لا
يقرُّ الفقه الإسلامي، قديمًا وراهنًا، بالمساواة في الحقوق والواجبات ما بين
مواطني الدولة القائمة على الشريعة الإسلامية. هذا الفقه، وإن زعم تبنِّيه المواطنة
أساسًا للحكم، لا يزال يميِّز بين المواطنين على أساس دينيٍّ ومذهبيٍّ. أمَّا حين
يتحدَّث بعض الفقهاء والمفكِّرين الإسلاميين عن المواطنة، فتراهم يضعون استثناءات
أو تحفُّظات تشريعية عن مشاركة غير المسلمين في الدولة الإسلامية.
"أهل الذمَّة" اصطلاح لا يذكره القرآن الذي ترد فيه عبارة
"أهل الكتاب"، أي اليهود والنصارى والصابئون والمجوس[1].
فيما يخصِّص الفقه الإسلامي، في مذاهبه كافة، بابًا خاصًا بأصول التعامل مع "أهل
الذمَّة" القاطنين رحاب الدولة الإسلامية. ويتوسَّع هذا الفقه في الحديث عن
"الجزية"، وهو لفظ يَرد مرةً واحدة في القرآن[2]،
التي يجب على "أهل الذمَّة" أداؤها لقاء بقائهم في دولة الإسلام وعدم التعرُّض لهم.
فُرضت الجزية خلال حقب عدة من التاريخ الإسلامي على "أهل الكتاب" من الأمصار
المفتوحة. كما كُتب العديد من المؤلَّفات الفقهية عن تفاصيل الجزية وتفرُّعاتها.
تتفاوت، اليوم، مواقف الإسلاميين من قضية أداء الجزية في البلاد الإسلامية التي
تسكنها مجموعات من "أهل الكتاب". تراوح هذه المواقف بين إعادة فرض الجزية كونها
مقرَّرة في القرآن، وبين إلغائها أو تغيير اسمها إذا كانت تزعج المواطنين من "أهل
الكتاب". يُلاحظ في كتابات الإسلاميين، عند تناولهم موضوع الجزية، كلامهم على
المواطنة واتِّفاقها مع الشريعة الإسلامية، وتاليًا تأصيلها في التراث الإسلامي
ومدى انسجامها مع مفهوم "أهل الذمَّة" عند الفقهاء.
لا يتوانى الشيخ يوسف القرضاوي عن مقارنة مفهوم الذمَّة في
الإسلام مع مفهوم "الجنسية" المعاصر، فيقول: "هذه الذمَّة تعطي أهلها من غير
المسلمين ما يشبه في عصرنا الجنسية السياسية التي تعطيها الدولة لرعاياها، فيكتسبون
بذلك حقوق المواطنين ويلتزمون واجباتهم. فالذمِّيُّ على هذا الأساس من أهل دار
الإسلام كما يعبِّر الفقهاء أو من حاملي الجنسية الإسلامية كما يعبِّر المعاصرون"[3].
في مكان آخر يقول: "وأهل الذمَّة يحملون جنسية دار الإسلام، وبتعبير آخر هم مواطنون
في الدولة الإسلامية"[4].
يؤكد الشيخ محمد الغزالي في المنحى عينه أنَّ اليهود والنصارى الساكنين في ديار
الإسلام "أصبحوا من الناحية السياسية أو الجنسية مسلمين، في ما لهم من حقوق وما
عليهم من واجبات، وإنْ بقوا من الناحية الشخصية على عقائدهم، وعباداتهم وأحوالهم
الخاصة"[5].
ويؤكد الشيخ محمد سعيد رمضان البوطي أنَّ الذمِّيَّ "مواطنٌ يملك من حقِّ المواطنة
ما يملكه المسلمون دون أيِّ تفاوت في الدرجات"[6].
ويؤكِّد الشيخ وهبة الزحيلي أنَّ من حقوق أهل الذمَّة "اكتساب الجنسية الإسلامية
والحقُّ في التجنُّس والرعوية الكاملة"[7].
يذهب الشيخ راشد الغنوشي المذهب عينه، إذ يعتبر أنَّ
"الذمَّة" تفيد "حقَّ المواطنة في الدولة الإسلامية"، وأنَّ مصطلح "أهل الذمَّة"
ليس "لازم الاستعمال في الفكر السياسي الإسلامي طالما تحقَّق الاندماج بين
المواطنين وقامت الدولة على أساس المواطنة، أي المساواة حقوقًا وواجبات"[8].
