** متابعات ثقافية متميزة ** Blogs al ssadh
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.

** متابعات ثقافية متميزة ** Blogs al ssadh

موقع للمتابعة الثقافية العامة
 
ليبراليون، شيوعيون.. ومثقفون خطايا  I_icon_mini_portalالرئيسيةالأحداثالمنشوراتأحدث الصورالتسجيلدخول



مدونات الصدح ترحب بكم وتتمنى لك جولة ممتازة

وتدعوكم الى دعمها بالتسجيل والمشاركة

عدد زوار مدونات الصدح

إرسال موضوع جديد   إرسال مساهمة في موضوع
 

 ليبراليون، شيوعيون.. ومثقفون خطايا

اذهب الى الأسفل 
كاتب الموضوعرسالة
حياة
فريق العمـــــل *****
حياة


عدد الرسائل : 1546

الموقع : صهوة الشعر
تعاليق : اللغة العربية اكثر الاختراعات عبقرية انها اجمل لغة على الارض
تاريخ التسجيل : 23/02/2009
وســــــــــام النشــــــــــــــاط : 10

ليبراليون، شيوعيون.. ومثقفون خطايا  Empty
25092012
مُساهمةليبراليون، شيوعيون.. ومثقفون خطايا

محمد غازي الأخرس









ليبراليون، شيوعيون.. ومثقفون خطايا  Thumbnail.php?file=baghdad_821708641














(فصل من كتاب ـ الأحمر والأخضر والأسود)

عام
1937 كتب عبد القادر إسماعيل في افتتاحية مجلة أطلق عليها تسمية "الشباب"،
كتب يقول "سنحاول حسب طاقتنا مهاجمة نظمنا البالية التي نراها لا توافق
روح عصرنا". وفي الثلاثينيات أيضا كتب لطفي بكر صدقي في افتتاحية مجلة "
الوميض " أن المطبوع " شعلة نارية مقدسة وكلمة صارخة ومعود هدام ومنجل حاصد
تنزل به الى ميدان الكفاح بقلب ملئ بالإيمان ونفس متوثبة.غايتنا من ذلك
تحطيم الأصنام القديمة وهدم صروح الادب الزائف".
كان ذلك في عقد
الثلاثينات : العسكر يطبقون على عنق التاريخ والإيديولوجيات الشوفينية
واليسارية تتنفس كفجر يختلط بالدم. وبين هؤلاء وأولئك كان الليبراليون من
أمثال عبد القادر إسماعيل وشبان " الأهالي" و" الحاصد " و" المعول " يحلمون
بـ"هدم" المنظومة القديمة" معلنين جهارا نهارا أنهم في صراع ضد الرجعيين.
صراع سينتهي بسحل الأجساد وتعليقها على أعمدة الكهرباء.
كانت رائحة
التطرف باتجاه اليسار، من جهة ، والعروبية بنسختها العراقية الدامية، من
جهة ثانية، تتصاعد في سماء خفيضة حيث يمكن أن نلمح على الأرض ظلال جماعتين
تتصارعان في المقاهي والجامعات والمنتديات مثلما تشتبكان في مؤسسات الدولة
والمنظمات النقابية والحارات والشوارع.
بدا المشهد المتشابك أشبه بسفينة دون ربان تتقاذفها الأمواج من جهة ويتصارع على متنها ركاب مجانين بالمجاذيف والأذرع من جهة أخرى .
في
خضم ذلك كان من المنطقي أن ينقسم المثقفون إلى كتلتين متمايزيتن : ثمة ،
أولا، المثقفون اليساريون ومجال اشتغالهم هو الحاضر بكل متغيراته
الاجتماعية والاقتصادية والسياسية. وثمة، ثانيا ،المثقفون القوميون ومجال
اشتغالهم هو الماضي بكل قيمه البالية وخرافاته المقدسة وأشكاله القديمة.
بين
هؤلاء وأولئك، يمكنك سماع أصوات لا تكاد تسمع، بسبب عنف الضجيج، أصحابها
مثقفون ليبراليون تتجاذبهم الكتلتان المصطرعتان وتطوح بهما مرة هنا ومرة
هناك.
لنستمع إلى كامل الجادرجي كيف يصف زميله الليبرالي حسين جميل في
نهاية الأربعينات" كان في جميع الأوقات ضد الآراء الرجعية لذلك كنت تراه
يتجول ضمن منطقة معينة واسعة الحدود من دون أن يتقيد في الوقوف عند حد فهو
تارة يقترب من الرجعيين حتى يصير على حافة حدودهم ولكنه لم يدخل قط في
منطقتهم ثم يبتعد تارة عن هذه المنطقة فيذهب بعيدا حتى يصبح على حافة
الشيوعيين ولكنه لم يدخل قط في منطقتهم" .
ثم يمضي الجادرجي ، وبحساسية
ليبرالية فريدة ليقول "هذا هو السبب ،على ما أظن ،الذي تتهمه الفئة الحاكمة
بالشيوعية من اجله عندما تراه يبعد عن منطقتها كثيرا وتتهمه العناصر
الشيوعية بالانتهازية عندما تراه يبعد عن منطقتها".
الملاحظة الأخيرة
تكاد تنطبق على الليبراليين جميعا وأولهم الجادرجي نفسه إذ لطالما اتهم
بالتهمتين معا : الشيوعيون قالوا إنه انتهازي بينما اتهمه القوميون
والرجعيون بالشيوعية. كان الأمر لا يحتمل أكثر من هذا: إما أن تكون شيوعيا
أو رجعيا.
ترى، بعد قرابة سبعين سنة ، هل تغير الأمر كثيرا ..!!
هل حطم الليبراليون بـ"المعول" شيئا مما وعدوا بتحطيمه ..!!


