكيل طروحات فكروية معينة، تدَّعي إعطاء المعادل
الثقافي لإشكاليات الواقع ووسائل إصلاحه. ذلك أن استشعار التغيير كضرورة
حياتية ملحَّة، ألّف القاسم المشترك لمختلف التيارات السياسية التي تستوحي
معايير ومُثلاً معينة تضاهي بها صورة إجمالية تمَّ الاصطلاحَ عليها تحت لفظ
التخلف.

لقد جرى اعتبار
ثنائية النهضة / التخلف كما لو كانت حقيقة أولية مفروغ منها. فهي التي كان
من المفترض أن يجرى التعامل معها على أنها محورية مركزية تدور حولها بقية
ظواهر الإشكالية المطروحة. لكنما قد حدث العكس، إذ تُنتزع ظاهرة ما، ويُعمل
على تضخيمها حتى تستوعب كلية الإشكالية. فكانت الفكرويات السياسوية هي
الأسرع غالباً إلى اقتناص ساحة التجربة التاريخية، وقد تجرّ معها ووراءها
مختزلات عن مراجع نظرية عامة؛ ثم ترفعها حولها كأسوار حصينة، قائمة على
مبدأ اللسان الواحد الناطق دائماً باسم الحقيقة.

تلك هي حالة استيلاء
الأدلوجي على الخطاب النهضوي. وما يعنيه الأدلوجي في الاستعمالات اليومية
ليس اكتشاف الواقعي بقدر ما هو التمسك بالأحكام المسبقة التي تطلق على
الواقعي. وهذه الأحكام ترتكز إلى مانوية منطقية، صيغتها: إما / أو. هنالك
الحكم بالصواب أو الحكم بالخطأ. لكن كلا الحكمين يجسدان سيطرة سلطة معرفية
تحتمل الحقيقة وسواها في آن. الخطاب النهضوي لم يتح له أن يرى الواقع. كان
مشحوناً دائماً بالأحكام القاطعة سلباً أو إيجاباً. وبالتالي فالجدليات
الدائرة بين تيارات الأدلجة منشغلةٌ دائماً بشن حروب لفظيات ضد لفظيات، مع
تغييب للواقع، إرادوي أو لا شعوري، وتجهيلٍ أميّ أو تبسيطي بأولويات نصوصه.

خلال العقود الخمسة
أو الستة الماضية التي تشكل الإطار الزمني لحقبة النهضة الثانية، عَبَرَت
مسارح الحياة العامة قافلةٌ من مجاميع أفكار ترافق أحداثاً مفصلية، خاصة في
المجالين السياسي والعسكري، خلال هذه الحقبة الغاصة بمثل هذه الحدثيات،
فكروياً وسياسوياً، كان هناك واقع آخر تعيشه قواعد المجتمعات بصورته الآلية
المتوارثة. واقع لا تكاد تحسّ به أحداثُ السطح اليومية. كما لو كان هذا
الواقع يمتّ إلى عالم آخر، لا علاقة له بالمتداولات اللفظوية التي تتناوب
على اختراعها دفعات أقلوية من النخب الصاعدة، ثم تلصقها بسطوح هذا الواقع.
ما يصير إليه مصطلح الخطاب السياسي السائد هو كونه نتاجاً لفظوياً يدَّعي
مرجعيته العقلانية في نصَّه عينه. مهمتُه الأولى لدى المتلقين، ألا يأتي
بحقائق أو معارف جديدة بقدر ما يعمل على تأكيد معتقدات راسخة في عمق
اللاوعي الجمعي، وإعادة انتشالها وتفعيلها في شبكيات التداول اليومي. وإذا
كان ثمة انبعاثٌ مدني حقيقي ضداً على حقبة جديدة، من الانحطاط الموروث،
التي شرعت تنوخ بكلكلها ثانية على عاتق النهضة العربية الثانية المعاصرة،
فهذا الانبعاث سيكون شرطُه الأول مُرتهناً بالكيفية التي سيتمكن بموجبها
المجتمع من إعادة تكوين إرادة أخرى مختلفة للتغيير، متحركة هذه المرة، تحت
طائلة معايير التنوير وحدها. وفي اللحظة الراهنة يفرض التنوير نفسه سياسياً
مصيرياً. إنه التحدي المركزي الذي تتواجه حوله مختلف التيارات الناشطة
أيديولوجياً، لكن دون الإقرار به، أو الاعتراف الصريح بضرورته الحاسمة.
هناك تنويريون في الفصائل الاسلاموية، وآخرون في اليساريات العلمانية
والقومية. لكنهم أشبه بطلائع مكتومين متناثرين ما وراء واجهات تنظيماتهم
وشعاراتها المتداولة. فإذا كان ثمة أرضٌ مشتركة لتلاقٍ موضوعي تاريخي ما
بين هذه الزمر، الطليعية بمعنى مغاير لهذا التصنيف المستهلك، وما فوق
تنظيماتها المتعثرة، فإن أرض اللقاء الجامعة هي مساحة التنوير الشاسعة التي
لا تلزم روادها بشكليات التحزّب، ولا الانصياع الآلى لأوامر الانتماءات
الجاهزة وضوابطها. الالتزام الوحيد المطروح في فضاء التنوير هي السياحة
الحرة بين أرجائه؛ ومحاولة اكتشاف رموزه التاريخية لتجارب الأمم الحية،
التي تصير مآثر إنسانية؛ ولكن ليس للانقياد بنماذجها الجاهزة، والمتوارثة
من يقظة حضارية إلى أخرى للأمم الناهضة، بقدر ما هي دافعة لأن يكون لكل
مجتمعٍ طريقُه الخاص إلى تنوير ذاته بذاته. فالشموع قد تُستعاد، ولكن كل
قلم يكتب نصه الخاص تحت ضوء شمعته.

