مع التحولات الكوكبية الكبرى، التي عاشها
العالم -وما يزال يعيشها- ظهر أحد المفاهيم
السياسية بقوة لاهثة في أوساط سياسية وأخرى عامة:
هو مفهوم "المواطَنة". وإذا لم يفاجئ هذا الأخير
الأوساط المذكورة بسبب من أنه ليس جديداً في تاريخ
الفكر السياسي والاجتماعي المدني، إلا أنه ظهر
فعلاً كأنه كذلك، أي جديداً. ولعل ما جعل الأمر
يبدو على هذا النحو الإيقاع المتلاحق، الذي تجلّى
فيه.
لقد تحوّل مفهوم المواطنة إلى شعار سياسي
واجتماعي عمومي، يطالب بتحقيقه كمٌّ كبيرٌ من
الناس المتوزّعين على أقليات عرقية وإثنية قومية
في عدد كبير من المجتمعات، ومنها العربية. وراح
هؤلاء يشدّدون على حقوق أغفلوها فيما قبل أو
أرغِمُوا على إغفالها ونسيانها. بل ظهر ما هو أعظم
من ذلك. لقد ظهر أن "الأكثرية" أو "الأكثريات" في
المجتمعات المذكورة هي نفسها كذلك خاضعة لاختراق
حقوقها في المواطنة كما في غيرها. وبذلك، تساوت
تلك الأقليات عموماً مع هذه الأكثرية. وتبيّن ذلك
على أساس إن النظم الأمنية المهيمنة في معظم
البلدان العربية لا تترك استثناء في هذا المجال من
حقوق الإنسان، مجال المواطنة، فهي تلتهم الجميع
بالاعتبارين البنيوي والوظيفي السياسي. والذي يلفت
الانتباه أن عملية إقصاء "الأقليات" في المجتمعات
العربية تمّت وتتم، تحت غطاء فضفاض أسهبت النظم
العربية في تعميمه وتحويله إلى المسوّغ الأهم
لإقصائها من الحياة السياسية والثقافية الكبرى،
ألا وهو الحفاظ على وحدة الأمة (العربية) أو الشعب
(العربي)، دون أن يقال: على "صفاء" الأمة أو الشعب
المذكورين. بيد أنه مع التحولات التي أتت على
الاتحاد السوفييتي ثم التي جاءت مع النظام العالمي
الجديد الحالي، راحت الأقليات في المجتمعات
العربية و(غيرها) تظهر بقوة، لتُحدث حالة من
التحول المتنامي في "الهندسة الديموغرافية": ما
كان غائباً ومغيّباً، أصبح حاضراً؛ وما أصبح
حاضراً، راح يكافح من أجل وجوده الثقافي الإثني
الرسمي. بل في بلدان عربية معينة كان خطاب إقصاء
"الأقليات" يتجه إلى أقليات إما مذهبية دينية في
دين واحد كالإسلام، وإما طائفية، وإما عشائرية،
مما يدلل على حضور معين للمجتمع ما قبل الوطني،
وهو يمنح المشكلة المعنية هنا مزيداً من
التعقيد.
كانت اتجاهات المكافحة الصامتة للأقليات في بعض
المجتمعات العربية، قدا اكتسبت صيغاً متعددة
للهندسة الديموغرافية، برز منها العمل على تشظية
أبناء هذه الأقليات جغرافياً واقتصادياً، بحيث
يكفّون عن أن يكوّنوا قوة ضاغطة على الدولة. وقد
ظهر، في سوريا مثلاً، ما اعتُبر سداً أو سياجاً
أخضر كحدٍ لا يجوز للأقليات أن تتجاوزه، مما كان
عليه أن يُضعفها اقتصادياً، ومن ثم أن يدعوها إلى
الهجرة، وجاء ذلك مسوَّقاً تحت حقل عدم السماح
باقتراح وحدة الشعب. وسار ذلك متوازياً مع تأجيج
خطاب قومي أفضى -في الصيغة التي أتى فيها- إلى
كوارث اجتماعية وسياسية وثقافية وعسكرية. وبهذه
المناسبة، يمكن الإشارة إلى اختراقين خطيرين تعرض
لهما الخطاب المذكور، وهما غياب الديمقراطية عنه
أولاً، وهيمنة ذلك الخطاب على صعيد الإيديولوجيا
فحسب، بحيث كان مَنْ أفاد منه طُغمٌ سلطوية وبحيث
كان من تضرّر منه ليست الأقليات المعنية هنا فحسب،
وإنما كذلك سواد الشعب من "الأكثرية".
إن بروز مشكلة الأقليات في بعض البلدان العربية
إذا ما أُريد له أن يجد حلولاً ناجعة له، فإن
مواجهة هذه المشكلة على نحو يأخذ بسياقها التاريخي
وببنيتها المعقدة، يصبح أمراً لابد منه، حتى يكف
المعنيون في البلدان المذكورة عن الاعتقاد بأن تلك
الأقليات تمثل ينبوعاً لا ينضب في أيدي "القوى
الأجنبية".