***


لست
متشائما لكنني "نباش" في الوثائق، وضريبة هذا الـ"نبش" الفضولي هو الوصول
إلى حقائق قد تصيب المرء بالخيبة. وأليكم الحكاية التي تواردت إلى ذهني
وأنا ارقب معركة الحريات المدنية التي نشبت في عراق ما بعد صدام .
أتعرفون
يوسف غزالة ـ مثلا ـ ؟ إذا كنتم لا تعرفونه فارجعوا إلى الكتاب القيم الذي
ألفه عامر حسن فياض عن رواد الليبرالية في العراق . شخصيا ، لم أسمع
بالرجل إلى أن اطلعت على الكتاب.
يقول يوسف غزالة (1854 ـ 1929 ) عام
1925 عن الحرية التي انشغل في تعريفها للعراقيين آنذاك : " الحربة تعني أن
يكون الغني والفقير والكبير والصغير والوزير والحقير والمسلم وغير المسلم
في الحقوق الشخصية سواء لا فرق بينهما وفي سائر الأحوال بمقتضى التطبيق
الأصلي للتربية والآداب والعرف العام" .
هذا الطبيب كان ولد في بغداد
وأصبح مديرا للعلوم والتعليم العربي في مدرسة الإليانس عام 1873. ثم انه
سافر إلى بيروت ومنها إلى باريس سنة 1880 . ثم إلى سويسرا وايطاليا ثم
استقر في الآستانة قبل أن يعود إلى بغداد ليزاول مهنة الطب .
ويبدو من
سياق الأفكار التي يعرضها عامر حسن فياض أن غزالة قد اطلع بشكل ممتاز على
الفلسفة الأوربية وانتهى إلى الإيمان بأفكار جون ستيوارت مل الداعية إلى
الليبرالية. ولديه كتب عديدة مثل " لهجة الابطال " 1911 و" الحرية نظرا إلى
الحياة الاجتماعية " 1924 و"منهاج العائلة " 1924 و" تاريخ الحرية البشرية
" 1925 .
يقول أيضا عن الحرية السياسية :" أولا : اشتراك الأفراد في كل
شعب متمدن بانتظام وإدارة وتدبير المجتمع أو الأمة وثانيا: المساواة بين
الأفراد أعني عدم استمازة احد منهم بإنعامات خصوصية. ثالثا: عدم محاكمة احد
من العموم والخصوص والحكم عليه إلا بحسب النظام ومحاكم منتظمة والغرض من
الحرية السياسية هو التعهد والتكفل لأهل مملكة حرة السيادة بتوطيد الحرية
المدنية ".
أجل، قال غزالة ذلك في عشرينيات القرن الماضي. ليس هو فقط
فهناك عشرات الليبراليين المشابهين له بدءا من حسين الرحال ومحمود أحمد
السيد وعبد القادر اسماعيل وحسين جميل مرورا بالزهاوي والرصافي ومحمد حديد
وليس انتهاء بكامل الجادرجي وتلامذته الذين خرجوا من معطف "الأهالي" .
ليس
هذا حسب فالتيار اخترق حتى المجتمع النجفي المحافظ ، ولا أدل على ذلك أكثر
من انهماك هبة الدين الشهرستاني بالعلوم العصرية لدرجة انه أطلق مجلة ، في
النجف ، بعنوان "العلم" عام 1910. وكان مهتما بالفلك والحساب والهيئة .
وعرف بفكر متحرر لدرجة أن علي الوردي يضعه بموازاة الزهاوي معتبرا إياه
رائدا فكريا في عراق بدايات القرن العشرين .
كيف لا يكون ذلك
والشهرستاني كان من ابرز مناصري الدستور أو ما يسمى "المشروطة". وكان تأثر ،
بهذا الصدد ، بأستاذه الملا كاظم الخراساني ، إمام المشروطيين . بل ،
خلافا للرأي الديني السائد آنذاك، عرف الشهرستاني بحماسه اللافت للتوظيف في
الدولة وإشاعة التعليم المدني، وسرعان ما ترجم ذلك بعد تسنمه منصب وزير
المعارف في الدولة العراقية.
خطر كل ذلك في ذهني وأنا أرقب المعركة
المحزنة التي نشبت مؤخرا حول الحريات المدنية . لقد قلت لنفسي وأنا أقرأ ما
يقوله هذا وما يكتبه ذاك : أبعد كل ما جرى من مائة عام نعود إلى حيث
بدأنا، أبعد كل ذلك نستعيد لحظة بستان "النجيبية" ؟
وهذا البستان يستدعي وقفة أخرى أكثر حزنا ربما فانتظروا .


***

الآن
يمكنني الحديث بطمأنينة عما أسميتها لحظة "بستان النجيبية"، وهي لحظة ترد
عرضا في تاريخ بغداد خلال القرن التاسع عشر. ولكي لا أجعل لعاب فضولكم يسيل
أكثر من هذا اقول أن "بستان النجيبية "هذا يشير إلى واحدة من أروع مغامرات
الوالي الإصلاحي العظيم مدحت باشا.
كان هذا الوالي يحب العراق ويتمتع
بنزاهة نادرة. وكان متحمسا للتغيير وإحداث ما يشبه الثورة الثقافية في
البلد الغارق في الظلام . وخلال أقل من ثلاث سنين تمتد من عام 1869ـ 1872 ،
هي مدة ولايته، حدث أن شهدت البلاد ثورة عارمة في كل مناحي الحياة ، ثورة
قدر لها وضع العراق على عتبة حقبة جديدة ستتيح بعد حين لمثقفين من أمثال
كاظم الدجيلي ومحمد رضا الشبيبي والزهاوي والرصافي التغني بمفردات عصرية
مثل " الصحف " و"المنطاد" و"الفنون" وأيضا "البخار".
وللأمانة أقول أن
الفضل يرجع إلى مدحت باشا في ظهور أوائل الأشياء الجديدة في العراق، أول
جريدة ، أول مدرسة ، أول تراموي ، أول مستشفى، أول مطبعة والى آخر القائمة
التي جعلت البغداديين يفغرون أفواههم دهشة من ظهورها .
إليكم المثال
التالي : حين جاء ذلك الباشا سارع إلى فتح ثلاث مدارس مدنية هي مدرسة
الصنائع للأيتام والرشدية الملكية والرشدية العسكرية. وكانت هذه المدارس
مثار جدل عظيم في الأوساط الاجتماعية . فهي ربما المرة الأولى التي يتنازل
فيها "المسجد" عن واحدة من أقدس امتيازاته، نعني تعليم الصبيان وفق مناهج
متوارثة من زمن العباسيين. وبدلا من تخرج الصبيان وهم اقرب إلى أنصاف
"شيوخ"، سيكون على الصبيان "الجدد" الإحالة إلى منظومة أخرى بارتدائهم
الملابس الإفرنجية والطرابيش وبطنطنتهم بالمفردات التركية والفرنسية . إنها
المدنية.
ليس هذا حسب فإلى مدحت باشا يعود الفضل أيضا في وضع قانون
الطابو الذي أراد من خلاله تفكيك النظام العشائري وبدء مرحلة الملكية
الفردية وظهور طبقة الملاك العقاريين بكل ما يرتبط بهم من تحولات ثقافية
ومفهومية .
كل ذلك ما كان ليحدث ، برأيي، لو لم يكن الوالي النزيه الذي
باع ساعته لقطع تذكرة العودة إلى الأستانة على تلك الدرجة من الثورية بحيث
أنه قرر، ذات يوم ، تحويل "بستان النجيبية" إلى متنزه للأهالي . ولكم أن
تتخيلوا المشهد إلغريب الذي رآه البغداديون : حديقة عامة تفتح أبوابها
للعائلات حيث الجوق الموسيقي يعزف الألحان والأطفال يلهون بسعادة ما بعدها
سعادة. ولكي يكون الأمر جادا قرر الوالي وضع ثمن نقدي للدخول هو خمسة قروش .
ولكن كيف انتهى الأمر بذلك الحلم الرومانسي السابق لأوانه ؟
لقد
انتهى الأمر أيها السادة بأن استغل بعض السكارى و"الشقاوات" الحديقة لتكون
ملاذا لهم فصاروا يشربون الخمرة علنا وعلى رؤوس الأشهاد ، ما أدى إلى
تصايح شيوخ الدين وتبرمهم من مآل الأوضاع ، بل اعتبارهم مدحت باشا فاسقا
و"متفرنجا" وما جاء إلا لتخريب المجتمع العراقي.
ومع تصاعد صراخ المؤسسة
الدينية ذات السيادة التامة في تلك الأيام اضطر الباشا المسكين إلى طأطأة
رأسه أمام العاصفة وإغلاق الحديقة. وبذلك حرمنا من لحظة لا مثيل لها ، لحظة
ومضت بقوة ثم انطفأت لتؤجل أحلام البغداديين في التنعم بـ"حديقة" العصر
الجديد الى أكثر من خمسين سنة إذا ما اعتبرنا العشرينيات بداية التمدن في
العراق.
من المقصود بهذه المقالة يا ترى ؟
المقصود مدحت باشا ..أجل
مدحت باشا ، وبعض المستهترين الذين أحبطوا حلمه، ومعهم بعض المتزمتين الذين
لم يرقهم منظر حديقة "المستهترين" التي كانت للعوائل ..!!