لكل تنوير رواده
المتعاونون، حتى دون أن يتعارفوا، على نحت الجسور المبتكرة بين الرموز
المتوارثة وتحديات العصر، بهدف خلق جيل آخر من أفكار التنوير، شريطة أن
تكون صالحة كمفاتيح لإشكاليات الاستعصاء النهضوي الذي يخص أمة صاعدة من
انحطاطها المتمادي إلى حاضرها، حتى أمست مهددة بحقبة مستحدثة من سلالته
المظلمة عينها. وقد تكون مرشحة أخيراً لاغتيال آخر جيل افتراضي من وعودها
المغدورة، ولكن المنبعثة دائماً من رمادها بعد كل حريق شامل، لعله يمهد
للمنعطفات البنيوية، أو أنه في النهاية سوف يتراكم الرماد على الرماد.

لغة التقدم المتداولة
عربياً، قلما أتيح لها أن تكشف ثمة ذخيرة ما لدلالة التنوير في حد ذاته.
ولعل الانشغال بالهم السياسي اليومي كان هو الأقرب دائماً لتصيُّد مصطلحات،
من نوع التنوير والنهضة والحداثة، من أجل إدخال بعض التنويع اللفظي على
خطاباته المكرورة. في حين أن لكل مصطلح منها مساحته المجهولة من المفاهيم
والمعايير؛ تلك التي استطاعت أن تحافظ في الأقل، على براءة صيرورتها
الخاصة، من أن تحرث تربتَها العذراء عجلاتُ الأدلجات الشائعة والرائجة.
هنالك في التجربة العربية نوع من الغربة بين السياسي والنهضوي. قلما التمعت
في آفاق العمل الجماعي تلك اللحظة الاستثنائية المبشرة بولادة عصر لا
يُسمَّى إلا باسمه، الممنوع أو المستحيل، وهو عصر تنوير عربي. إنه العصر
الذي لن يكون نتاجاً للسياسة، بل هو الذي يرسم السياسات. وهو الذي يصير
القيِّمَ على حركيتها والمصحح لعثراتها، والمغذي لمشاريعها. إن أولوية
التنوير ليست مسألة ثقافوية، ولا تعود إلى مجرد مفهمة منطقية معينة. بل
إنها إشارة التكون المختلف. وإذا لم يلتقطها ثمة وعيٌ تاريخي أصيل في
لحظتها الاستثنائية تلك، ربما انطفأت ومضت أدراج الرياح. ذلك أنه ليس في
مسيرة التقدم لأي مجتمع ما، ثمة تغيير بنيوي لا يكون منطوياً في أصله على
شعلة تنوير ما. وإلا سقط التغيير في آلية التحولات العمياء، وتصيَّدتُه
جاهزيات التخلف المترسبة في اللاشعور الجمعي للكتل الجماهيرية الراكدة،
خارج التحقيب الحضاري.

