طرح الخطاب العربي الصوفي كبديل عقائدي
(من منظور مؤرخي الأدب وفلسفة والمستشرقين الغربيين)
عبد العزيز شويط
مقدمة: التصوف ظاهرة إسلامية لافتة
للانتباه، وداعية للاحتراز حين التوقف عندها، والتعامل معها ممارسة أم
دراسة، ولاسيما حين يتحدث عنها المستشرقون، ذلك أنهم إن رضوا عنه جعلوه
مسيحيا أو فرضوا المغالي منه كبديل مذهبي وزينوه ودافعوا عن شخصياته إلى
درجة جعلهم قديسين وشهداء، وإن رفضوه رفضوا مبادئه الزهدية، وتناولوا
بالقدح صفاءه الإسلامي، وعابوا عليه الإخلاص. كل ذلك بالنظر إلى ما اكتشفه
العلماء المسلمون من مغامزهم ومغالطاتهم وسمومهم في علوم الدين وحقائق
التاريخ الإسلامي.(1)
كثير هم المستشرقون الأوروبيون
الذين تناولوا التراث العربي الإسلامي بالدراسة، مهما كان منهج هذه
الدراسة، وتناولوا حتى التراث غير العربي بذات الفعل والإجراء، وأعني به
التراث الإسلامي التركي والهندي والفارسي والإفريقي، ولعل أهم هذه المناهج
المستخدمة للدرس والتحليل، المنهج التاريخي في وصف الأحداث والتعليق عليها
وتحليلها واستقرائها.(2)
والحق أن النظرة الإسلامية
والعربية الحديثة سواء إبان سيادة الدولة الوطنية تارة، والقومية تارة
أخرى، وحتى الدولة الدينية الإسلامية كالحالة الإيرانية والسعودية ما تزال
تنظر إلى المستشرقين – وهم يمسون التراث الإسلامي بطرف – بعين بعيدة عن
الرضا، وبأشواط عديدة، حتى رأينا الغالب على وصف هذا التناول إطلاق تسمية
«سموم الإستشراق» كما نص على ذلك أنور الجندي.
ولأن العديد من المستشرقين
كانوا إما مبشرين بدين هو دين الأقلية في العالم العربي الإسلامي في شقه
الشرق أوسطي والآسياوي والشرق إفريقي تارة، وغريب إلى حد ما، ولو غرابة
زمنية عن البيئة العربية والإسلامية أيضا مرات عديدة في حال إفريقية
الغربية وفارس وما وراء النهر، وإما مستكشفين أمام حملات الاستعمار يسهلون
له المهمة، ويعبدون له الطرق ليمر بسلام، مدعين العلم والمنهج والبحث.
ولذلك كان أغلب المستشرقين مؤرخين، سواء للآداب والحضارة والثقافة كـ كارل
بروكلمان وريجيس بلاشير، أو الفلسفة كهنري كوربان وآدم متز والألمانية
زغريد هونكه أم للأحداث العامة، كـ بروكلمان أيضا وغيره مما سنكتشفه في هده
المداخلة.
لقد كانت النظرة الشاملة
المكتسحة للزمان والمكان والمشفوعة بالإحصاء والتحليل هي التي احتوى عليها
منهج التأريخ عند هؤلاء. و لطالما عدّ التصوف الإسلامي مفخرة العرب
والمسلمين في نظر هؤلاء المستشرقين المؤرخين، ولاسيما في تجلياته الفنية
الإبداعية، وهي آدابه وأشعاره وقصصه وكراماته وخوارقه، مهما كان الأمر
متعلقا بالجانب التعبدي الديني أم بجانب الحب والعشق الصوفي البشري في حال
الغزل العذري.
إذن، والحال هذه، لا يمكن إغفال
الأهداف الخفية الخطيرة للإستشراق وهو يتناول التراث العربي بالدرس ولو
على محمل الإعجاب والإشهار والإذاعة والطرق أو التناول، إن ثمة ما يسمى
بالسم في الدسم، ليس جريا وراء أنور الجندي بغير هدى ولا دليل منير، وإنما
من حيث كان هؤلاء المستشرقون طلائع الحملات الاستعمارية ومن حيث مغامزهم
الخطيرة التي تخفي لك السم وتبدي لك غيره.