***


بما
إنني تحدثت، في مناسبة سابقة، عن إنجاز مدحت باشا الهائل، أقصد فتحه مدارس
مدنية، فسأتوقف الآن عند هذا المجال. أعني التعليم الذي ذاق كل مرارة
تتوقعونها في العراق منذ أن فتح المسيحيون في الموصل أول مدارسنا بعد منتصف
القرن التاسع.
مرارة التعليم، في الواقع ، إنما تكمن في تسييسه وليس في
أي شيء آخر. دعكم ـ مثلا ـ من ذكريات موقف المؤسسة الدينية التي عارضت
اندراج بعض الشرائح في مدارس الحكومة. فهذا الموقف تبدل لاحقا بفضل رجال
متنورين من أمثال جعفر أبو التمن وهبة الدين الشهرستاني.
أقول دعكم من
هذه المأزق الذي عانى منه العراق في بداية تأسيس الدولة، وانتبهوا إلى
كيفية فهم المثقفين لدور المدرسة آنذاك. لقد فهموها، حقيقة، كمؤسسة مزدوجة
الوظيفة فهي منارة لتعليم الصبية مناهج العصر، من جهة، وهي وكر سياسي يمارس
تثوير الناس للمطالبة باستقلال بلدهم، من جهة أخرى.
ثمة حادثة جد طريفة
يرويها علي الوردي في "اللمحات" لا ضير من إيرادها: في عام 1919 أقنع
الإنكليز بضرورة تأسيس مدرسة أهلية. وكان المتصدون لهذه المهمة عدد من
الأفندية والشيوخ المتنورين منهم محمد حسن كبة ومنير أفندي خطيب الأعظمية
وجعفرالشبيبي وكاظم الدجيلي وجميل صدقي الزهاوي واحمد الشيخ داود، إضافة
إلى علي برزكان الذي اختير مديرا لها. وبالفعل اقتنع الإنجليز "الفطر"
بالأمر وأسسوا "المدرسة الأهلية".
الطريف هو ما جرى بعد حين إذ اتضح أن
مهمات تلك المدرسة لم تكن علمية محض كما أوهم الانكليز، إنما كانت المهمة
تثويرية. فما أن انتظم الطلبة في الدراسة حتى راحت "الأهلية" تعقد اجتماعات
عامة عصر كل اثنين وخميس. وكان ظاهر الاجتماعات أدبيا هدفه الاستماع إلى
الخطب والقصائد في الحث على العلم وحب الوطن. ولكنها كانت في حقيقتها
سياسية. وقد ألقيت فيها قصائد حماسية تدعو إلى المطالبة بحقوق الشعب
والكفاح في سبيلها "بحد السيف". بل صارت المدرسة تلقن تلاميذها بعض
الأناشيد الحماسية. ولم يكن غريبا بعد فترة أن يشاهد الناس التلاميذ في
جولات بشوارع بغداد وهم ينشدون تلك الأناشيد.
إن ذلك لا يعني سوى شيء
واحد: المثقفون الأوائل، وكان أغلبهم قد عملوا في حقل التعليم أو درسوا
خارج العراق، كانوا خلطوا بين المهمتين بطريقة أو بأخرى فحولوا المدرسة إلى
وكر حزبي، وكر يتحول معه المعلم ليكون أشبه بـ"مثور" أيديولوجي. والنتيجة
هي استيلاد نمط من المثقفين يذكرونك رأسا بجيل"الغضب" الذي عرفه العراق
نهاية الأربعينيات .
أتريدون معرفة علة أخرى لهذه الظاهرة؟
مع ولادة
نمط مدرسة "البازركان" و"الإعدادية المركزية" حدث أن تسلم ساطع الحصري
هندسة التعليم والتربية . فكان أن "أدلج" كل شيء لصالح أفكاره القومية. ثم
ما إن انزوى الرجل إثر صراعه المرير مع الشيعة حتى وضع مكانه "قوميا" آخر
أكثر تطرفا هو سامي شوكت. والنتيجة أيضا وأيضا هي ولادة جيل "الغضب" الماحق
الذي عرفناه عام 1958.
في الأخير، ومع هذا الجيل، تحولت المدارس، ليس
إلى أوكار حزبية تتعاطى الإيديولوجيا حسب، بل إلى ثكنات عسكرية تذكر
بالجيوش ومعارك "المصير".
هل تتذكرون الرصاص الذي كان ينطلق صباح الخميس
فوق رؤوسنا؟ هل نسيتم نواب الضباط الذين أذاقونا الذل أثناء العطل الصيفية
في معسكرات التدريب حيث علمونا "الرجولة" و"الغلضة" ومقارعة الأعداء؟
وأخيرا، هل لهذا الحديث مناسبة ؟
أترك
ذلك لحصافتكم، وعليكم فقط أن تركزوا على نزعة المثقفين في بلدان مثل
بلداننا: أقصد خلط المهمات وعشق "السياسة"، واللهاث لتأسيس مدراس مثل مدرسة
طيب الذكر علي البازركان !


***

قلنا أن واحدة من أعظم
مشكلات المثقف العراقي هي توزعه بين مهمتين هما التنوير والتثوير، ففي
الوقت الذي يزعم أنه منذور لتنوير الجموع تراه يعطي لنفسه، من ناحية أخرى،
شرعية تثوير الجموع وقيادتها للتغيير.
هذا الازدواج لا يزال موجودا بدليل ما نشهده في السنوات الأخيرة من انهماك لبعض المثقفين في شؤون سياسية لا تبدو في صلب مهماتهم.
إن
طالب مشتاق، الرائد التربوي، يسرد لنا مثالا يستحق التوقف في مذكراته
للبرهنة على جدوى الفصل بين مهنة التعليم والانشغال بأمور السياسة. ففي
العام 1928حدث أن زار العراق السير الفرد موند، اليهودي البريطاني ذو
الأفكار الصهيونية ، وكان صديقا حميما للملك فيصل. كان الحدث مدعاة لتنظيم
تظاهرات احتجاجية وكان مشتاق يشغل يومئذ وظيفة مدير الثانوية المركزية.
يقول أن الطلبة، مدفوعين بحس وطني، قرروا القيام بتظاهرة كبيرة وبدؤوا يتهيأون لذلك علنا.
حينئذ
حدثت في المدرسة فوضى عارمة وأراد البعض المغادرة قبل بدء الدوام . إلا أن
مشتاق استطاع السيطرة على الوضع حين أمر الفراش بدق الجرس والإيعاز إلى
الطلبة بالتجمهر في الساحة .
بعد ذلك وقف مشتاق خطيبا بين طلابه فقا ل:
هل يوجد واحد بين الحاضرين فيكم يشك بوطنيتي؟ تعالت الأصوات : أبدا .. ثم
واصل : إنني مغتبط اشد الاغتباط بهذه الروح الوثابة التي أكاد ألمسها بين
طيات ضلوعكم وإنني لفخور أن أكون مديرا لمدرسة فيها شباب مثلكم .. إنكم ضد
الصهيونية ومرحى لكم على هذا الشعور. لكنني أود أن أصارحكم بأنني ضد الفوضى
دائما لأنها تضر ولا تنفع .
ثم قال مشتاق: " الفريد موند سيصل إلى
بغداد بعد دوام المدرسة بعدة ساعات فلماذا نضرب عن الدوام ونسجل مخالفة قد
يستعملها خصومنا ضدنا ؟ إنكم تستطيعون الآن ترك المدرسة والسير في الشوارع
متظاهرين ولكن عملكم هذا سوف يضعف حجتي في الدفاع عنكم أمام المسؤولين..
إنني كأخ أغار على مصلحتكم أنصحكم أن تواصلوا دروسكم بشكل نظامي وبعد
انتهاء الدوام تكونون أحرارا ولكم أن تشاركوا في المظاهرات وتنادوا بأعلى
أصواتكم : لتسقط الصهيونية وليسقط السير الفرد موند".
وبالفعل كان لتلك الخطبة تأثير سحري، إذ سارع الطلبة إلى دخول الصفوف والبدء بالدوام المعتاد .
لكن
ذلك الهدوء كان مؤقتا فبعد الظهر خرج الأهالي عن بكرة أبيهم ، في أضخم
مظاهرة تشهدها شوارع بغداد وكان من بينهم طلاب الثانوية المركزية. وهنا
يذهب طالب مشتاق مسرعا إلى الصالحية ليلحق بالمتظاهرين .
يقول" أخذت
أفتش عن طلاب مدرستي ولما وجدتهم تابعت السير معهم ولشد ما كانت فرحتهم
عظيمة عندما وجدوني أسير جنبا إلى جنب معهم، اهتف كما يهتفون وافعل كما
يفعلون".
المثال الذي يضربه طالب مشتاق استنادا إلى تجربته الشخصية لم
يكن منفردا. فـأغلب إن لم نقل جميع من انتموا إلى تلك الشريحة المثقفة،
كانوا انهمكوا آنذاك في انجاز المهمتين في وقت واحد فهم تنويريون
وتثويريون. يحاولون ترويج قيم الحياة العصرية، من جهة، ثم يجاهدون في حض
الأهالي على المطالبة بحقوقهم السياسية، من جهة أخرى.
ليس في قطاع
التعليم وحده وجد التسييس ذو الطابع الثقافي إنما في الكثير من المجالات
الحساسة أبرزها الصحافة وأفضل دليل ربما هو ما يجري هذه الأيام حيث تستثمر
الكثير من منابر الإعلام لترويج أفكار معينة أو القيام بالمهمة القديمة
الجديدة ـ التثوير.
ولكي لا أبدو"مهرطقا" بنظر زملائي المثقفين
"الثوريين" أقول إنني أؤمن ـ وقد أكون مخطئا ـ أن مهمة المثقف الحقة إنما
هي التنوير، تنوير العقول وتطهير الضمائر وتقوية الحس الإنساني وتخليص
المرء من سجونه الداخلية.
والحق انه في كل واحدة من هذه الغايات يوجد تثوير لا يعلم أهميته إلا المثقفون الحقيقيون وما أقلهم في عراق القرن العشرين.