علامة التغيير المحبط
تتجلى في عجزه عن إنتاج العلاقة المفهومية والواقعية ما بين السياسي
والتنويري. فأَيةُ نقْلةٍ موصوفة بالنوعية، من الوضع (الفاسد) إلى الوضع
السليم، غير المحددة معالمُه الإصلاحية بعدٍ، لن يتمَّ إنجازُها لحراكها
الاجتماعي المختلف، المتوقع أو المتصور، دون أن تكون مزوَّدةً بتلك المقدرة
العائدة إلى مواهب الشعوب، على تخطي مقدماتها النظرية، والانخراط المباشر
في جدلية من نوع آخر، يغدو فيها الواقع الحي بمثابة المحك الأخير لقابلية
تنوير قادر على التحكم بأفعال التغيير أكثر منه محكوماً فقط بضروراته
المجردة. لم يعد التنوير، بمعناه الحداثوي، متعلقاً فحسب باشكاليات العلاقة
بين الناسوت واللاهوت. إنه المسؤول عن سلطة العقل في ممارسته لأدواره
القيادية والمميزة في كل شأن عام. فالحديث مثلاً عن الحكم الصالح، يصير
رديفاً لمصطلح: المجتمع المستنير؛ كلاهما يشكلان حاجة العلاقة البنيوية لكل
منهما بالآخر. فلن يكون هناك حكم صالح يسود مجتمعاً لا يزال مقصياً خارج
التحقيب الحضاري.



لكن حين تنحطُّ
السياسة إلى مجرد إدارة فوقية لمسلسل النكسات والارتدادات في معظم مستويات
الشأن العام، والفئوي وحتى الفردي، فذلك لا يعلن فقط عن عجز فئات الوعي في
التدخل المنظم، أو حتى في الاعتراض أو إبداء الرأي، بل ينبئ بكل وضوح عن أن
أعطال الجسد الاجتماعي قد تصاعدت إلى الرأس المفكِّر نفسه. فقد يوجد
متنورون كثر، لكن ليس هناك تنوير، كما لو أنها حالة انفصام بين الارسال
والتلقي. إنها حالة الفكر الذي لا يفعل، والفعل الذي لا يفكر. فلا سبيل إلى
الكشف عن الأعطال وأسبابها، كما أنِه لا بد من تجاهل النتائج الكارثية أو
إنكارها. أو أن العملية التنويرية ليست أصلاً موضوعَ افتقاد، حتى يحدث ثمة
استشعارٌ فعّال بغيابها أو انعدامها. فإنك لا تفتقد شيئاً لا تعرف عنه
شيئاً. ليست كل المجتمعات مؤهلة ذاتياً لأن تحيا تجارب تنويرية. فقد تدخل
العصر وتخرج منه دونما أن تُحْظَى بفرصة تغيير حقيقية، وإن اعتقدت بعض
النخب فيها أنها تحقق تحولات معرفية؛ وقد تتصادَى مع أشباه من دلالات
التنوير، ولكنها في الواقع إنما تحسب أنها تتداولها، ولو تحت شعارات أخرى
تناقضها تماماً، أو تعمل على طمس إشاراتها في وجدان الفئات المتحركة،
الموصوفة عادة بالطلائع المتنورة. في هذه الحالة تلعب أَدْلجةُ السياسة
الأدوارَ القصوى في مسلسل التضليل الثقافي، عبر موجات متتالية من طرح
الطوباويات من الأفكار والأهداف، كما لو كانت هي لغة التنوير ومفرداته
المبذولة.