وبعد أن يقول بالمساواة بين جميع المواطنين، مسلمين ومسيحيين، يستثني المسيحيين في
ما يخص "مقتضيات النظام العام أو هوية المجتمع ونوع القيم العليا التي تحكمه".
ويوافق رأي الشيخ حسن الترابي رأي الغنوشي من حيث الاعتراف بمواطنة المسيحيين
المشروطة بخضوعهم لمقوِّمات الدولة الإسلامية، فهو يقول: "وكفلت أصول الإسلام
وشرائعه للمواطنين من المسلمين وغيرهم من أهل الكتاب الحقوق العامة المتساوية، ما
التزموا الواجبات العامة في الدولة والموالاة بعضهم لبعض. فلهم ما لنا وعليهم ما
علينا"[9].
النبي محمد في ضيافة الرهبان في الطريق إلى الشام، منمنمة عثمانية من القرن السادس
عشر
غير أنَّ الغنوشي يرى امتيازات يتمتَّع بها المسلم في الدولة
الإسلامية محجوبة عن غير المسلم، ولا يرى أيَّ ضير في ذلك. فهو يعتبر أنَّ المسلم،
بحكم إسلامه وانتمائه إلى الإسلام، يعلو على غيره من غير المسلمين ويحقُّ له ما لا
يحقُّ لغيره من مواقع. وتكون المواطنة، بالنسبة إليه، مواطَنتين: واحدة خاصة
بالمسلم وثانية خاصة بغير المسلم. تقوم نظريَّته على القول بأنَّ "المواطنة في
الدولة (الإسلامية) تُكتسب بتوفُّر شرطين هما الانتماء للإسلام والسكن في قطر
الدولة الإسلامية، معنى ذلك إمكان تصوُّر مواطنة خاصة لمَن توفَّر فيه شرط واحد:
بالنسبة إلى المسلم خارج إقليم الدولة – أي مجال سيادتها – وبالنسبة إلى غير المسلم
القاطن في إقليم الدولة وأعطى ولاءه لها. وهذان النوعان من المواطنة الخاصة يُكسبان
صاحبهما حقوقًا هي دون حقوق المواطن الذي استكمل الشرطين، وكلٌّ منهما يملك استكمال
الشرطين، الأول بالانتقال إلى إقليم الدولة، والثاني بدخوله الإسلام، فإذا آثر غير
ذلك تحمَّل بالطبع مسؤولية اختياره"[10].
أمَّا الوظائف التي يحرِّم على غير المسلمين تولِّيها في الدولة الإسلامية فهي
المواقع الرئيسية ذات المساس "بهويَّتها" كالرئاسة العامة مثلاً[11].
في مكان آخر يقول الغنوشي: "إنَّ المساواة في الحقوق والواجبات على أساس المواطنة
هي الأصل، وأنَّ التميِّزات التي تفرضها الطبيعة العقدية للدولة الإسلامية لا ينبغي
أن تُسقط ذلك الأصل. فلغير المسلم الحق في تولي كلِّ الوظائف، عدا ما اقتضته
الخصوصية الإسلامية لوظيفة معينة"[12].
أمَّا في ما يتعلَّق بوظائف الدولة التي يمكن "أهل الذمَّة"
أن يشغلوها، فقد ميَّز الفقهاء في هذا الشأن بين الوظائف التي يمكن غير المسلمين أن
يتولوها والوظائف التي لا يمكن إلا المسلمين أن يتولوها. يقول القرضاوي في هذا
الصدد: "ولأهل الذمَّة الحق في تولي وظائف الدولة كالمسلمين. إلا ما غلب عليه
الصبغة الدينية كالإمامة ورئاسة الدولة والقيادة في الجيش، والقضاء بين المسلمين،
والولاية على الصدقات ونحو ذلك"[13].
وقد ميَّز علماء المسلمين بين ما يسمَّى "وزارات التنفيذ" و"وزارات التفويض"،
فقالوا بجواز تولي غير المسلمين لوزارات التنفيذ من دون وزارات التفويض. وذلك لأنَّ
"وزير التنفيذ يُبلِّغ أوامر الإمام ويقوم بتنفيذها (...) بخلاف وزارة التفويض التي
يكل فيها الإمام إلى الوزير تدبير الأمور السياسية والإدارية والاقتصادية بما يراه"[14].