على سبيل المفهوم (بيننا وبين المستشرقين) قبل أن تطيل بنا الوقفة مع
ماسينيون ورؤيته للحلاج، ما لها وما عليها، أجتازُ في عجالة إلى تعريف
التصوف، فالحق أن التصوف تعددت مفاهيمه وتعاريفه وكثرت، ولكننا سنستأنس إلى
مرجعين أساسيين في المفاهيم، مختلفين تمام الاختلاف عما ورد في معجم
الأفكار لهتشنسون والموسوعة الفلسفية المختصرة، وحتى المعجم الفلسفي
المختصر وكلها من تأليف غربي، بل إن تأليف الموسوعات والمعاجم هي أبرز نشاط
خاض فيه المستشرقون، بما في ذلك دائرة المعارف الإسلامية وما أدراك ما هي
انتشارا وأكاديمية ومنهجية وموسوعية على ما فيها من أخطار ومغالطات جمة،
يتجلى ـ إذن ـ نشاط المستشرقين في الميادين الأكاديمية ونشر الموسوعات
والمعاجم الشاملة والإشراف على أطروحات الطلبة العلمية، نرى الهوة واسعة
بين مفهومه عندنا ومفهومه عندهم، المهم أن المرجعين اللذين سآخذ عنهما
المفهوم هما: صاحب التعريفات، الجرجاني، وصاحب معجم مصطلحات الصوفية، أو
الموسوعة الصوفية عبد المنعم الحفني، لئلا نتطرق إلى من هو مع، ومن هو ضد
التصوف وهم كثر، ولكل من هؤلاء مفهوم يتعلق بميوله، ولو كان السهروردي وزكي
مبارك أو شيخ الأزهر الشريف عبد الحليم محمود وغيره ممن كتبوا في الصوفية
والتصوف؛ فأما الجرجاني الذي يعرفه بقوله: «الوقوع مع الآداب الشرعية
ظاهرا، فيرى حكمها من الظاهر في الباطن، وباطنا، فيرى حكمها من الباطن في
الظاهر، فيحصل للمتأدب بالحكمين كمال. التصوف: مذهب كله جد. فلا يخلطونه
بشيء من الهزل. وقيل تصفية القلب من موافقة البرية، ومفارقة الأخلاق
الطبعية، وإخماد صفات البشرية، ومجانبة الدعاوى النفسانية، ومنازلة الصفات
الروحانية، والتعلق بعلوم الحقيقة، واستعمال ما هو أولى على السرمدية،
والنصح لجميع الأمة، والوفاء لله تعالى على الحقيقة، واتباع رسول الله في
الشريعة. وقيل ترك الاختيار، وقيل بذل المجهود، والأنس بالمعبود، وقيل: حفظ
حواسك من مراعات أنفاسك، وقيل :هو صفاء المعاملة مع الله، وأصله التفرغ عن
الدنيا، وقيل :الصبر تحت الأمر والنهي، وقيل: خدمة التشرف، وترك التكلف،
واستعمال التظرف، وقيل: الأخذ بالحقائق، والكلام بالدقائق، والإياس مما في
أيدي الخلائق»(3) فيحاول أن يجعله من صميم الملة مسويا بينه وبين الزهد
وناسبا إياه إلى السلف الصالح وصحابة رسول وهو معهم. والملاحظ أن هذا
الكلام، كلام الجرجاني في التعريفات، هو نفسه الكلام الذي أخذه عبد المنعم
الحفني بحرفه في كتابه معجم (مصطلحات الصوفية)(4) وكرره مع إضافة المعنى
الفلسفي في المعجم الشامل لمصطلحات الفلسفة.(5)
ولذلك نرى صاحب (معجم مصطلحات
الصوفية والموسوعة الصوفية) عبد المنعم الحفني يرى بأن الصوفي هو «الفاني
بنفسه، الباقي بالله تعالى، المستخلص من الطبائع، المتصل بحقيقة الحقائق،
قال الجُنَيْد: الصوفية هم القائمون مع الله تعالى بحيث لا يعلم قيامهم إلا
الله. وقال بشر بن الحارث الصوفي: من صفا قلبه لله، وقيل إنما سمي الصوفية
كذلك لأنهم في الصف الأول بين يدي الله عز وجل، بارتفاع هممهم إليه،
وإقبالهم بقلوبهم عليه، وقيل إنما سُمّوا صوفية لقرب أوصافهم من أوصاف أهل
الصفة الذين كانوا على عهد رسول الله. وقيل إنما سموا صوفية للبسهم الصوف»
محاولا تقريب الفكرة بطرح حداثي أخذه من تعريفات الجرجاني كما أسلفنا.
سوف لن نتصور موافقة لهذا
المفهوم عند الغربيين المستشرقين وغير المستشرقين، إذ بينما لاحظنا نسبة
الصوفية عند المرجعين السابقين إلى الأصالة الإسلامية سوف نلاحظ غير ذلك
فيما سيأتي ولو بدرجات التأرجح المتاربة قربا للتصوف من الإسلام وبعدا وهذا
ما نراه في معجم الأفكار لهتشنسون الذي يقول: «التصوف (mysticism) اعتقاد
ديني أو خبرة روحانية واتصال مع الله. وهو موجود في العديد من الأديان مثل
(kabbala) القبلانية في اليهودية و، والصوفية في الإسلام، والبهكتية
(bhakti) في الهندوسية، والصوفية مرتبطة بالتقشف والرؤى والأحلام ونشوة
التصوف. وكثير من التقاليد الدينية تصف التأمل والتفكر لتحقيق خبرات صوفية.
وبعض الكنائس تقبل التصوف، والبعض الآخر يشك فيه ويصفه بالخطورة
والانحراف، الذي يصل إلى حد الهرطقة»(7) هذا ما يراه، والغالبُ عليه توسيعٌ
لدائرة الصوفي ليشمل مللاً ونحُلاً عديدة غير الإسلام، أما حينما يتناول
مصطلح الصوفية فيقصره على الإسلام فيقول: «الصوفية sufism نشأت حركة التصوف
الإسلامي في القرن الثامن. يعتقد الصوفيون أن الحدس العميق هو المرشد
الوحيد الحقيقي إلى المعرفة. وللحركة الصوفية نزعة قوية للزهد والتقشف.
والصوفية تتألف من جماعات عديدة، لكل جماعة ممارسة خاصة للتأمل، منها رقصة
الدراويش، وقد تأثرت الصوفية بنساك الكنيسة المسيحية الأولى، ولكنها تطورت
فيما بعد ضمن الدين الإسلامي القويم»(8) وكأن هذا الموقف يسير مع المنهج
الإستشراقي في محاولة خلق إسلام مسيحي وتصوف إسلامي مسيحي، وهلم جر.