كان الخلط بين
التنوير والطوبائية هو الوسيلة المفضلة التي تَتبّعها الأدلجات لترويج
توهيمها الشعبوي، مثلما اعتادت أن تمارسه تلك النخب التي سريعاً ما كان
يتحول بعضها إلى قُوى فوقية متصارعة على الفوز بأسباب التسلط السياسوي
وحده، مغلَّفةً بدعاوى الانصياع لحاكمية (الثورة) والانضواء تحت شرعيتها.
بينما لم يكن ليجيء التنوير إلا ضداً على استيهامات الطوبائية التي
استبدَّت بالكثير من دعاة التغيير الجذري، عبر الحقب الثلاث لمسيرة المشروع
النهضوي، من القوموية والماركسوية إلى الاسلاماويات الراهنة. إذ إن
الطوباوية عملت على اختطاف بوادر التنوير والعقلانية، مختزلة الطرق الصعبة
المؤدية إلى تحقيقها وتنميتها، فتطرح مقولاتها تعويضاً عن الشعور الجمعي
الناهض، بما يشبه الاستحالة في اجتراح النقلة الفورية بين الواقع والإمكان.
فلم يكن تعيين الأهداف يأخذ بالاعتبار القدرات الفعلية على تحقيقها.
وبالتالي تتساقط الشعارات في الفراغ.

كل طوبى محتاجةٌ إلى
اختراع ذلك الوسيط السحري، المدعو فلسفياً بالثالث المرفوع ما بين الواقع
والإمكان. سريعاً ما يجري تصنيمُ الوسيط، وجعلُه أشبَه بأقنوم غيبي سحري.
كالأمة (المثالية) في تحريف القومويات، والطبقة في الماركسويات، وثنائية
الناسوت / اللاهوت في الاسلاماويات. ولا حاجة إلى تكرار التحليلات المتعلقة
بآليات التصنيم التي أصابت وتصيب هذه الأقانيم المتعالية، والتي يقع
تحريفُها إلى مرجعيات نهائية تسوّغ ذاتها بذاتها.

لعل المسألة الأهم في
لحظة المراجعة النقدية لإشكاليات النهضة العربية الثانية، وعجزها عن تأسيس
ثقافة الحداثة، وجعلها المعيارَ المركزي لإنتاجية حركات التغيير، هذه
المسألة إنما تتعلق بالتباسية دعوات التنوير بالطوبائية، أي بأجيال متتابعة
من الأفكار الخلاصية الكلية التي بدلاً من قراءة إمكانيات الواقع، فإنها
تقذف بالمخيال الجماعي إلى أبعد استيهاماته، كأنما أمسى يحياها فعلاً
وواقعاً. ليست المشكلة في طرح الفكرة الخلاصية، فهذا من حق الطموح الإنساني
التطلّعُ دائماً إلى المتغيرات/ القطيعات الحاسمة، كلما اشتدّ ضيق المساحة
المتاحة لتحرك الحرية في ظروف الحرمان من فرص الحياة السوية، والغلوّ في
الطغيان السلطوي. لكن الصعوبات الحقيقية تبدأ منذ الشروع في تفكر الطرق
المجدية الكفيلة باختراع الجسور ما بين الطموح الذي يصير شعبوياً غالباً،
وبين أدوات تجسيده المتعثرة.

فالتجربة العربية
غاصّة بالشعارات الخلاصية، لكنها في الوقت عينه متخمة بالخيبات الكارثية.
حتى يبدو أن التحدي الحقيقي لم يعد في البحث عن الأهداف الكلية المجردة،
ولكن في محاولة تفكيك الواقع الراهن عينه، واستكشاف غَوْره الحافل بالعقد
المعتقة المزمنة، قبل الشطْح نحو أفكار لفظوية فحسب، آمرة بتجاوزه وتخطيه.
فالدرس الأول المستفاد من قانون الخيبات المستدامة، المسيطر على مسيرة نهضة
مغدورة، قد يتلخص في هذه البداهة البسيطة: وهي أنه ليس ثمة استحالة، لا
فكرية ولا حدثية، في الجمع ما بين التغيير والعقلانية. ههنا يبرز الدور
الحداثوي للتنوير في جعل التغيير نتاجاً اجتماعياً إنسانياً. إذ لن يكون
التغيير مستنيراً حائزاً على شرعيته الحقَّانية إلا تحت طائلة الجماعة
الداعية له، والممارِسة لمهماته، والحافِظة لمسيرته. وعلى العكس يصير
التغيير لا عقلانياً كلما تقلصت مساحتَه الإنسانوية، وأمسى عرضة للاختطاف
والاستقطاب الفئوي أو الفرداني. فإن كوارث الحاضر العربي إنما تلخص النتائج
المحتومة لتحييد الشعوب بمنأى عن التدخل في شؤونها المصيرية.