يعتبر السيد محمد حسين فضل الله أنَّ الإسلام دين عبادة ودين
مدنية، وعلى هذا الأساس يعطي الإسلام لغير المسلمين دورًا في مجتمعه، فيقول: "إنَّ
الجانب المدني في الإسلام يعطي للمسيحيين حقَّ المواطنية كما يعطيها للمسلمين مع
بعض التحفُّظات التشريعية التي لن تنال من كرامة أحد"[15].
أمَّا هذه التحفُّظات التي أشار إليها فضل الله فيعرضها في مكان آخر قائلاً:
"الدولة الإسلامية لا تفرِّق بين مواطنيها في مواطنيَّتهم إلا بالمدى الذي يلتزمون
فيه الخطَّ العامَّ للدولة في الفكر الذي يرتكز عليها أساسها لأنَّه لا معنى
للمساواة العامة بعيدًا عن ذلك، ولهذا فإنَّ الذين لا يلتزمون الفكر العام لا دور
لهم في القرارات المصيرية القائمة على هذا الفكر، على مستوى العلاقات والتشريعات
التي لا بدَّ أن تنطلق من القناعات بالأساس الذي ترتكز عليه الدولة، ولكنهم يعيشون
مواطنيَّتهم مع الآخرين في الحقوق والواجبات بحيث يشاركون في القرارات السياسية
والاجتماعية والاقتصادية في ما عدا الجوانب العسكرية التي قد تصطدم بقناعات هؤلاء"[16].
يبدو أنَّ فضل الله يستبعد المسيحيين عن الخدمة العسكرية خوفًا من أن تتعارض قناعات
المسيحيين مع الحرب التي يقوم بها المسلمون، ولا يرى غضاضة في دخول المسيحيين الجيش
إذا توفَّرت "الضوابط الأمنية العامة لحركة الحرب وأمن المحاربين"[17]،
أي إذا وُضع لكلِّ مسيحي يدخل الجيش عنصرٌ أمنيٌّ يراقبه!
يدافع فضل الله عن مبدأ الجزية معتبرًا أنَّ الإسلام قد منحها كامتياز لأهل الكتاب
على بقية المواطنين من المسلمين. وأمَّا تعبير "الصغار" الوارد ذكره في الآية
القرآنية الكريمة (التوبة
9،
29)،
والذي يعني، لغةً، في ما يعنيه الذلَّ والهوان، فهو بالنسبة إليه "تعبير عن الخضوع
للسلطة العامة بعد التمرُّد عليها"[18].
هذا الامتياز المسمَّى "الجزية" يراه فضل الله مؤسَّسًا على القرآن الكريم الذي
يميِّز بين أهل الكتاب، ومنهم المسيحيون، وبين المشركين. فبينما يدعو القرآن الكريم
المشركين إلى الدخول في الإسلام، يدعو المسيحيين إلى دفع الجزية فقط، ويعلِّق فضل
الله على هذا الأمر قائلاً إنَّ القضية لو كانت قضية اضطهاد فكري لكانت المسألة "أو
يسلمون" عوض أن تكون "حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون"[19].
وهو، هنا في هذا السياق، يستشهد، بشأن المشركين، بالآية القرآنية الكريمة التي
تقرِّر: "قُلْ للمخلفين من الأعراب ستدعون إلى قومٍ أولي بأسٍ شديدٍ تُقاتلونهمْ أو
يُسلمون فإنْ تطيعوا يؤتكم الله أجرًا حسنًا وإنْ تتولوا كما توليتم من قبل
يعذِّبكم عذابًا أليمًا" (الفَتْح
48،
16)، ليستنتج أنَّ الإسلام إنما
منح المسيحيين امتيازًا إذ فرض عليهم الجزية، في حين أنه أمر المسلمين بمقاتلة
المشركين حتى يسلموا.
يدافع فضل الله أيضًا عن تعبير "أهل الذمَّة" منطلقًا من كون
غير المسلمين "أقلية" في الدولة الإسلامية وينطبق عليهم ما ينطبق على غيرهم من
الأقليات، سياسية أو دينية، في أيِّ دولة من دول العالم. ويعتبر أيضًا أنَّ هذا
التعبير لا يسيء إلى "إنسانية الإنسان بل يحترم إنسانيته ويضمن له حقوقه". وإذا
تساءل المسيحيون لماذا لا نستطيع الوصول إلى المناصب العليا للقرار؟ فالجواب عند
فضل الله موجود: "فأيَّة دولة تقوم على فكر معين لا يمكن أن تسمح لأيِّ شخص لا يؤمن
بهذا الفكر بأن يصل إلى مراكز القرار"[20].