***


إليكم
هذه الحادثة: في عام 1944 بادر عدد من طريدي الحزب الشيوعي بتقديم طلب إلى
السلطات لتأسيس ما يعرف بحزب "الشعب" ومن بينهم يحيى قاسم وتوفيق منير
وعبد الرحيم شريف.
وفي أيار من العام ذاته وجه طلبة في المعاهد العالية
كتابا إلى جعفر جلبي أبو التمن وكامل الجادرجي وعبد الفتاح إبراهيم وعزيز
شريف ويحيى قاسم وأشاروا فيه إلى أن الديمقراطيين منعزلون عن بعض و طالبوا
بأن يتقدم هؤلاء بطلب لتأسيس حزب .
بعد ذلك نظم كامل الجادرجي اجتماعا
في منزله لتدارس إمكانية لم شعث المثقفين في حزب بديل عن جماعة "الأهالي".
أغلبهم كانوا من أصول يسارية : ذنون ايوب ومحمد حديد وهاشم جواد وعبد
الفتاح إبراهيم و خدوري خدوري ويحيى قاسم وجميل كبة وغيرهم .
غير أن
الاجتماع فشل بسبب حساسية الجادرجي المفرطة تجاه بعض الأسماء المعروفة
بتطرفها اليساري والمقصود هو عبد الفتاح إبراهيم ، المثقف "اللاقومي" الذي
سينجح فيما بعد في تأسيس " الحزب الوطني"هو وعدد آخر من المثقفين المنشقين
عن الحزب الشيوعي أمثال ناظم الزهاوي وناصر الكيلاني وعبد الله مسعود وموسى
الشيخ راضي .
أما عزيز شريف فأسس حزب " الشعب " وهو حزب فهمه الجادرجي
هكذا : "قادة الحزب كانوا شيوعيين أقحاحا لكنهم يعتقدون بأن الوقت لم يحن
بعد، في هذه المرحلة من تاريخ العراق ، للتظاهر بالفكرة فبنوا كيان حزبهم
على هذا الأساس ".
ويمضي قائلا إن "خطتهم هي الخروج بمنهج خال من
الماركسية وجمع ما يمكن جمعه من شيوعيين واشتراكيين وأحرار فيقنعوا
الشيوعيين بأنه يجب في هذه المرحلة من تاريخ العراق، الاكتفاء بتلقين
المادية الماركسية في داخل كتل معينة من الحزب من غير أن يتظاهر الحزب أمام
الرأي العام بكل ما له علاقة بالماركسية " .
ما يجدر الانتباه له هنا
هو أن الجادرجي أبدى يقينا لا يتزعزع أن حزبي شريف وعبد الفتاح لن يعمرا
طويلا وعزا أسباب ذلك إلى شيوعية قادتهما، ثم ، إلى انتهازية عزيز شريف
وتسلطية عبد الفتاح ابراهيم .
وبالفعل سرعان ما تحققت نبوءة الجادرجي
فاختفى الحزبان أو عادا إلى حاضنتهما الأم بينما انفرد الحزب الوطني
الديمقراطي بتمثيل المثقفين والبرجوازيين الصغار .
بالمقابل ، استمات
عراب الليبراليين العراقيين في الدفاع عن تياره القائم على فكرة " الحرية "
وتغليب روح المواطنة ، ومناهضة الطائفية والفاشية وأيضا الشيوعية . لكن ،
للأسف ، كانت تلك التيارات أقوى من أحلامه لدرجة انه بدأ ، يوما بعد آخر ،
يفقد عزيمته إلى أن أصيب باليأس التام في الستينيات فانزوى إلى غير رجعة.
الآن
ستتساءلون : ما الذي ذكرك بالرجل وسأقول : ما ذكرني بالجادرجي كامل هو
الجادرجي نصير. والسبب إنني رأيت صور الأخير أمس كمرشح في الانتخابات. لكن
الطريف أن الأستاذ نصير رشح ضمن قائمة "دينية" ـ شيعية ! .
كان تسلسله
في "ذيل" الكتلة لا في مقدمتها تماما مثل اليساريين الذين استماتوا للجلوس
في صالون كامل الجادرجي ذات يوم وفي كل مرة كان يطردهم شر طردة .
قلت
لنفسي : أجل، إن التاريخ يعيد نفسه بالمقلوب دائما والجادرجي اليوم عاد
ممثلا لمصير الليبرالية في العراق . وتستطيعون الآن أن تكتبوا مقالة أخرى
انطلاقا من هذا المأزق..!!