المعجم الفلسفي المختصر الذي
طبعته دار رادوغا بموسكو أيام الإتحاد السوفيتي، وما أكثر المستشرقين
الروس، أدلت بدلوها هي بدورها في مسألة الصوفية حيث تجعلها ذات مصدر إغريقي
خالص تقوم على الكشف للأرواح والألهة، وربطتها وفق نظرة الإلحاد الشيوعية
بالعبودية في عهد الإقطاع والرأسمالية والطبقات التي وَلَّى عهدُها والتي
تسير نحو الهلاك، على حد تعبيرها، وتتميز باللاعقلانية، تأتي حين تعجز
الفلسفة عن حل المشكلات، وهي مثل المثالية، وآخر ما تناولته بالحديث: «تيار
الفكر العربي الإسلامي، كان محي الدين ابن عربي من أبرز فلاسفته. قال
فلاسفة الصوفية بتفوق المعرفة الذوقية والكشفية على المعرفة الإستدلالية
والعقلية، وبأن وجود الله هو عين وجود العالم، بأن الموجودات كلها تجليلت
لله (وعرف ذلك بمذهب وحدة الوجود)، وبإمكانية اتصال الإنسان بالإله عن طريق
الكمال الخلقي»(9) وكأن (دار التقدم) لم تر في التصوف والمتصوفة أيَّ
عَلَمٍ غيرَ محي الدين بن عربي، بمن في ذلك الجنيد وغيره من المعتدلين.
وجعلت من لا يطمئن لدينه من المتصوفة، خاصة حين تعرض أفكاراً كالحلول
والإتحاد، إلا محي الدين بن عربي؟ والسؤال هل بروز ابن عربي من وجهة الشهرة
والانتشار والعلمية والظاهراتية أم من وجهة تمثيل التصوف حق تمثيل، فإن
كان الأمر الأول فلا بأس به وإن كان الأمر الأخير فمردود عليهم، ولاسيما
إذا عُدَّ الفَخارُ فهناك من يسبق إلى الفضل في مضمار التصوف الحق الصافي.
حين تتعرض الموسوعة الفلسفية
المختصرة للغزالي، تتناول تقلبه بين المذاهب وتجريبه إياها وعزلته الشهيرة
وإرساء شراعه أخيرا إلى التصوف ولاسيما الذوق الباطني الصوفي بالحدس والذوق
في نفسه صورة الله(10) ولكن لا يمكن أخذ المفهوم الغربي والإستشراقي من
هذه الموسوعة، لأن زكي نجيب محمود قد أضاف إليها شخصيات إسلامية خاصة وأننا
لم نعثر على مصطلح تصوف ولا صوفية في هذه الموسوعة، ومنه فالخطاب ههنا غير
استشراقي.
هكذا إذن، وعلى مستوى المفهوم، وبعيداً عن دائرة المعارف الإسلامية رأينا التغاير بين الأنا والآخر في فهم الظاهرة الصوفية.
مؤرخو الفلسفة والعلوم والتصوف الإسلامي.التصوف مجال عقائدي من مجالات
العلوم الإسلامية، وبحث المسلمين أو غير المسلمين فيه، بحث في مجال
العقيدة، وهي من الأهمية والخطورة بمكان، «فالعقيدة الإسلامية ـ مثلا ـ
تشمل علم الكلام، والفرق الإسلامية ـ وإن كانت شقة الخلاف بينها ضاقت كثيرا
عما كانت عليه سابقا، والمستشرقون يعنون بها ـ والاتجاهات الإسلامية
الحديثة، ودراسة القرآن الكريم، والحديث الشريف، وما يندرج تحت كل منها من
الأبواب. وينبغي أن يذكر أن المستشرقين طرقوا جميع هذه الموضوعات جملة
وتفصيلا، وكتبوا فيها مئات الكتب والبحوث في جميع اللغات الغربية القديمة
والحديثة، وجمعوا مئات المخطوطات، ونشروا عددا كبيرا منها، وترجموا كثيرا
منها، حتى أنهم أصدروا (دائرة معارف إسلامية) علاوة على عدد من الموسوعات
الصغيرة والفهارس، وحتى إنهم أنشأوا معاهد خاصة بدراسة الإسلام»(11) ليس
الجانب التعبدي الفقهي فيه فحسب، بل العقيدة والفرق الإسلامية التي تختلف
أحيانا حتى في بعض عناصر العقيدة.
لا ننتظر الكثير من التصريح
مع أو ضد التصوف الإسلامي من قبل المؤرخين، ذلك أن منهج عرض الأحداث
وترجيح الروايات سيشغل أي مؤرخ عن التفرغ، كل التفرغ، للتحليل التاريخي
وإبداء الرأي إلا قليلا، وأول من أبدأ به، سأعرج على موقف المستشرق كارل
بروكلمان من التصوف في كتابه تاريخ الشعوب الإسلامية، وهو ذات الموقف عنده
في كتابه، تاريخ الأدب العربي، فكيف تلقى هذا المستشرق المؤرخ للأدب خطاب
التصوف الإسلامي من خلال مظانّه وكتبه وتجليلته المكتوبة فناً وعلماً
وشعراً، وحالاتٍ وشطحاتٍ وموسيقى؟ فعلى امتداد الثلاث صفحات يتحدث بروكلمان
عن التصوف في الدولة العباسية(12)، معبراً عن هروب المتصوفة من جو الخلاف
الدائر في العهد الإسلامي بين الأحزاب والدويلات والقوى الداخلية إلى
المشاهدة والصفاء الروحي الممتزج بالموسيقى، متخذين من زَي الرهبان الصوفي
لباسا لهم على حد تعبيره، وإن كان يعترف بالأصل والجذر العربي لفكرة
التصوف، مخالفا بذلك ما سنراه عند ماسينيون فيما بعد، مسويا بين المتصوفة
والنبي في تبني فكرة البحث عن الصفاء خارج نطاق المجتمع وتفاعلاته، لكأني
به يفرض من جديد مناقشة ثنائية الخطاب «أن تعاشر الناس وتصبر على آذاهم خير
من أن تعنزلهم (و) خيرُ مالِ المرء غَنَمٌ متفرقة في شعاب الجبال يفرّ
المرء بدينه»، ومقترحاً النقاء الصوفي والبعد عن الحياة الاجتماعية من قبل
المخلصين فرارا بديتهم، جاعلا من النموذج الرهباني هو الأصلح وتاركا المجال
الاجتماعي لغير المخلصين والأصفياء، وهل يصلح المجتمع إلا بهم ؟ وهو يمر
بالحسن البصري والمحاسبي والجنيد وصولا إلى الحلاج (الحسين بن منصور )
مناقشا ما أثاره التستري من فكرة الرجوع إلى الله ومنتهيا بمسألة فتوى
الفقهاء بقتل الحلاج وتنفيذ الحكم معتبرا إياه شهيدا، لا لشيء إلا لأنه لا
يمت إلى العقيدة المسيحية بأية صلة، ولاسيما ما يفترض من صلة السلب والضرر.