غير أنَّ القرضاوي يصرُّ على إعلاء الرابطة الدينية على كلِّ
ما عداها من الروابط. لذلك، يرفض التسامح القائم على "تمييع" الأديان، بدعوى
"الوطنية أو القومية"، معتبرًا أنه لنفاق زائف إعلاء الرابطة الوطنية أو القومية
على الرابطة الدينية، أو إعلاء العلمانية على الرابطة الدينية. ويرفض، تاليًا،
التنازل عن دينه أو تركه بدعوى التسامح أو الانفتاح. فبالنسبة إليه، "ليس من
التسامح أن يُطلب من المسلم تجميد أحكام دينه، وشريعة ربَّه، وتعطيل حدوده، وإهدار
منهجه للحياة، من أجل الأقليات غير المسلمة، حتى لا تقلق خواطرها، ولا تتأذى
مشاعرها". التسامح، عنده، يقوم "على ما أمر به الدينان من حسن الجوار، وحب الخير
للجميع، ووجوب العدل مع الجميع"[21].
يرفض محمد الغزالي، بدوره، مفهوم القومية إذا تعارض ذلك مع
إيمانه بالإسلام. وهو يعتقد أنَّ الوحدة الوطنية والقومية بين المسلمين والمسيحيين
ينبغي ألا تقوم على مبدأ الابتعاد عن الإيمان أو باعتماد العلمانية، فيقول: "أمَّا
أننا مصريون فنحن لا ننكر وطننا ولا نجحده، وأمَّا أنَّ شرط المصرية الصميمة
الانسلاخ من الإسلام فهذا ما نستغربه. أيُّ غضاضة يا قوم، في أن تكون الوحدة
الوطنية بين متدينين لا ملحدين"[22].
وهو نفسه يقول في مكان آخر إنه يستريح "إلى قيام اتحاد بين الصليب والهلال، بيد
أننا نريده تعاونًا بين المؤمنين بعيسى ومحمد لا بين الكافرين بالإسلام والمسيحية
جميعًا"[23].
يستبعد الغزالي، إذًا، أيَّ إمكان لاتحاد قومي أو وطني جامع بين المسلمين
والمسيحيين لا يكون عماده الإيمان بالله على أساس الإسلام والمسيحية.
ينحو الشيخ سعيد حوَّى المنحى ذاته، إذ يرفض التخلي عن
المبادئ الإسلامية من أجل صيغة غير إسلامية تجمع المسلمين وغير المسلمين في الدولة
الواحدة، فيقول: "إنَّ شعوب الأمة الإسلامية لن تتخلَّى عن الإسلام، التاريخ شاهد،
والواقع شاهد، وبالتالي فغير المسلمين بالخيار: أن يرحلوا، أو يتعاقدوا مع المسلمين
على صيغة عادلة. فإن أرادوا الثالثة – أي أن يتخلَّى المسلمون عن إسلامهم – فهذا لن
يكون لهم ولا لغيرهم"[24].
ثم يحذِّر حوَّى غير المسلمين لأنَّ الإسلام لا بدَّ سيحكم، لذلك ينصح لهم بالإسراع
"للبحث عن صيغ للتعاقد مع المسلمين ترضي كلَّ الأطراف، قبل أن يأتي اليوم الذي
يُفرض فيه هذا التعاقد من طرف واحد"، مؤكِّدًا أنَّ هذا الفرض، يوم يحصل، "لن يكون
إلا لصالح الجميع"[25].
لا يسع قارئ "وثيقة الأزهر" (حزيران
2011)،
التي أعلنها شيخ الأزهر الدكتور أحمد الطيِّب، في شأن مستقبل مصر، إلا أن يلاحظ
العديد من الأمور الإيجابية التي تتضمَّنها. أهمها ما ورد في البند الأول عن "دعم
تأسيس الدولة الوطنية الدستورية الديموقراطية الحديثة"، القائمة على "دستور ترتضيه
الأمة، يفصل بين سلطات الدولة ومؤسَّساتها القانونية الحاكمة، ويحدِّد إطار الحكم،
ويضمن الحقوق والواجبات لكلِّ أفرادها على قدم المساواة، بحيث تكون سلطة التشريع
فيها لنواب الشعب".