***


في كتابه "الروح
الحية" يتوقف فاضل العزاوي عند تجربة يوسف الصائغ بوصفه عينة مثالية على
ظاهرة نقل البندقية من كتف الى اخرى او تبديل الاقنعة الايديولوجية مع
اختلاف السياقات والنظم.
يقول العزاوي" لا اريد ان احكم على السلوك
السياسي ليوسف الصائغ وانما على معنى كتابته: يوسف الصائغ في مرحلته
الشيوعية الاولى او يوسف الصائغ في مرحلته البعثية الثانية! في رأيي لا هذا
ولا ذاك. لقد حاول يوسف الصائغ دائما ان يخدعنا باقنعته الايديولوجية ،
ليس هذا تشكيكا بنواياه الطيبة التي وجد نفسه مرغما على وضعها فوق وجهه في
حين ان ما كان يريده هو ان يعيش لنفسه. اليأس وحده جعله ينتقل من ضفة الى
اخرى" .
لكن اليأس مم ولماذا !
ليس العزاوي وحده ، بل الكثيرون لمحوا
الى ذلك : اليأس المقصود راجع الى استحالة ممارسة المثقف حريته الفردية في
سياق مثل ذلك الذي وجد الصائغ نفسه فيه . فالثوران، الشيوعي والقومي،
يخوران منذ الثلاثينيات ويتناطحان في ميدان لا يتسع لسواهما. وعلى المثقف
ان يجد له مكانا في القرنين او على الظهر او حتى متعلقا في الذيل.
ذات
مرة ـ مثلا ـ صدم عدد من ابرز المثقفين الستينيين من طريقة تعاطي زكي خيري
معهم: كانوا في جلسة ببيت هاشم الطعان وكان العزاوي حاضرا الى جانب عبد
الرزاق عبد الواحد وحسب الشيخ جعفر واحمد خلف وفوزي كريم وحميد الخاقاني
وصادق الصايغ وياسين النصير وابراهيم أحمد.
لقد لام زكي خيري الادباء
الحاضرين على رفض الانتماء لحزب البعث او التعاون معه، داعيا إياهم الى
الانتماء الى ذلك الحزب اذا لم يكونوا راغبين بالانتماء الى الحزب الشيوعي،
اما الوصية التي انطلق منها زكي خيري فهي الوصفة السحرية المأثورة عن فهد "
قووا تنظيم حزبكم، قووا تنظيم الحركة الوطنية".
الحال ان عدداً لا بأس
به من "فردانيي" الستينيات عارضوا الانتماء العقائدي وقاوموا ضغوط زكي خيري
وطارق عزيز وغيرهما لكن كثيرا من زملائهم بدلوا جلودهم مضطرين وابرزوا
الكثير من البراعة في الانتقال من حبل الى حبل في السيرك الممتع. فكان ان
برزت ظاهرة الناسخ والمنسوخ في مدونات الثقافة العراقية حيث العدمية تصل
ذروتها فتفقد الكتابة شرط "الحرية" التي لا تقوم الا به.
وانني لاتذكر
قصيدة لسامي مهدي تستبطن فقدان هذا الشرط واضعة مكانه شرط "حرية" وهميا هو
"حرية" الابداع . يقول في ختام ديوانه" الزوال" :
لست أسأل عما كتبت
وأسال عما سأكتب..
بيني وبين الكتابة مستقبل هارب
ومجاهيل تحرسها الجن
أدركها لحظة ثم تفلت مني
ولا يتبقى لدي سوى طائر أنا اختاره
ثم أطلقه في قصيدة".
لا
اظن ان الامر يختلف كثيرا اليوم فالثيران في العراق كثر، القرون تصطك وعلى
المثقف ان يجد له مكانا هنا او هناك والا ضاع "كعفطة عنز في سوق
الصفارين".
اما الوصية السحرية الفعلية فهي "قووا هوياتكم ، قووا طوائفكم ، قووا أعراقكم ".
الاحزاب صارت طوائف والحركة الوطنية تحولت الى "وحدة وطنية".
ورحم الله يوسف الصائغ وفهد وزكي خيري وبقية الرفاق!



***



هي
حادثة لن تبرح ذاكرتي ما حييت: أنا في السادسة او السابعة أقف متكئا على
حائط الدار بينما أخي الأكبر يتعارك مع (باسم أبو سريجي) ـ هكذا هي ألقاب
أيام زمان ـ ويتباطحان على الأرض.
فجأة تخرج أمي بعد سماع الصراخ فتراني
واقفا أتفرج على أخي وهو في المعركة فتعض على شفتها متوعدة أن تعاقبني بعد
حين. أتعجب وأسأل ابن خالي عن سبب تذمر أمي وتوعدها لي فيقول بلهجة اللائم
: غير تحنج لاخوك يا محمد !
ومفردة "تحنج" ترادف مفردة "تفزع" والأخيرة
غالبا ما تلي الصيحة التي تطلقها النساء بعد وصول الهواديد إلى الدار.
اعني صرخة الاستغاثة المرعبة : "ها يالولاد ها ..ها يالولاد ها ..".
الفزعة
، بمعنى دقيق، هي الإغاثة، إغاثة الأخ وابن العم والجار والصديق الذي قد
يختصره هذا المشهد التقليدي: يتعارك أحدهم في رأس الشارع فيذهب "فاعل
الخير" إلى الأهل ليخبرهم، وبمجرد سماع الخبر يهرع الأخوة لنصرة ابنهم بغض
النظر ان كان معتديا او معتدى عليه. المهم أن يدركه الأنصار قبل أن تدركه
الهزيمة .
هذه هي الفزعة ولكم أن تقيسوا عليها ما شئتم بدءا من عركات
الشارع مرورا بصراع الطوائف والإثنيات وليس انتهاء بالمعارك الثقافية. بل
إذا أردتم العثور على مصداق قريب تذكروا المعركة الثقافية الحامية التي تلت
مباراة مصر والجزائر حيث الفضائيات فزعت مع الصحف الورقية والصحف حملت
التواثي انتصارا للإذاعات. وبين هذه وتلك أمسك الفنان ظهر الرياضي في حين
ردح مهوال الأعلام محرضا ومهيجا.
في الأخير بدا المشهد الثقافي المصري ـ
الجزائري شبيها بذلك المنظر الذي ينقله علي الوردي في أحد كتبه فقد صادف
ذات يوم أن ذهب عالمنا رفقة طلبته في سفرة , وفي القطار نشب عراك بين طالب
وشرطي وما هي الا هنيهة حتى انتقلت العدوى إلى جميع رجال الشرطة ، من جهة ،
والى جميع الطلبة ، من جهة أخرى ، كل فئة "تفزع" لابنها وتتعصب له.
هذه
الثقافة لا تعود إلى "صانع" قدر عودتها لذلك الأعرابي الذي يكمن في كل
واحد منا . أعني الرجل ذا الحمية الذي يصرخ أوتوماتيكياـ لبيك لبيك. أو حتى
ـ انا غلام ابوي ! لمجرد سماعه ـ وامعتصماه او ـ ها يالولاد ها..!!
أجل،
لقد قدس الأعراب هذه القيمة "الفضلى" منذ ظهورهم على مسرح التاريخ ثم أنهم
مارسوها ومارسوها لدرجة أن الملايين ربما سقطوا ضحايا لها. بعد ذلك ومع
الإسلام تم تحويل معنى النصرة إلى دلالة أخرى تفيد انه يمكن للمرء أن ينصر
أخاه إذا كان ظالما بردعه عن ظلمه وليس العكس.
ذلك التحول كان خطيرا
لكنه ظل مجرد تحول نظري ولم يتطور ليكون عنصرا في قاموس أفعالنا
اليومية.على العكس، رسخت الثقافة الاجتماعية فكرة الفزعة وحولتها إلى آلية
منتجة لعشرات ومئات "الفزعات" في شتى مجالات الحياة. فأبناء "الكار" يفزعون
لابن كارهم حتى لو كان من أسوأ خلق الله وأبناء الايديولوجيات"يحنجون"
لرفاقهم حتى لو كانوا من سقط المتاع .
الخلاصة أن منطق "الفزعة" هذا
تحول إلى مكون أساسي من مكونات شخصيتنا الاجتماعية ولا أظن ان أحدا يمكن أن
ينجو منه في هذا الموقف أو ذاك . لا تقل إنني مثقف ولا اعرف الفزعة . كلا
أنت مثلي لكنك "تعوج" فمك أثناء الصراخ وتستمد العون من فوكو !
شيء مؤسف، نبقى في القطار نتعارك ونفزع ونتعصب بينما علي الوردي ينظر الينا ويبتسم

