مقياس الأحوال اليومية والعامة في المجتمع
الغربي هي نسبة العمالة، وما يقابلها من حجم البطالة. ما تعانيه طبقة
النخب هنا من الحاكمين والأغنياء والخبراء هو استفحال العجز عن توقيف مسلسل
الأعداد المتزايدة من ضياع آلاف الوظائف من يوم إلى آخر. لن يكون المجتمع
سعيداً وهو يتلقى أرقام المسرَّحين من شتى المؤسسات. لن تبقى معظم العائلات
مطمئنة على مستقبل أبنائها، عندما لا تلقى أجيال، من حملة الشهادات
الجامعية، وظائف جاهزة لاستقبالهم. الأزمة لا تخص شأناً اقتصادياً أو
سياسياً محدوداً . لقد دخلت بيوت الناس. أمسى هؤلاء مضطرين إلى تغيير
عاداتهم وأذواقهم، وليس تعديل برامجهم ومشاريعهم فقط.
(الأزمة) لم تعد لها صفة نسبية معينة.
لا تتناول بعض المصارف والشركات فقط. أمست أقرب إلى صفة الحالة الوجودية
الشاملة. فالبطالة هي العدوة الأولى للمجتمع الرأسمالي الذي يخص نفسه
بامتياز التقدم. فهي الكاشفة لكل عوراته الخفية دفعة واحدة. وقد تؤدي إلى
إدانة نظام الرأسمالية بذنوبه، التي تصير فجأة مع البطالة، مشهوداً عليها
من قبل أوسع الجماهير. استفاقة الناس فجأة على هول الحقيقة، لن تبقيهم
مشلولين، مُسمَّرين تحت وقع الصدمة، مذهولين فحسب، وهم يجتازون مراحل
الانهيار وعقم الحلول الفاشلة، طيلة هذه السنوات الثلاث من عمر الأزمة،
يراقبون تساقطَ كل إعلانات التباشير الكاذبة عن انقضائها، واستئناف العيش
الرغيد في عصر البحبوحة المنقرضة.
ثقافة هذا (العيش الرغيد) هي التي
تتهاوى، ولن يبقى لها أثر بعد عين. لم تكن مجرد ثقافة في الفكر والأدب
والفن، لكنها ابتكرت أساليب حياة للأفراد والجماعات. لقد احتلت (الفردانية)
العنوان الأكبر للأخلاقيات والأدبيات والعلاقات البيْنية. لن يتهم الفرد
بالأنانية إن هو تمسك باستقلاليته، معتمداً على اكتفائه المادي، لكن الرخاء
المفرط، واقعاً أو توهّماً، قد يزيد في عزلة الوجدان أحياناً، تجاوباً مع
عزلة الجسد وإقصائه عن الآخرين. هكذا تحللت النقابات والأحزاب، وتظاهرات
الشؤون العامة؛ لقد عمّ الضجر من هموم الناس الآخرين. مصطلح الآخرين، هذا،
أخذ كامل أبعاده من (قيم) الإقصاء وإجراءاته. كأنما الفردانية يمكن لها أن
تنهض هكذا لوحدها. فهي لن تضطر إلى مقابسة مصالحها وأذواقها بالنسبة
لآخرين. أقربين أو أبعدين، بل من دونهم جميعاً.
المثقفون المخضرمون المجايلون للمراحل
الثلاث، ما قبل “الثلاثين عاماً الذهبية”، وخلالها، وما بعدها راهنياً،
هؤلاء، أو بعضهم من الفلاسفة النادرين بينهم، يعانون من انتماء متعارض
أدوار ثلاثة في آن معاً. فهم أبطال وشهود وضحايا في المسارح المتقدمة
لتحولات هذه المراحل. كانوا رواد الأفكار الكلية الحركية؛ كانوا المصدرين
لنماذج الفهم والسلوك والتقييم للمفرد والجمع معاً، بدءاً من ذواتهم
الريادية عينها. ثم أمسوا الشهودَ على حصائل التجربة، متوزعين بين ناقدين
ومدافعين.
ها هم اليوم، وجُلّهم شيوخٌ وعجائز، في عين العاصفة، أو في هوامشها
وضواحيها الغبراء الصفراء، لا يعرفون كيف يفكرون، وإن أتتهم بعض الأفكار،
لا يعثرون بسهولة على الأقوال المعبرة عنها. وإن تحركت بعض ألسنتهم أحياناً
أو أقلامهم، أعوزتْهم قوةُ البرهان على صدق بعضها، أو نكران ما هو ضدها.