سرعان ما يشعر القارئ بالتناقض حين تشترط الوثيقة أن تكون سلطة التشريع المنوطة
بنواب الشعب متوافقة "مع المفهوم الإسلامي الصحيح"، وحين تشترط أيضًا "أن تكون
المبادئ الكلية للشريعة الإسلامية هي المصدر الأساسي للتشريع". فيتساءل القارئ: مَن
هي المرجعية التي تحدِّد المفهوم الإسلامي الصحيح للتشريع؟ فيأتيه الجواب في البند
الحادي عشر الذي يؤكِّد "اعتبار الأزهر الشريف هو الجهة المختصَّة التي يُرجع إليها
في شؤون الإسلام وعلومه وتراثه واجتهاداته الفقهية والفكرية الحديثة".
عبر هذه الوثيقة ينصِّب الأزهر نفسه سلطةً عليا فوق سلطة مجلس النواب. فالكلام واضح
ولا لبس فيه، إذ يتعيَّن على مجلس النواب المنتخب من الشعب لمهمَّة التشريع الخضوع
لرأي الأزهر في مسألة سنِّ القوانين والتشريعات. وليس لمجلس الشعب أن يقرَّ أيَّ
قانون لا يتَّفق والرؤية "الإسلامية الصحيحة" التي يقرِّرها علماء الأزهر. وهذا
يتناقض وقول الوثيقة بأنَّ "الإسلام لم يعرف لا في تشريعاته ولا حضارته ولا تاريخه
ما يُعرف في الثقافات الأخرى بالدولة الدينية الكهنوتية التي تسلَّطت على الناس".
أليس تنصيب الأزهر نفسه مرجعًا على الدولة إنما هو نوع من أنواع الدولة الدينية
الكهنوتية؟ ألم يقع الأزهر، بذا، في الفخِّ الذي يحاول تحذير الناس منه؟
صحيح أنَّ الوثيقة تقرُّ "لأتباع الديانات السموية الأخرى الاحتكام إلى شرائعهم
الدينية في قضايا الأحوال الشخصية"، غير أنَّ هذا لا يكفي للقول بأنَّ مواطنة غير
المسلمين قد أضحت كاملة بفضل هذا الإقرار. فالمسألة ليست في الأحوال الشخصية أو في
بناء الكنائس أو في سواها من القضايا، بل في المساواة التامة في الحقوق والواجبات
الفردية. ما يؤكِّد حذرنا هو رأي الدكتور حسن الشافعي مستشار شيخ الأزهر بالدولة
الوطنية الديموقراطية التي هي، وفق قوله، "دولة الدين الإسلامي الرئيسي للتشريع
(...) فالجميع يجب أن يدرك أنَّ تطبيق الشريعة الإسلامية هو ضمان للتعددية وحرية
الاعتقاد وممارسة العبادات لأصحاب الديانات السموية الأخرى، الذين تكفل لهم الشريعة
الإسلامية أيضًا الاحتكام إلى شريعتهم في ما يتعلَّق بشؤونهم وبالأخصِّ في الأحوال
الشخصية". ليست الشريعة الإسلامية هي الضمان للتعددية وحرية الاعتقاد... بل الدولة
المدنية الحقيقية التي تحترم الاعتقادات الدينية والتي لا سلطة دينية تعلو عليها،
هي الدولة المدنية التي يعود سلطان التشريع إلى الشعب وحده ممثَّلاً بنوابه
المنتخبين.
مع ظاهر الإيجابيات التي تتضمنها الوثيقة الأزهرية، ثمَّة فخاخ عدة قد تؤدي إلى عكس
ظاهرها. وليس تأكيد مرجعية الأزهر، الذي يمكن وضعه في سياق قطع الطريق أمام مرجعيات
سلفية أو متشدِّدة، سوى تأكيد مأزق الفكر الإسلامي في شأن الدولة المستقبلة. متى
تخرج المؤسَّسات الدينية من الازدواجية في الخطاب، ومن الجمع ما بين أمرين لا
يجتمعان؟
المواطنة، وفق الأدبيات الفقهية الإسلامية، هي مواطنة تنقصها المشاركة في القرارات
التشريعية والعسكرية. وأهمُّ عامل يمكن التدليل به على المواطنة الصحيحة والمساواة
التامة بين المواطنين إنما هو المشاركة في شؤون الدولة كلَّها ولاسيما التشريعية
والعسكرية بالإضافة إلى السياسية. لذلك، يسعنا القول بأنَّ ثمَّة ظاهرًا وباطنًا في
هذه الأدبيات، فاصطلاح "المواطنة" ليس سوى "ذمِّيَّة" كامنة تنتظر الظروف المؤاتية
لتصبح واقعًا ملموسًا.