***

أمس ـ مثلا ـ جاءني أحد أصدقائي وقال لي : أذهب إلى "أيلاف" ..علقت بين الجماعة !
ذهبت
فإذا بها وقد علقت بالفعل بين عدد كبير من الشعراء والمتشاعرين والمثقفين
والمتثاقفين. سباب وشتائم وهبوط بمستوى اللغة إلى درجة تشعرك بالغثيان. هذا
يرفع وذاك يكبس، هذا يناول النبل وذاك يذب عن نفسه السهام بدرقة قوامها
التبجح والأكاذيب والفخر بالنفس ورمي الآخرين بالتهم .
كل ذلك يجري
بأسماء مزيفة وصريحة لأناس قد يطالعونك في "كيكا" وغيرها وكأن واحدهم
مالارميه او اليوت فهو في الشعر أرق من جناح فراشة، والدليل هو تسريحته
المنسابة ولحيته الحليقة ونظرة الحملان التي تكاد تسيح من عينيه .
اما
حين يجد لـ"الجدل" صليل ولـ"النقاش" قعقعة فتراه أقرب إلى ذلك الـ"خوشي"
الذي تركناه يزأر في "باب الشيخ" و"الفضل" قائلا وهو يهز أصابع يديه محاكيا
حركة الموسى: لك علينه مو ملينه ..اسكت مو أطلع سوالفك كلهن. ثم يلوح
للآخرين بمقطع لأحدهم نشر في "أسفار" يمتدح صدام حسين وكأنه يلوح بصورة
فاضحة لامرأة تعد اليوم من اشرف نساء القوم وأكثرهن عفة.
أما المهدد
المحترم فذو قلب يتحرق من زيف الآخرين ونفاقهم كما يزعم ، وأما المرأة
المحصنة هذه الأيام فهي فلان الفلاني او علان العلاني.
مع هذا يستطيع
المرء بيسر، طالما ابتعد عن شعراء من هذا النوع، عزل هؤلاء عن أولئك
والخروج من الفوضى بقلب سليم، قلب بامكانه التقاط الحقيقيين، من الجانبين،
كما تلتقط الحمامة الحب الصالح من الحب العفن.
وأنا اقرأ التعليقات خطر
في ذهني مثال الحمامة فما رأيته كان حبا عفنا يمكن أن "ينفخ " بطن آكله
ويجعله يتقيأ دما . فالى جانب العقد الشخصية والغيرة والحسد، ثمة خبث ولؤم
و"غماميه" لا حدود لها.
مع هذا وجدتني أصيح مثل أي حاجوز في معركة
سكارى: ما الخبر يا جماعة ولم الغبار يتطاير من بين أرجلكم والتهديدات
تنتثر كشواظ من أفواهكم ؟ ما الذي استجد من جدل "فكري" أخرجكم عن أطواركم؟
انعلوا الشيطان يا فرسان قصيدة النثر "الحادة كبلورة"، خصوصا أن أغلبكم
يقيمون في أوروبا حيث الشيطان تقاعد وجلس في المتحف؟
ما لك يا هذا ويا
ذاك ؟ لم تعربدون حتى لكأنكم تتعاركون قرب سينما الرافدين لا عبر موقع
الكتروني يعد عند البعض منبرا للتسامح ومثابة لمحاربة التطرف.
أما سينما
الرافدين هذه فيعرفها الكثيرون وتقع في منطقة "الكيارة " في "الثورة" حيث
كان "الخوشية" يجتمعون ليلا في مكان منزو قربها ويقتتلون بالقامات بعد
حفلات سمر تنزع فيها اللبسان بالقوة.
ولكي لا تتيهوا معي في غبار
السينما، اقصد معركة الأعراب السقيمة التي جرت في "إيلاف" ـ وهي غير مسؤولة
عنها بالتأكيد ـ ، اقول ان الموضوع كله جاء تعقيبا على استطلاع كتبه عبد
الجبار العتابي حول ظاهرة مسح الأكتاف وتبادل المنافع بين الشعراء هذه
الأيام وتملق بعضهم للبعض الآخر من أجل إيفادات وسفرات صار العراق بطلا
للعالم بها منذ سقوط صدام. وتماشيا مع العادة العراقية المأثورة، سرعان ما
اختلط الحابل بالنابل وهوجمت، في ثنايا التعليقات، اسماء ومؤسسات لا علاقة
لها بالموضوع من بعيد أو قريب بل لعلها لا تدري ولن تدري عن عركة "الغمان"
هذه أي شيء .
أخبروني بالله عليكم: ما علاقة بيت الشعر العراقي وشوقي
عبد الأمير وشاكر لعيبي واحمد عبد الحسين ومهدي الحافظ وهاني فحص وغيرهم
بموضوع الاستطلاع المذكور؟ بأي حق يشتم هذا الشخص او ذاك وهو جالس في بيته،
مشغول بنتاجه، لا يدري عن هذه المهاترات أي شيء؟
أهي طريقة مبتكرة
لتشتيت انتباهه حتى يترك همومه الثقافية ثم يهرول حاملا سكينه الى خلف
سينما الرافدين حيث يقتتل أصحابنا ويتناثر من أفواههم كلام بحروف تشبه فتيت
دماء متخثرة ؟
ليس دفاعا عن شخص او مؤسسة رغم ان بعض من هوجموا يستحقون
الدفاع لكن تفاهة ما قرأت في "إيلاف" من تعليقات جعلني اسرح وأتأمل : كيف
يكتب أناس من أمثال هؤلاء قصائد شعر وهم بكل هذه الكراهية والظلامية
والسطحية والسذاجة ؟ كيف يمكننا التصديق أن أشكالهم "الأوروبية" و"بوزاتهم"
التي يطالعوننا بها حقيقية وليست مجرد قشور خارجية وأقنعة سرعان ما تسقط
عند سماع اقرب صيحة..!
أجل ، حين قرأت ما كتب من تعليقات عرفت سر عدم
إعجابي بقصائدهم ، وقرفي من أكاذيبهم وتفاهاتهم، عرفت سر احتقاري لهم
وابتسامتي المحبطة حين أسمع أخبارهم وتلفيقاتهم حول أنفسهم .
حينها التفت الى نفسي وقلت بيقين : إمض اذن يا صاح .. فرأيك في محله ، واستسخافك لهم لم يأت من فراغ .



***


مشكلة
هؤلاء الشعراء أيها السادة أنهم منتفخون بالأكاذيب ويعيشون في قلاع من
المرايا . لا يرون إلا صورهم ، ولا يخطر في أذهانهم شيء يسمى الضعف
الإنساني.
إنهم صورة "ثقافية" لماعة لجميع أمراضنا الإجتماعية التي تحدث عنها علي الوردي وسلامة موسى وعبد الله الغذامي وأخيرا فوزي كريم .
الأخير
ـ مثلا ـ يعشق بدر شاكر السياب ويعده أنموذجا لما يسميه تيار "المدرسة
البغدادية"، وهذا التيار كما أفهم ، حسب كتاب "ثياب الإمبراطور" ، يتجه
مباشرة إلى روح الفرد مطيحا ببلاغات اللغة التي تغلفها وتصور لها قوة زائفة
.
قدر تعلق الأمر بالسياب الذي نعشقه جميعا ، وأولهم شعراء سينما
الرافدين، فإن الرجل الهزيل هذا لن يكون "خطيتنا" التي نحب دون ذلك الضعف
الذي هو ضعفنا. بل لا يكون ذلك "المسلول" المشاعر "مسلولنا" دون ان نلمح
لثغة الطفل التي ظلت لصيقة به حتى موته.
أقول هذا وأنا أتقلب مساء أمس متعبا حزينا وخائبا أهرع إلى "سيابي" ، باحثا عن ذلي فيه أو ذله في .
أجل
يا أصحابي ، كلنا أذلاء وممتهنون لكن القلائل من بيننا الذين يجدون في
أرواحهم الشجاعة ليبكوا علنا. نادر بيننا من "يناشغ" مثل طفل تاه في صحراء
حيث تلوح أشباح الذئاب والسعالى المستعدة لافتراسه مع هزال جسمه وخلوه من
الشحم واللحم .
اعشق السياب لأنه يجعلني ابكي علنا على نفسي ، بل أذوب
فيه وأنا أراه يتنقل من حال إلى حال فهو ضعيف مذعن ، مرة ، خائف مستلب
مرات، متملق يتوسل تارة ، متبجح مغرور تارات . وبين هذه الحال وتلك، تجد
الرجل وقد غدا أنموذجا للمثقف الذي تحركه نوازع "شعبوية" و"شائعات" ثقافية
تبدو احيانا غير معقولة .
أقرأوا "كنت شيوعيا " لتتأكدوا من ذلك فطوال
تلك المذكرات رأيت في السياب "سيابا" آخر لا عهد لنا بمثله في تاريخنا
الثقافي : يتخاصم مع الشيوعيين بسبب قصيدة فيكون ذلك سببا لخصام اجتماعي مع
شريحة تبدو متنفذة في زمانه. وأثناء كتابته المقالات المذكورة تنعتق كل
"شعبويته" من عقالها فيذهب الى طعن شخصي في "الاعراض"، اعراض الشيوعيين من
رفاقه القدامى، المتهافتين خلف لذائذهم الحسية ، المزروعين في المجتمع
العراقي لتهديمه من الداخل كما كان يشاع في الشارع آنذاك.
في "كنت
شيوعيا" يتحول الصراع عند السياب الى هذا المستوى الاجتماعي فيكشف الرجل
انه مثلنا جميعا، مسحوق ومستلب بل مذعن ومقولب الذهن. فالشيوعيون برأيه
"شعوبيون" ويتحينون الفرص للطعن في العرب. يا لها من حقيقة فولكلورية !
ليس
هذا ما يعجبني في السياب العظيم ، أقصد خروجه الصريح من قناع المثقف، انما
الذي يعجبني أكثر هو تكشف العديد من الخصائص العراقية في تلك المقالات ،
التبجح ، الازدواجية ، التملق ، التحريض على الآخرين وقبل كل شيء الضعف
الانساني والدفاع اليائس عن الذات .
بعد فصله ـ مثلا ـ من الوظيفة يكتب
السياب متملقا للزعيم عبد الكريم قاسم : " وانا أرى لزاما علي اليوم ان
اروي قصة فصلي والدور القذر الذي لعبه الشيوعيون فيها ليقرأها ذلك الصديق
ويقرأها معه المواطنون ويقرأها المسؤولون وقبل ليقرأها الزعيم الاوحد وانا
آمل ان يكون في وقته الذي يكرسه لخدمة الشعب والسهر على مصالحه متسع لقراءة
هذه السطور التي يكتبها لا مجرد مواطن مظلوم وانما شاعر من ابرز شعراء
العرب" ص 27
انها الطريقة العراقية التقليدية، الطريقة التي يأبى
المثقفون الاعتراف انهم يسلكونها كل لحظة الا من رحم ربي عارضين عن انفسهم ،
بدلا عن ذلك ، صورة "الكهنة" المنذورين لقيادة المجموع في حين انهم جميعا
يخبئون شيئا كثيرا من ضعف السياب تحت معاطفهم .
السياب لم يكن كذلك ،
كان صادقا مع نفسه واذ أقول صادق مع نفسه فانني اعني انه كان واقعيا في
التعامل مع الآخرين فهو يعرف بالغريزة ، غريزة المكاريد ، مقدار ضعفه ،
وحجم استلابه وكانت الطريقة الوحيدة المتاحة امامه هي هذه : الكتابة
العارية من اي قناع والتوسل بالآخرين كي يفهموا مظلوميته .
اما في الشعر
فحدّث ولا حرج بل استطيع الزعم ان عبقرية هذا الشاعر انما تكمن هنا ، في
"انسانيته" ، في تأرجحه بين الذروة والحضيض، في تقلب أحواله وتناقض
انفعالاته :
( ما زلت اضرب مترب القدمين أشعث ، في الدروب
تحت الشموس الأجنبية
متخافق الأطمار ، أبسط بالسؤال يدا ندية
صفراء من ذل وحمى
ذل شحاذ غريب
بين العيون الأجنبية
بين احتقار، وانتهار ، وازورار .. أو "خطيه"
والموت أهون من "خطيه"
بالله
عليكم ان تدلوني على شاعر جرب "ذل" المنفى وتحدث عن نفسه بمثل هذه اللوعة !
دلوني على احد تجرأ واستدعى تلك المفردة ، خطيه ، واصفا بها نفسه ..

***




مفردة
"خطيّة" التي استخدمها السياب شعرا ترد في ما كتب نثرا ولكن بصيغة أخرى.
ففي مقالاته الشهيرة " كنت شيوعيا" التي أشرت لها يورد الرجل تجربة جديرة
بأن تكون موضوع بحث سيكولوجي تنطبق على أغلب أبناء جيله الذين ارتبطوا
بالإيديولوجيات الكبرى وخصوصا الحزب الشيوعي.
هنا يوجد "خطايا" يسحقون
كما لو كانوا سنابل قمح خشنة في رحى . أول ما يطالبون بنزعه هو الرأي
الفردي الذين يميز الواحد عن الآخر . ويتم ذلك بطريقة آلية يشرحها السياب
بصدق من نجى بجسد هزيل من تلك الرحى.
كان الشاعر يساريا مكرودا ، لا رأي له ولا هم يحزنون ، إذا مال برأسه هكذا باتجاه نزعة فردية قيل له بسيف "الضبط" هكذا.
إنه
، مثل الجميع ، "مشكينو"، بلغة السومريين ـ تعني مسكين ـ ، عليه أن يسير "
بسد الحايط " لئلا يطرد من الجماعة وينبذ مثل أي ابن ضال.
يقول السياب
ولاحظوا رجاء مقدار اللوعة : " هناك تعبير كان ولا يزال شائعا لدى
الشيوعيين عند الحديث عمن يفصله الحزب الشيوعي من عضويته ـ: أين يولي ؟ ذلك
أن الشيوعي أو بالأحرى عضو الحزب الشيوعي إنسان دون شخصية وهو كالطفل
الصغير لا يستطيع أن يعيش وان يدبر شؤونه دون أمه."
وإذ يتحدث السياب ،
أو لنقل يعترف، لا ينفك يورد الأمثلة من تجربته : "كان الرفاق يعاملونني
أنا وصديقي محمد حسين معاملة خشنة وقحة لأننا أفندية من الطبقة البتي
برجوازية".
تمرد السياب ليس سوى عينة غالبا ما تكررت مع مثقفين آخرين
تمردوا على مبدأ " الضبط الواعي". لكن الفرق بين السياب وغيره هو أن الرجل
"سدر" في غيه إلى وفاته ولا ندري موقفه في ما لو طال به العمر.
أما
الأغلبية من زملائه الأفندية فكانوا يضطرون إلى العودة إلى السجن والارتماء
في حضن الجماعة. والطريقة جد يسيرة : يقدم المرء اعترافا أو "توبة" ، يطلب
الغفران بلغة "مسكينة" فيغفر له.
في الوثائق الحزبية خزين لاعترافات
يكتبها الأعضاء غالبا بعد "ضلالات" مؤقتة، ضلالات تسمى حينا " نزعة فردية"
وحينا "انعزالية" و"انتهازية". والطريف هو العبارات التي يجبرون على
كتابتها كثمن للصفح عنهم .
نقرأ لزكي خيري في محضر رسمي " في معظم سنوات
السجن كنت في عزلة عن المسؤولين الحزبيين في المنظمة ،عزلة تتميز
بالاستعلاء الثقافي البتي برجوازي، لم أمارس النقد والنقد الذاتي إلا نادرا
ولم أحاسب محاسبة تنظيمية فانبثقت من شوائبي الذهنية للمثقف البرجوازي
الصغير والكامنة في ذاتي وترعرعت مختلف العادات والتسلكات الغريبة عن
الذهنية البروليتارية كالتشهير والنقد غير النظامي والتصريحات غير المسؤولة
ومختلف أوجه النشاط الليبرالي والعلاقات الضيقة ... ".
ليس هذا فحسب
فقد كان على الرجل جلد ذاته واتهامها بالغفلة و"نقص التصلب الفكري
والسياسي"، فضلا عن " ضيق الأفق" و"الجمود العقائدي" و"الجذور الفكرية
الغربية الأخرى".
حقيقة الأمر أن خيري كان أنموذجا محزنا للمثقف العراقي
المأزوم والمشتت بين قيم الحزبية القائمة على "الضبط" و"الطاعة"، من جهة،
وقيم الليبرالية القائمة على الإرادة الحرة والتفكير غير المأسور، من جهة
أخرى. وكان يعاني الأمرّين للموازنة بين فرديته وإذعانه لإرادة الجماعة.
إن الرجل مثقف متنور، لكنه مسكين ، فقير ، يريد أن يعيش . وين يولي ؟ كما يقول السياب .
لقد صار الحزب أباه وأمه وزوجته ، بيته الذي يأويه وفصيلته التي تحميه.
أغلب الخمسينيين والستينيين والسبعينيين مثله تماما. كانوا "مكاريد"، مشكينو، فقراء ، وين يولون!


