الدين الساكن" و"الدين المتحرك"
د.
طيب تيزيني يتحدث الفيلسوف الفرنسي "برغسون" في كتابه "منبعا
الدين والأخلاق" عن نمطين من الدين، ويطلق على الأول منهما مصطلح "الدين
الساكن"، في حين يحدد النمط الثاني بـ"الدين المتحرك". ولعل "برغسون" يعني
بذلك أن الأول يعبر عن البنية اللفظية الظاهرة، وأن الثاني يجسد البنية
الدلالية الباطنة. وفي هذه الحال، يمكن القول إن منظومة العبادات والشرائع
والشعائر والطقوس تلخص البنية الأولى، وإن منظومة الحياة الروحية الداخلية
تتجلى في البنية الثانية. ومن ثم، فإن الثابت هنا يُفصح عن نفسه مرة واحدة،
أما المتحرك فيتجلى في وضعيات دلالية متغيرة ومفتوحة.
والحق، إن ذلك التصنيف الثنائي يمتلك من الصّدقية
المعرفية ما يجعله صالحاً لدراسة تاريخ الأديان في ضوئه وبمقتضاه. لكن
التعمق في ذلك، خصوصاً بالاستناد إلى نظرية النص والعلوم الاجتماعية
والإنسانية المختلفة، قد يضع يدنا على أن ديناً ساكناً بإطلاق وفي
الحقل البشري الميداني، لا وجود له، فما أطلق عليه برغسون "ديناً
ساكناً"، خضع هو نفسه، لمجموعة مطردة ومفتوحة من الاجتهادات والتفسيرات
أنتجت آراء مختلفة، بقدْر أو بآخر، حول منظومة العبادات والشرائع
والشعائر والطقوس في أديان متعددة، ومن ضمنها الإسلام. وقد أتى ذلك عبر
الاختلافات والخلافات في النظر إلى هذه المنظومة من موقعين اثنين
كبيرين، هما المستويات السوسيوثقافية والأنثروبولوجية لدى المؤمنين
أولاً، والمستوى الإيديولوجي المتناسج مع المصالح والهواجس والآفاق
المصالحية على صعيد الفرد والمجموعات ثانياً. بصيغة أخرى، المستويات
التي تحددها المذاهب الدينية والسوسيوثقافية العامة والأنثروبولوجية
(الإنْسيّة) من طرف، وشبكة المصالح التي تخترق الأفراد والمجموعات
سلباً أو إيجاباً أو كليهما من طرف آخر، إن هذين البُعدين يجعلان من كل
ما يبدو ثابتاً، كتلاً رملية رجراجة.
وهذا هو المبدأ العام
للعلاقة بين العمومي الثابت والخصوصي المتحرك. من هنا، نضع يدنا على
محاولات الإصلاح الديني، التي قدّمها مصلحون ومفكرون وسياسيون في الغرب
كما في الشرق، بمثابتها محاولات قرائية للنصوص المقدسة وفق واقع الحال
السوسيوثقافي والأنثروبولوجي المحدّد والمضبوط بمستوى القراءة أو
القراءات المحتملة في عصر معين، وبمثابتها شرعنة لمصالح كبرى أو رئيسة
في العصر المذكور، بل إن المسألة اللغوية نفسها ظهرت في سياق الإصلاح
المذكور، لقد ظهرت خصوصاً فيما اتصل منها بترجمة النص المقدس (القديم
والجديد) من اللاتينية لغة الإمبراطورية الكنسية، في حينه، إلى اللغات
الوطنية الأوروبية ومنها اللغة الألمانية، التي ترجم النص المقدس إليها
المصلحُ الكبير "مارتن لوثر". وقد تحوّل ذلك إلى دعوة كبرى لفئات الشعب
الألماني وطبقاته ومجموعاته (عدا الإكليروس الكاثوليكي) لتبنّي التنوير
والعقلانية والوطنية في القرن السادس عشر. وعلى نمط مكمّل وإن مختلف،
برز المصلح الفلاحي الكبير "توماس مِنْتسر"، ليفهم النص المقدس دعوة
للفلاحين والعوام للقيام بانتفاضات ضد الإقطاع المتحالف مع الكنيسة،
والأمر ذاته يظهر، بخصوصية العصر الحالي، في القراءات التي يقدمها
للقرآن باحثون ومصلحون إسلاميون في ضوء كثير أو قليل من مقتضيات هذا
العصر. ولعل فرج فودة واحد مِمّن تصدى لهذه المهمة، في حين يوجد من
"القرّاء" للنص القرآني عدد ليس ضئيلاً مِمّن قرأوه قراءة معانِدة
للعصر ولاستحقاقاته، إلى درجة تكفير خصومهم.
تلك أفكار تحول
معظمها إلى جزء عمومي من الثقافة العربية الإسلامية، والمهم في ذلك أن
الزعم بأن النص القرآني عصيٌ على الفهم العقلاني التنويري والحداثي،
إنما هو تنكُّر لإحدى أهم خصوصياته، وهي أنه -إذ دخل الحيّز البشري
التاريخي- فإنه انطوى على الآليات المناسبة، كي يستجيب لاحتياجات قرائه
بقدر أو بآخر، وعلى نحو أو آخر من الاجتهاد والتأويل والتفسير. وفي هذه
الحال، إذا ما برز التساؤل حول الإخفاقات التي أصابت حركات الإصلاح
الديني الإسلامي و(المسيحي) في العالم العربي منذ النهضة الحديثة، فإن
جزءاً كبيراً من الإجابة يكمن في ضعف القوى الإصلاحية، من حيث هي كيان
واحد وموحد، وذلك بالتقاطع مع المشروع الغربي الاستعماري، الذي دخل
إسقاطُ ذلك الإصلاح في صلب مهماته الدولية.
لقد أصبحت أسماء
أمثال بن لادن والظواهري والعبسي، رايات يستظل بها أجيال من الإسلاميين
ويأتمرون بأوامرها. والظاهرة الجديدة التي عبّرت عنها "فتح الإسلام"،
تحمل دلالات كبرى على أنه أريد لها ويراد أن تكون جيشاً ضخماً وذراعاً
لقوى سياسية، لتدمير ما يُعتبر خطراً على مصائر قوى متواطئة مع النظام
الأمني والخارج العولمي.