على امتداد الصفحة أيضا يتحدث
عن ابن عربي محي الدين أثناء حديثه عن الإسلام في الأندلس وشمال
إفريقية(13)، ويركز على موطنه (مرسية الأندلس أو إسبانية الإسلامية كما
يطلق عليها) لحاجة في نفس بروكلمان، كما يركز على تأثره بالقرامطة في فكرة
وحدة الوجود، وهم شيعة يكفيهم جرما سرقتهم الحجر الأسود من جوف البيت
الحرام وتكسيره، ويعرض كتب ابن عربي وآثاره، مصدراً حكماً بالانتصار للمذهب
الصوفي بقوله: «نقول أن هذا الإنتاج الضخم قد ساعد على تحقيق النصر الحاسم
لهذا الضرب من العقيدة الصوفية على الجهود الصوفية بسبيل الزهد
والصفاء»(14) ولست أدري عن أي انتصار يتحدث بروكلمان ؟ أهو انتصار الشيوع
والذيوع واهتمام المستشرقين بهذا الإنتاج الكبير لابن عربي ؟ أم انتصار
الإتباع الإسلامي في ميدان العقيدة وفق الإحصائيات للمذهب الصوفي الابن
عربي تحديدا، دون أن نغفل الواقع الإسلامي وحدوث غلبة الأشاعرة المتصوفين
على مذهب الجنيد ؟ فلم هذا الإغفال لهذه الحقائق ؟ وهو ما أضافه بالحديث عن
ابن سبعين الذي نقل لنا خبر رغبته في الاتحاد مع الله، فلما فشل في ذلك
انتحر.
ويتحدث عن جلال الدين الرومي
أثناء حديثه عن الأتراك والمغول، ولنا أن نستغرب، لم جعل بروكلمان من جلال
الدين الرومي أعظم شاعر متصوف في الإسلام ؟ والجواب يردفه مباشرة في تعليقه
على أنه نشأ خارج البلاد الفارسية أولا، وثانيا أنه أنشأ الطريقة المولوية
المنتشرة بكثرة والتي تهدف إلى حالة الوجد عبر أنغام الناي وهو ما يسمى
بالشطح الصوفي، ويضيف إليه ما فعله جلال الذين من إعلاء لقيمة كتابه
المثنوي (مجموعة حكايات عير منظومة على ألسنة الحيوان) إلى حد يكاد يداني
قيمة القرآن الكريم كما يقول بروكلمان(15). والحق أن بروكلمان يورد قصة
انتماء الثورة الوطنية في تركيا إلى هذه الطريقة (المولوية) ولكن ما الذي
قدمته هذه الثورة للإسلام والمسلمين؟ وإذا افترضنا جدلاً أنها نفعت تركيا
فهل نفعها هذا يعادل خطر مشيها خلف فكرة وحدة الوجود أم يعادل جعل المثنوي
كأنه القرآن ؟ إذا عرفنا كل هذا تبين لنا حكم بروكلمان على جلال الدين
الرومي بالأفضلية في مجاله، على الرغم أنه لم يحدد أي شق من شقيّ المجال
يقصد به في الأفضلية: الصدق والفنّية الأسلوبية والتصوير الأدبي الشعري أم
أعجبته الفكرة التي يدعو إليها الرومي إلى حد تمنيها، فكرة بديلة لمذاهب
العقيدة الإسلامية؟
هنري كوبان في كتابه (تاريخ
الفلسفة الإسلامية) يجعل حيزاً للتصوف، إذا ما أضيف إليه فصل السهروردي
المتصوف. يتربّع هذا الحيّزُ على قرابة الخمسين صفحة من الطبعة التي
بحوزتنا، و هي من القطاع المتوسط، فقد تكلم عن متصوفة عديدين من أمثال
البسطامي (أبي يزيد) والجنيد وحكيم الترمدي والحلاج وأحمد الغزالي بالإضافة
إلى السهروردي وعلاقته بحكمة فارس القديمة. يقول كوربان عن التصوف بعد أن
يشير إلى جدر الكلمة (صـ وف) وهو عنده عربي مشتق من الصوف، لأن لباس
الصوفية الصوف الأبيض مميزا لهم: «ومصطلح صوفي يشير إلى مجموع النساك
والروحانيين الذين اشتغلوا (بالتصوف)»(16) ولكنه يعود فيشير في مغمز يخفي
تحمسه له في شكل جعله حديثا عابرا وهو حديثه عن فكرة الأصل اليوناني لكلمة
التصوف فيقول: «وثمة تفسير آخر، يبدو أكثر قبولا للوهلة الأولى يعتبر هذه
الكلمة منسوخة عن كلمة «sophos» اليونانية وتعني حكيم، ومع أن هذا التفسير
الأخير لم يلق رواجا لدى المستشرقين إلا أن البيروني [...] يتبناه عنده
[...] ومهما يكن من أمر فإن علينا أن نتذكر دائما مرونة النحويين العرب