أخطر هذه الكوارث ولا
شك، ليست الناجمة فقط عن خيبات الصراع مع النماذج المصنفة في خانة العدو
الخارجي التقليدي، وحليفه المزمن الداخلي، بل وصلت التراكمات السلبية إلى
الحالة البائسة الراهنة، التي يغدو فيها الجسد عينه، المجرَّح برماح
الآخرين، نهباً لأوبئة ذاتية دفينة، لكنها مستيقظة من عمق خلاياه الميتة.
إنها النهضة المغدورة بأعدائها، ومن بعض نُخبها الضالة التي دأبت على تعجيز
نفسها عن تنمية العلاقة المفهومية والحركية بين ثقافة التنوير ومشاريع
التغيير. وصولاً إلى الوضع البائس الذي ينقلب فيه الجسد العليل على ذاته،
منتقماً من لحمه وعظمه.

ذلك هو المغزى الأسود
لما يعنيه تسلط مبدأ الاقتتالات الأهلوية، وتفوقه الشرس على جماع المبادئ
الأخرى المؤسسة للوحدة العضوية والتاريخية لمجتمعات العرب والاسلام. ما
يدفع إلى القول إن هذه المجتمعات تكاد تفقد فرصتها الوجودية في اجتراح لحظة
التنوير من زمانها البائس الراهن، وربما المستقبلي كذلك. إذ ليس التنوير
مجرد مجموعة من أهداف تصورية مثالية؛ وتنتصب هكذا على مسافة من الجماعة،
وتتحداها أن تبلغها بأية طريقة كانت، وخاصة بوسيلة الاختطافات السياسوية
الزائفة. فلا تزال البداهة الأولى لما يعنيه التنوير، الحداثوي بخاصة، أنه
عليه أن يطرح طريقة فكر وحياة وسلوك للجماعة كما للأفراد. وهي الطريقة
الأخرى التي تضع في مركزها، معياراً تفضيلياً، يحثُّ أولاً على جعل فكرة
احترام الذات الإنسانية، والاعتراف بحقوقها الطبيعية والمكتسبة حضارياً،
جعلها مبدأ للفهم المتبادل بين وحدات المجتمع، ودليلاً لشرعية أية سلطة
مدنية قائمة على أساس المشاركة الفعلية لمختلف مكونات الكيان الإنساني،
بصفته الراعي الأهم للكيان السياسي المتمثل في أجهزة الحكم والدولة.

فلم يعد يهتم التنوير
الحداثوي بإشكاليات العلاقة بين الناسوت واللاهوت وحدها، بقدر ما أصبح
معنياً بتحرير العقل نفسه، كنظام أنظمة معرفية، من كوابحه الذاتية، قبل أن
تقوم قُبالَته كحواجز خارجية وقسرية. وبالتالي يكشف الارتداد إلى حلبة تلك
الإشكاليات اللفظوية حول الناسوت واللاهوت، عن مدى اليأس شبه الجماعي من
مجمل الآمال المعقودة على تحفيز نهضة حقيقية قادرة على تمدين التغيير
وعقلنته في سياقها، وذلك بالجمع بينه وبين ثقافة التنوير، للارتقاء بهما
كمنهج حياة عامة وخاصة للجميع.

هل نقول إن اليأس النهضوي قد يوفر أحياناً أسلوباً آخر في مواجهة الحقائق المرة والبدء مجدداً من لحظة الاعتراف بها أولاً.

(1) وخاصة شكيب أرسلان في كتابه المعروف: لماذا تأخر المسلمون ولماذا تقدم غيرهم!
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
مُشاطرة هذه المقالة على: reddit

نهضة أخطأت الحداثة :: تعاليق

لا يوجد حالياً أي تعليق
 

نهضة أخطأت الحداثة

الرجوع الى أعلى الصفحة 

صفحة 1 من اصل 1

صلاحيات هذا المنتدى:تستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
** متابعات ثقافية متميزة ** Blogs al ssadh :: دراسات و ابحاث-
إرسال موضوع جديد   إرسال مساهمة في موضوعانتقل الى: