ونكاد نرى أن إخفاق المشروع الإصلاحي في المرحلتين
المذكورتين، كانت من ورائه قدرة الغرب على اختراق العالم العربي وإجهاض
مطامحه. والغرب هنا مفهوم لا يصح أخذه كبنية سوسيو-ثقافية وسياسية
وحضارية واحدة موحَّدة، وهذا ما وقع على أيدي جموع مفكرين عرب، مثل
الراحل إدوارد سعيد، ومن ثم فغرب الغزو هو غرب الاستعمار والهيمنة
والسيطرة على العالم عموماً. بمعنى أن التقاطع بين العالم العربي
الحديث والغرب في حينه، كما في حالته (العولمية) الراهنة، كان بمثابة
تقاطع بين عالمين يحكمهما قانون الغلَبة أو التفوق التاريخي: عالم عربي
يكاد يصحو باتجاه نهوض جديد، يواجهه عالم غربي سبق أن حقق الكثير من
مشروعه الحديث، الليبرالي الاستعماري، مما أنتج وشماً راح يتوضّع في
شخصية المشروع العربي المتعثر ثم المُخترق والمُلاحق.
في ضوء ذلك،
نقول إن الاضطراب والتعثّر اللذين أصابا مشروع النهضة العربية، أحدثا
شرخا في خطاب الإصلاح العربي تجسد عبر انقسامه إلى اتجاهين متقاطبين،
أحدهما ذو بعد ماضويّ وآخر ذو بعد عصْروي، مما ولّد ثنائية الماضي
والعصر، والتي تبلورت في صيغة الاختيار القاطع بين الماضي والحاضر: إما
هذا وإما ذاك!
وإذ نكتفي بهذه الإشارة إلى الموقف من الإصلاح
العربي، نذكر أن هذا الأخير أخذ يتنامى عمقاً وسطحاً في المرحلة
العربية الراهنة مع تعاظم الانكسارات العربية، وفي مقدمتها اثنان
كبيران خطيران: الغزو الأميركي للعراق، والإخفاق المثير لمشروع الإصلاح
الديمقراطي العربي، خصوصاً في سوريا ومصر.
يجيء ذلك الوضع الخطير
ليرمي بثقله على كاهل المثقفين والباحثين والكتاب العرب، ومَنْ في
القرب منهم ضمن الوسط السياسي. وقد أخذنا نلحظ ذلك عند أحد مشاهير
المثقفين والباحثين المذكورين، وهو الدكتور محمد عابد الجابري، الذي
كتب عدداً مهماً من الدراسات والأبحاث الفكرية والتراثية اتّسمت بكونها
جريئة ومحفزّة للبحث العلمي، إضافة إلى كونها مثيرة للجدل. وقد جاء
كتابه الأخير قبل بضعة أشهر، بعنوان "في نقد الحاجة إلى الإصلاح" ويتضح
من نصه أن الإصلاح المطلوب الآن في الحقل العربي الإسلامي، إنما يستمد
مرجعيته النظرية -حسب المؤلف- من المفهوم العربي الإسلامي للإصلاح.
وهذا الأخير -كما يُفهم في سياق الكتاب- ينطلق من أن القول بـ"الفساد"
يعني الإقرار بوجود الفساد في الشيء الذي يتقوّم بمادة وبصورة، مِمّا
يُفضي إلى القول بضرورة استنباط قضية الإصلاح واستحقاقاته أو حيثياته
من الوضعية التي تجسَّد فيها قبل تعرّضه للفساد.
إن السياق الذي
تأتي فيه قضية الإصلاح، قد يعزز الاتجاه نحو الاعتقاد بأننا أمام منحى
ماضوي للقضية المذكورة. أما الركيزة المنهجية لهذا المنحى فقد ظلت نصف
مضمرة، مما يتيح الظن بأن مصطلح "الجوهر في ذاته" يقع في الخلفية من
ذلك المفهوم. ولابد أن الاستشهاد بالقولة الشهيرة المنسوبة إلى الإمام
مالك وهي (لا يصلح آخر هذه الأمة إلا ما بما صلح به أولها)، يكرس ذلك
ويُعزّزه. وهذا شأن يقع على البحث العلمي، التاريخي والتراثِي خصوصاً،
موقعاً ثقيلاً يُحيل إلى "الأصولية الماضوية" بصيغة غير مباشرة. وإذا
كان الأمر كذلك، فمن واجب القيّمين على مشاريع الإصلاح في البلدان
العربية -إن وجدت هذه المشاريع- أن يضربوا صفحاً على أمرين اثنين؛ يظهر
أولهما في تاريخية "الجوهر في ذاته"، أي في كيفية تمظْهره وتجلّيه في
أنماط متعددة من التغيّر التاريخي. أما الأمر الثاني فيفصح عن نفسه
بصيغة إقصاء الحاضر المعيش بوصفه مركز الحدث والذي في ضوئه -شئنا أم
أبينا- نسلط الأضواء على ماضينا، كما نحاول صوغ معالم مستقبلنا، مما
يُنهي وهم الثنائية المذكورة بين الماضي والحاضر.