عموما في اكتشاف اشتقاق سامي لكلمة مستوردة من الخارج»(17) وهذا التعليق
الأخير قاله بمناسبة التغاير الحرفي بين السين والصاد في الكلمة اليونانية
والصاد في الصوفي. ويواصل كوربان في مدح التصوف واعتباره بديلا ذا قيمة
فضلى ولا سيما في مسعاه الجامع بين الشريعة والطريقة والحقيقة العرفانية،
فيقول: «فالتصوف هو شهادة لا تنكر، واعتراض ساطع من الإسلام الروحاني ضد كل
نزعة حاولت حصر الإسلام بالشريعة وظاهر النص»(18) والملاحظ أن كوربان
معتدل إلى حد بعيد، والسبب في ذلك ما أحيط به من إعانة من قبل حسين نصر
وعثمان يحي، ولذلك فهو كثيرا ما يجعل فكرة التصوف في شقها المحمود ذات ميول
شيعية ولا سيما حين يتحدث عن البسطامي الإيراني وكذا السهروردي الفارسي
وحتى الجنيد الذي يحيل إلى أصله الإيراني أيضا وحكيم الترمدي الإيراني.
وتجدر بنا ههنا الإشارة إلى أن
المستشرقين كثيرا ما يجعلون الفكر الإغريقي اليوناني مصدرا لكثير من
الأفكار الإسلامية. يقول أنور الجندي عن هذا الأمر الذي يفعله المستشرقون:
«دعويان طرحهما التغريب والغزو الثقافي لتزييف أصالة الفكر الإسلامي
القرآني المصدر. أولاهما: أن الفلسفة اليونانية هي مصدر الفلسفة العربية
…»(19)، ولأن الغرب الأوروبي هو وريث الثقافة الإغريقية جريا وراء فكرة
روما التي غلبت أثينا عسكرياً. وأثينا التي غلبت روما ثقافيا، ومن ثمة نسبة
كل جميل إلى الإغريق والأوروبيين من بعدهم وجريا وراء فكرة: إذا كان
التصوف حسنا فهم أصله وزبدته، وإذا كان سيئا فالإسلام وحده يتحمل مسؤوليته.
وأما حديثه عن الحلاج فيوافق كوربان لويس ماسينيون، بل ويشير هنري كوبان صراحة إلى أن الحلاج عرفه الغرب بفضل شارحه ماسينيون.(20)
السهروردي هو من أطال الوقوف
معه كوربان لأجل فكرة إحياء حكمة فارس القديمة عنده: وهو عنده ضمن فصل
(السهروردي وفلسفة النور) وتتضمن مطالب: إحياء حكمة فارس القديمة ومشرق
الأنوار (إشراق) وترتيب الوجود والغربة الغربية والإشراقيون.(21)
ماسينيون والحلاج (القطرة التي أفاضت الكأس)شهادة حية يقدمها عمر فروخ عن
ماسينيون في التصوف الحلاجي وفي غيره، مما يلمه الكيد للتراث الإسلامي عامة
والخطاب الصوفي خاصة، وكيف تلقاه المستشرقون، أرى من الجدير إثباتها هنا.
يقول عمر فروخ: «وإذا كان مارغليوث قد أقرّ كثيراً من الآراء المعادية
للإسلام في عقول القراء باللغة الأنجليزية، فإن أثره بين العرب كان شبه
مفقود. ولذلك لا يكون مارغوليوث خطرا على الإسلام والمسلمين مثل لويس ما
سينيون، لأن ماسينيون قد اختار له تلاميذ وأتباعا من الناطقين بالعربية ومن
المسلمين.
لويس ماسينيون مؤرخ ومستشرق
فرنسي كان مستشاراً في وزارة الخارجية لشؤون المستعمرات. كانت وفاته [عام
1962م]، اختار ماسينيون لنطاق دراساته في الإسلام الأحوالَ والنوادرَ. ومع
أنني لم أنتسب إلى جامعات فرنسا، فإنني حضرت نحو فصل من [عام 1936] في عدد
من معاهد باريس: في السوربون وكلية فرنسا ومعهد الدراسات العليا، وأذكر أن
ماسينيون ألقى في ذلك الفصل عددا من المحاضرات في فاطمة (بنت الرسول) وكان
فيما ذكره أن فاطمة كانت بعين واحدة، ولا أعلم أنا من أين أتى بذلك، ولم
أرَ من تتبع هذا الأمر من المصادر فائدة، وإنما أوردت هذا هنا حتى أدل على
اتجاه الرجل في معالجة تاريخنا وأوجه حضارتنا وثقافتنا وماسينيون مبشر
ثقافي وديني، وهو مؤسس الحركة المتوسطية القائلة «بأن للشعوب العائشة على
شواطئ البحر الأبيض المتوسط خصائص خاصة بهم ليست عربية من البادية
الجنوبية» هذه الحركة نشكو منها نحن كثيرا في لبنان، وأظن أن لها في مصر
أنصاراً.