كأنما، فالتفكير في عين العاصفة مستحيل، وفي هوامشها صعب. لذلك فالعاصفون
معها هم المستفيدون الأوائل من مختلف فصولها.
القول مثلاً بنهاية الرأسمالية شبيهٌ
للقول باستمراريتها والقدرة الذاتية على معالجة أزماتها وتجاوزها، من حيث
أن القولين إطلاقيان بدون مؤونة برهانية أو واقعية كافية. كذلك لا يصدق
الماركسيون أنفسهم، حين ينادي بعضهم بإمكان عودة (الشيوعية). الفيلسوف
المخضرم للمراحل الثلاث، ألان باديو، وهو الماوي القديم والمزمن ربما، يرفع
شعار (فكرة الشيوعية) كيما ينزهها عن كامل التجربة السوفييتية السابقة.
فكرة الشيوعية، وليس نظامها، هي العائدة. بل هي لم تكن غائبة لكي تعود،
لأنها هي نظام العدالة، القابل وحده لجعل الواقع معادلاً لها، ومطابقاً
لمعانيها. يرفع (باديو) الشيوعية إلى مستوى الفكرة، وذلك استيحاء من
أفلاطون الذي أعطى خاصية الوجود المطلق للأفكار / المُثل الثلاث المتكاملة:
الحق والخير والجمال.
ما تكشف عنه الأزمة في هذا السياق،
فلسفياً، هو أن ثقافة “العيش الرغيد” في ظل الرأسمالية، لم تكن ثقافة
الحقيقة لأنها كانت مقطوعة الصلة مع معايير العدالة، أو الخير، ومع الجمال
الأصيل، بما لكل هذه الأفكار المثل من صدقية البرهان البديهي العقلاني، وإن
كانت متعثرة التحقق العياني، بمعنى أن صعوبة التحقق لا تنفي صلاحة الفكرة
في ذاتها. وإذا كانت الأنظمة الرافعة لألوية الاشتراكية قد أساءت إلى
فكرتها، فالأنظمة أضحت من أفعال الماضي، أما الفكرة في حد ذاتها، فتظل
فاتحة آفاق الآمال أمام الإنسانية المعذبة. وفي هذا العصر الذي تنكشف فيه
أعطال الرأسمالية في أعشاشها التاريخية عينها، وعندما تدفع أوسع الجماهير
أكلاف هذه الأعطال وحدها، من أمنها الاجتماعي والشخصي والحياتي.. هل سوف
يستيقظ الفكرْ الغربي على أعطاله الذاتية هو الآخر. فلقد استقالت ثقافة
الحقيقة طويلاً من أقلامه ونصوصه. وذلك عندما استبدت بالعقول، يميناً
ويساراً، دوغما السوق، على أنها هي “نهاية التاريخ” كأنما لم يعد ثمة خيار
آخر لمستقبل البشرية، سوى أن يدوم كما كان في ماضيه البائس إياه.
“السوق” اليوم، هي التي تخون أسيادها
وعبيدها معاً. لقد احتل مفاتيحَها وأبوابَها الأغرابُ عنها، بعد أن
أفْقَدها أصحابُها الأصليون من غلاة الاحتكاريين حريتها، أي جوهرها الذي
طالما نغنَّى به قدماء الليبرالية الأوروبية وأحفادهم المعاصرون. فقد انتهت
الليبرالية إلى التنازل عن الحرية التي كانت تدّعي تبنيها وحراستها
واحتكارها لنفسها. لم تعد الحرية قادرة على التحليق ما فوق أجنحة الأرقام
الفلكية العاصفة في الفضاء المالي. دولة البورصة هي الحاكمة بأمرها ضداً
على دولة السياسة والاقتصاد معاً. وقد يقال راهناً أن أمريكا أوبامايا
تتجرأ أخيراً على إمبراطورية الصيرفة. تضع قوانين جديدة هادفة إلى “ترويض”
وحوش البنوك. ولكن من يقول أن وحوش السيرك ستبقى أسيرة في أقفاصها، حينئذن
ماذا سيفعل مروض السيرك بدون حيواناته، ذلك التساؤل الرمزي يشير إلى
الحلقة المفرغة التي يدور فيها اليوم مصلحو الاقتصاد الرأسمالي الغربي
المتهاوي، من دون أية نتائج حاسمة، مع استهلاك الحلول الجزئية، بما يؤكد أن
هاوية الأزمة لا قعْر لها حتى الآن.
يحق للمفكرين أن يطالبوا بعضهم
بسلوكية أخرى، قد لا يمتلكها سياسيو المرحلة. لكن المدخل الصحيح لأية
سلوكية متطهرة من وعثاء أخطاء الماضي، ينبغي أن تشرع من جديد في انتهاج
المراجعة النزيهة. ينبغي أولاً التذكير بضرورة تحرير الفكر من غواية
التسويغ السهل لما هو قائم، وتحقيق النقلة المعرفية نحو تفكيك عناصر
الظاهرة المدروسة. هذه النقلة المعرفية بين التسويغ والتفكيك اكتشفها
ومارسها العقل الغربي منذ عصر الأنوار. لكنه مع اشتداد تسلط الرأسمالية،
وتفريغ نظامها (التربوي) من تقاليد الوعي التاريخي المصاحب لتحولات مجتمع
الرفاه الاستهلاكي، لم يتبقَّ لثقافة النقد أبطالٌ ومناضلون.
ذاكرة النقد تقول أن أحد فلاسفة
الأنوار (دالامبير) رفض أي تعريف للرأسمالية، الناشئة منذ أيامه، إلا كونها
هي اللصوصية بعينها. لم يكن يتصور جيل التنويريين الرواد أنه سيأتي عصر
على الغرب، سيتقبل فيه مفكروه تعريف إنسانهم، أنه الإنسيّ الاقتصادوي Homo
economicus، أي الإنسي الرأسمالي عملياً، أو إنسان السوق. غير أن تطور
الغرب لا يبرهن أن العامل الأخلاقي كان هو الفاعل الحاسم دائماً. وأنه
بالتالي أمكن للصوصية أن تنشئ الحضارة السائدة في العالم منذ قرنين. فإذا
ما اكتشف كاتب صحفي متميز، هو جان دانييل، عنواناً لافتتاحية مجلته،
الأوبسرفاتور، عبارة: كل شيء فاسد، كأنما يريد أن يقول أن أمة عظمى في
ثقافتها، هي فرنسا، تنتهي، في القرن الواحد والعشرين، إلى وضع الأمة
المحكومة بدولة فاسدة، في نظامها السياسي والقضائي معاً، تحت وطأة حاكمية
المال وحده. لكنه لا يورد حكم الفساد في صيغة حاسمة بل متسائلة فحسب. إذ
يرى أن الرأي العام لا يزال قوة فاعلة مؤثرة. فقد فرض تنازلات مهمة من قبل
رئيس الجمهورية، إزاء فضيحة المليارديرة (بيتانكور)، شاغلةً عناوينَ الصحف
منذ أكثر من أسبوع.
هل يعود المثقفون الفرنسيون،
المتشبثون بفلسفة “الجمهورية” الى بعض رهاناتهم الفكرية المتفائلة المعتاد
اعتماداً على تراث الديمقراطية الأوروبية. وهو تراث تسانده تيارات الثقافة
في مختلف أجيالها، حتى الموصوفة منها باليمينية. فما فعلته أزمة المال
والاقتصاد، هو أنها كشفت الخطر المحدق بهذه الديمقراطية من جراء انجراف
رأسمالية أوروبا نحو الليبرالية الأنكلو أمريكية، بحيث يمكن أن يؤدي هذا
الانحراف إلى إلغاء الفوارق النوعية المتبقية ما بين السلطة السياسية
ومراكز القوى المالية ورجالها المتنفذين، هذه الفوارق كانت تحميها توازنات
دقيقة سارت عليها حقبة (الجمهورية الخامسة)، المنتمية أصلاً إلى عهد التحرر
من النازية، واستعادة الاستقلال والبناء القومي الاجتماعي المتجدد، بقيادة
الجنرال ديغول.
من هنا يشعر الرأي العام المتنور، أن
الاتحاد الأوروبي أمسى مُطالباً بنموذج معين عن ثورة ثقافية جذرية وشاملة.
فالثقة لم تتزعزع بعد بقدرة الفكر الأوروبي على التصدي لأزمة اقتصادية
عارمة، لن تُعالج بأدواتها عينها، وحدها. ولا بدّ من استنهاض عزيمة التنوير
مجدداً من تحت ركام الانحراف الليبرالي، الغريب أصلاً على تقاليد الشخصية
المفهومية المتحررة، لمرحلة ما بعد انهيار الامبراطوريات الأوروبية. فكل
أزمة عاشتها هذه المرحلة احتاجت أولاً إلى انتفاضة الفكر، ومن ثم يأتي دور
مهندسي البناء الجديد الذي سوف يرسى مبادئه فجر تنويري آخر.. آتٍ، كما يحلم
رواده المنتظرون..
الثلاثاء أكتوبر 23, 2012 2:19 pm من طرف متوكل