واختصاص ماسينيون في الثقافة
الإسلامية « التصوف المتطرف « وبحوثه في الحلاج كثيرة ومعروفة، وغايته من
ذلك التشكيك في الإسلام السلفي، وهو بطبيعة عمله التبشيري يلح في البحث على
الصلة بين العناصر غير الإسلامية في التصوف.(22)
وهنا نلاحظ أن التصوف المتطرف
الذي ترفضه أغلب الفرق الإسلامية مما يعبر عن موقف الإسلام الحق، يدافع عنه
ماسينيون، لكأن ما تُجمع عليه أمةُ الإسلام يرفضه المستشرقون ومالا تجتمع
عليه يؤيده هؤلاء. فإذا ما عرف السبب بطل العجب، لأن الهدف لم يكن لوجه
العلم والمعرفة والمنهج بقدر ما كان من أجل الاستعمار الغربي الحديث للبلاد
الإسلامية، والدليل على ذلك – بما فيهم ماسينيون نفسه كما أسلفنا – أن
«كبار المستشرقين أو المستعمرين من أمثال الجنرال (Barth) بارتس
و(Faidherb) وموريس دولغوس من هم هؤلاء؟ كانوا ممن درسوا عوائد أهل بلاد
المسلمين، وعبَّدوا الطرق للمستعمرين أو كانوا يقودون الجيوش الغربية»(23).
فمن أين تأتي الروح العلمية والرغبة في المعرفة؟
ههنا دليل آخر يعزز فكرة الهدف
الاستعماري لمن درس الثقافة الإسلامية ممن يطلق عليهم مصطلح المستشرقين،
وهو أنه «ينبغي أن ننبه إلى أن الكثير ممن نسميهم بالمستشرقين لم يكونوا
علماء أو أساتذة جامعة أو رجال بعثات أثرية، بل كان بينهم العديد من
الجواسيس والموظفين في وزارات الخارجية ووزارات المستعمرات ودوائر
الاستخبارات وغير ذلك»(24). فإذا عذرنا علماء الإستشراق الأكاديميين في
نشأتهم المسيحية وكون العديد منهم قسيسين ورجال دين متعصبين، فكيف نعذر من
لا صلة له إطلاقا بالعلم والدرس والمنهج والأكاديمية ثم يُدلوا بدلوه في
الإستشراق وأمور العقيدة الإسلامية ويتحامل عليها فوق هذا وذاك وما زاد
الطين بلة قربه من الاستعمار وطلائعه إن لم يكن هو بذاته أحد طلائعه.
الدين الإسلامي عند أدم متز
في كتابه « الحضارة الإسلامية في القرن الرابع الهجري «هو التصوف، وأكاد
أقول ولا شيئ آخر غير التصوف؛ فمن حديثه عن معرفة الله عند الغنوصية
والمتصوفة ولا سيما قدمائهم وعلى رأسهم الحارث بن أسد المحاسبي في (الصفحة
19 من الجزء الثاني من الكتاب) ومرورا وبرأي الاصطخري والصولي في الحلاج
وإلى رأي الحجويري في فيه (في صفحة 65)، أعد آدم متز دراسة وافية عن التصوف
الإسلامي وخلاصة رأي آدم متز في التصوف الإسلامي هو موقف ماسينيون منه
وخاصة حين يقارن بين الباذر في التصوف والباذر في المسيحية، يقول آدم متز:
«وتدل أقدم الكتب الصوفية التي وصلت إلينا، وهي مصنفات الحارث بن أسد
المحاسبي المتوفي سنة [243 هـ ـ 858م]، دلالةٌ واضحة على أنه تأثر
بالنصرانية تأثراً، فإنه قد بدأ أحد كتبه بمثل الباذر المذكور عن المسيح،
والكتاب الآخر نستطيع أن نعتبره صورة مكبرة لخطبة الجبل. وكذلك نجد حكيم
الترمذي، وهو من كبار شيوخ الصوفية القدماء [توفى عام 285 ه – 898 م]،
يقول: إن عيسى عليه السلام خاتم الأولياء وهو يبين مكانته.»(25) فهل غاب عن
متز أن حكيم الترمدي بإمكانه أن يقول ذلك الكلام دون إن
يمس بانتقاص لشخص النبي محمد، ولاسيما إذا عرفنا أن الخطاب لا يجب أن يعزل
عن سياقه ولا سيما في حالات الحديث عن الأولياء قبل محمد والمقربين منهم
وعلى رأسهم أنبياء الله ؟ وهل عيسى إلا آخر نبي قبل بعثة النبي العربي
الأمي؟ والأدهى من ذلك أن في هامش الصفحة ذاتها يطالعنا
متز بما نصه: «والكتاب الأول هو كتاب (الرعاية لحقوق الله)، أطلعني الأستاذ
الفاضل لويس ماسينيون على صورته الفوتوغرافية، وينقل المحاسبي فيه عن بعض
الحكماء تمثيل الهادي بالباذر وكلامه بالبدر، والناس بأرض صالحة مثمرة أو
أرض ذات شوك يخنق الزرع أو صخر أملس لا يمكن الزرعَ من النماء، وهكذا. وتدل
المقارنة بين كلام المحاسبي وبين مثل الباذر في إنجيل لوقا مثلاً (الفصل
السابع والعشرين) على أن المحاسبي ينقل عن السيد المسيح عليه السلام، أما
الكتاب الثاني فلعله كتاب الوصايا، وهو المسمى كتاب النصائح».(26)
أولاً؛ لا
ينكر المتصوفة ولا المسلمون جميعا إيمانهم بالمسيح نبيا لله، لا يفرقون بين
أحد من رُسُله، ولا ينكرون أنه مسلم وأن جميع الأنبياء ملّتهم الإسلامُ
منذ أبيهم إبراهيم، ولا عقدة عندهم سواء أكانوا صوفية أم غير صوفية من
اتباع المسيح واتباع محمد، ولكن المسيح ودينه ليس هو المسيحية المحرفة
والمنسوخة بالإسلام الذي ورث رسالتها وعوضها.
وثانياً لكأن
الزرع والبذر لا يتخذ مثالا للهداية إلا عند السيد المسيح عليه السلام
والمسيحيين من بعده، لا يتجاوزهم إلى غيرهم، وهم منقطعون عن غيرهم تشابها
وامتدادا وأصلا واحداً، وهل الديانات السماوية الثلاث إلا من معين واحد؟
ويعتقد
متز أن
ماسينيون حين أتاه بالخطاب المسيحي في إنجيل لوقا الذي يتناصّ مع كلام
المحاسبي ولاسيما حين يضيف إليها معلومَة أخْذِ المحاسبي لكلام إنجيل لوقا،
حتى لا أقول كلام المسيح في إنجيل لوقا قد جاء بالتهميش والتقميش والدليل
النصي على مسيحية تصوف المحاسبي، ولا يدل على مجرد استشهاد بما وافق
الصوفية المسيحية من عناصر مسيحية فانظر إلى هذا الاكتشاف الباهر؟.
المشكلة أن العرب قد أصبحوا
أسرى هذه النظرة، أنظر إلى كامل مصطفى الشبيبي يقول: «واضح جدا أن التصوف
في بداياته كان متأثرا بسيرة السيد المسيح، وكان الرهبان في المجتمع العربي
منتشرين في بقاع كثيرة لأن المجتمع العربي كانت تسوده المسيحية قبل ظهور
الإسلام، إلا في مكة حيث كانوا وثنيين» والحق أن الحق مع المتسائل: لم ينسب
التصوف إلى الرهبان ولباس العرب الصوف من نتاج غنمهم والوبر لبيوت الشعر
عندهم أو خيامهم، ولم نسبة التقشف والزهد إلى المسيح الذي لم يتزوج، وقبله
كان يوسف صواما لكي يحس بجوعة الآخرين. والأقرب إليهم زمني محمد، وهو عنوان
الزهد؟
لا ننكر خطر التصوف المغالي على
الإسلام والمسلمين، ولا ننكر استعلال المستشرقين لهذا لمصالحهم وخدمة
أهدافهم ولا ننكر ما قيل به من اتصال الصوفي عبد الحق بن سبعين بالبابا إذ
ينقل عن نفح الطيب للمقري قوله: «إن الأمير أبا عبد الله بن هود، من أمراء
الأندلس، أرسل سفيرا من عنده إلى البابا برومة، أبا طالب بن سبعين أخا عبد
الحق فقال له البابا: إن أخاك ليس للمسلمين اليوم أعلم بالله منه»(27)،
ولكن هذا لا يدل على أن التصوف الإسلامي من أصول مسيحية ولا هو خادمٌ
للعقيدة المسيحية، وإن قال بعضهم بمبدا الدين الواحد من الصوفية أنفسهم
فليس مذهبه الغالب غلى مذاهب الحق منهم وكم هم المغالون في كل ملة ونحلة
ومذهب ؟
ولا ننكر أيضا هروبية بعض
المتصوفة والطُرُقيين في الجزائر من مجابهة الاستعمار الفرنسي وميْلهم إلى
سلبية القدرية المطلقة، كما أننا لا ننكر جهاد وحركية وفاعلية الأمير عبد
القادر الجزائري المتصوف.
لقد ناقش محمد علي أبو ريان في
محاضرته (مناقشة التفسير المسيحي للتصوف الإسلامي عند لويس ما سينيون
وبالنسبة للحلاج خاصة)، ونحاول أن ننقل بعضا من نصوصه في الرد عليه؛ ومنها
قوله: «ومن الطبيعي أن يكون للمسيحية حظها من التأثير، لا سيما وأن معظم
النَقَلَة السريان للفلسفة اليونانية كانوا من المسيحيين الذين ترجموا بعض
المصطلحات اليونانية الأصل بمحتوى مسيحي، كما نقلوا تاسوعات أفلوطين،
فأصبحت المبادئ الثلاثة عندهم وهي الواحد والعقل والنفس، أقانيمَ ثلاثة
متطابقة مع الثالوث المسيحي الأقدس، بل لقد اكتشف بول كراوس أن صوفية
المسلمين والمسيحيين على السواء قد استخدموا نصا بعينه من تاسوعات أفلوطين
يذكره صاحب الفهرست والقفطي وابن أبي أصيبعة وسائر الإسلاميين حيث يقول:
إني ربما خلوت بنفسي وخلعت قميصي (بدني) وصرت في موضع الفكرة بعد أن قويت
نفسي على تخليص بدَنَها، والرجوع إلى ذاتها، والترقي إلى العالم العقلي، ثم
إلى العالم الإلٓهي حتى صارت في موضع البهاء والنور الذي هو علة كل نور
وبهاء»(29)، ويقول: «لقد كان ماسينيون مثله مثل غيره من المستشرقين يتمسك
منذ أول مقال له في التصوف [سنة 1912] في مؤتمر أثينا للمستشرقين، وفي مال
له (أنا الحق) الذي شرح فيه مضمون هذه الشطحة الحلاجية التي كانت من أولى
العبارات التي دفعت بماسينيون إلى البحث العميق في فكر الحلاج بعد عودته من
بغداد في تلك السنة، فكان ماسينيون يتبيَّن الرأي القائل بأن التصوف
الإسلامي قام على أسس مسيحية منذ نشأته، ويبدو هذا من خلال معظم ما كتبه في
التصوف الإسلامي ولا سيما رسالته للدكتوراه عن عذاب الحلاج la passion
d`Alallaj، ويتفق البارون كارادي قو معه في هذا الرأي، بينما يتمسك
مستشرقون من أمثال هورتن ونيكلسون وجولدزيهر وغيرهم إما بخضوع التصوف من
نشأته للتأثير الهندي أو للتأثير الفارسي أو للتأثير اليهودي أو اليوناني
السكندري أو الغنوصي [...] إلخ. وكل فريق من هؤلاء يدافع بحجج واهية عن
موقفه، حتى خرجت مواقف التصوف من حوزة الفكر الإسلامي، وأصبحت مرتبطة كل
الإرتباط بفكر أجنبي مستورد سواء في النشأة أم التطور»(30)، وقوله: «ويبدو
أن ماسينيون قد التزم في موقفه بذلك الرأي القائل بأن التصوف الإسلامي قام
على أسس مسيحية رغم أنه يتساءل عما إذا كان الحلاج قد تأثر بأصول مانوية أم
لا، كما سنرى فيما بعد، ومما يدل على تمسكه هذا بالتأثير المسيحي أنه في
تفسيره للآية القرآنية ﴿ثم قفينا على آثارهم برسلنا وقفينا بعيسى بن مريم
وآتيناه الإنجيل وجعلنا في قلوب الذين اتبعوه رأفةً ورحمة، ورهبانية
ابتدعوها ما كتبناها عليهم الا ابتغاءَ رضوان الله فما رعوها حق رعايتها
فآتينا الذين آمنوا منهم أَجْرَهم وكثيرٌ منهم فاسقون﴾[الحديد 27]. وهو
يفسر هذه الآية بأنها لا تدعو إلى تحريم الرهبنة على الرغم من الحديث
النبوي القائل: (لارهبانية في الإسلام)، ويرى ماسينيون أن هذا الحديث منحول
ذاهبا إلى أنه ابْتَدع حوالي القرن الثاني للهجرة لكي يؤكد تفسير الآية
السابقة والذي يستنكر ويمنع الرهبانية في الإسلام»(31)، وقوله: «والحق أن
نظام الزهد عند المسلمين كان يختلف كثيرا في نشأته عن نظام الرهبنة في
المسيحية، فبينما يحيا الرهبان حياة الرهبانية، ويمتنعون عن الزواج
ويتقوقعون في الأديرة المنعزلة، ويقعدون عن التكسب، نجد أن الزهاد المسلمين
كانوا يتأسون بقوله تعالى ﴿ولا تنس نصيبك من الدنيا﴾[القصص 77]، ثم أنهم
يقبلون على الكسب طلبا للرزق ولا ينتظرون الإحسان والنفقة من جيوب
المؤمنين، ولا يتواكلون بل إنهم يتوكلون على الله، على الرغم من وجود بعض
الإستثناءات التي ظهرت فيما بعد لدى صوفية مسلمين يعيشون على أموال الإحسان
في الرُبَط والزوايا والتكايا والخانقاوات كاللامتية والقادرية
والنقشبندية [...]، إلخ»(32). وقوله: «ومما يؤكد انتماء الحلاج للنزعة
الشعوبية الفارسية أن التفسير المسيحي لموقفه عند ماسينيون كان مؤقتا
بالنسبة للحلاج نفسه، كما سنرى أنه كان متصوفاً متعصباً لفارس ولفكرها مثل
السهروردي الإشراقي الذي يذكر في كتابه (المطارحات) أن فارس هي مصدر حكماء
الإشراق، وأن منهم فتى بيضاء
ـ أي الحلاج ـ الذي استقى الخميرة الأزلية من موطن الحكمة الفهلوية ـ أي
فارس القديمة ـ، ويعني ذلك أن مذهب الحلاج الحقيقي إنما يقوم على أساس من
الزرادشتية الفارسية أو نحلتها المتأخرة المسماة بالمانوية، وليس على أساس
مسيحي كما يرى ماسينيون»(33)، وقوله «وهكذا فإنه على الرغم من العبارات
التي يستخدمها ماسينيون في وصف موقف الحلاج بأنه مسيح عصره ـ على الرغم من
ذلك ـ فإن الحلاج ماض في طريقه الصوفي. وربما أعطى لنا نموذجا للقطب الصوفي
في صورة المسيح، إلا أن المسيح إنما يخلّص البشر من الخطيئة الأصلية مرة
واحدة، ولكنه لا يوكل أمر الخلاص إلى أبدالٍ أو مشايخَ للتصوف يرعون الصوفي
في صعوده التدريجي نحو الحضرة الإلٓهية، وسنرى كيف أن الحلاج ـ كغيره من
الصوفية ـ لا يتم التطهر لديه مرة واحدة كما يحدث بالنسبة للخلاص المسيحي،
بل لا بد من أن يترقَّى المريد في تطوره خلال أربعين مقاما صاعدة»(34). إلى
غير ذلك مما تتبّعه ماسينيون مما رآه أنه توصل إليه من مسيحية التصوف
الحلاجي على مستوى أسطورة جبل الجلجلة، وشعور الحلاج بأنه سينتهي كما انتهى
المسيح، وإباحة دمه للآخرين كالمسيح، حين قال الحلاج: «انا الحق» إلى
غيرها مما ادعاه ماسينيون وتطول وقفة مناقشته والرد عليه