***


لست
أكرة الشيوعيين أبدا. كلا، على العكس تماما والدليل هو إنني أتمنى ، هذه
الأيام ، من صميم قلبي أن يحظوا بتمثيل برلماني يوازي حجمهم في تاريخ
العراق. وأشدد على أن يوازي التمثيل حجمهم في"تاريخ العراق" وليس "اليوم".
ذلك أن اليوم ليس يومهم والزمان ليس زمانهم.
قلت هذا لنفسي وأنا أنظر
إلى صور حميد مجيد موسى الانتخابية مقارنا بين ندرتها في الشوارع وكثرة صور
زملائه "الأقوياء" من ذوي الطلات المتجهمة، المهددة أحيانا بالويل والثبور
لمن يختارهم ولمن لا يختارهم على حد سواء .
وإذ أقول "الأقوياء" فإنني
اعني تلك القوة التي حسد عليها الشيوعيون ذات يوم حين ابتلعوا الشارع
العراقي كما كان الشيوعي يبتلع "أوراق الاجتماعات" الرقيقة الشبيهة
بالكلنكس إذا دوهم من السلطة.
أجل، كان الشيوعيون قد ابتلعوا الشارع
العراقي لدرجة انهم تغلغلوا حتى في عمق الأهوار وكان يمكن رؤية الحزب هناك،
كما يقول مظفر في ملحمته الشعرية "حسن" ، جالسا في المضيف بين الفلاحين
"معكل" مثلهم و"معدل " في "محاجيه " وأفعاله.
أما ابتلاع المدن فلك أن
تتخيل ما تشاء وصولا إلى اضطرار الراحل محسن الحكيم إلى إصدار فتوى لإيقاف
المد الرهيب. ذلك المد الذي بدأ يتصاعد من الأربعينيات ليصل إلى الذروة في
الخمسينيات فقد كان الحزب هو الوحيد الذي بإمكانه شل الشارع إذا أراد وهذا
ما جرى في الـ48 والـ52 والـ56.
بل لعل قارئ تاريخ العراق آنذاك سيدهش
أيما دهشة وهو يقلب موقف هذا الحزب من عبد الكريم قاسم الذي قلب للحزب ظهر
المجن بعد سنة من الثورة . مع هذا لم يحرك الحزب ساكنا في وقت كان بامكان
سلام عادل ازاحة "حليفه" بنفخة من فمه لكن ، كعادة الثوار الرومانسيين ،
انتظر عادل ان يصحو ضمير البرجوازي ويأتي معتذرا.
اليوم وانا اقلب تاريخ
تلك المرحلة الصاخبة اقول: انى يكون ذلك وقد كتب التاريخ ان يقتل
الرومانسيون دفاعا عن "الحلفاء". بل انى يكون ذلك في زمن "الشياطين" الذين
انسلوا الى صدارة اللوحة البانورامية بالتحالفات تارة وبسكاكين القصابين
تارة اخرى. واني لاتذكر فصلا رائعا لحسقيل قوجمان عن تاريخ التحالفات
الجبهوية الخاطئة التي ركن اليها الشيوعيون من الاربعينيات وصولا الى
تحالفهم قصير النظرمع صدام حسين.
من جهتي اضيف تحالفهم مع اياد علاوي في
الانتخابات السابقة. فهو كان تحالفا غير ذي جدوى. فهو كان تحالفا غير ذي
جدوى وقد اضر بهم اكثر مما نفعهم.
مهما يكن وبغض النظر عن الاخطاء
القاتلة لم يترك الشيوعيون "ملائكيتهم" تائهة في هذا الزمن فهم ما زالوا
كذلك. واذا اردتم التأكد تطلعوا الى صور زعيمهم . انظروا الى وداعته
ويقينيته ثم انتبهوا إلى ابتسامته المتفائلة وثقته في "حتمية" التاريخ.
فالغد للمساكين والفقراء، الغد للعمال والفلاحين الذين سيذهبون إلى صناديق
الاقتراع ليزلزلوا التاريخ صارخين بكل ما أوتوا من وعي طبقي : اللهم صل على
محمد وال محمد .


****

تذكرت
المطرب جعفر حسن قبل أيام وأنا اقرأ تقييمات عنه قدمها عدد من المثقفين
العراقيين الذين علقوا على إحدى أغنياته المستحضرة في "الفيسبوك". تذكرته
فورا كما لو كنت أستمع إليه الآن : صوت "مؤمن" يؤذن لغد الفقراء والمساكين
وكلمات لا يستوعبها أفق العراق فتحلق مع أجنحة المسحوقين لتحط في تشيلي
ونيكاراغوا وفيتنام وباقي أرجاء المعمورة.
تذكرت شغفي بجعفر حسن
واحتفاظي بكاسيتاته المجلجلة رغم عدم فهمي الكثير من الأشياء والمفاهيم
التي يتغنى بها . فحين كان يترنم ـ مثلا ـ : "شيلي تمر بالليل نجمه بسمانه "
كنت أتخيل (شيلي) هذه فتاة او حمامة وحين يردد : سانتياكو ..سانتياكو ..دم
في الشوارع ..سانتياكو ..كنت اعتقد أن (سانتياكو) ليس سوى رجل ثائر مثل
جيفارا.
أجل ، لقد أحببت جعفر حسن بالفطرة بتأثير من الوالد الشيوعي
رحمه الله فقد حول الأخير بيتنا في السبعينيات إلى ملاذ لعشاق فهد وسلام
عادل وجيفارا وكنا مضطرين إلى مماشاته والتواجد في الحفلات التي يصخب بها
المنزل في المناسبات المحلية والأممية كثورة أكتوبر الاشتراكية العظمى وعيد
العمال وعيد تأسيس الحزب.
كنا نرقب الحشد "السكران" ونكركر في سرنا من
حماسة الشبان الحالمين الذين اطلقوا العنان لبهجاتهم وخلطوها بطريقة لا
تفهم مع النضال من أجل الكادحين . وشيئا فشيئا صرنا نعشق تلك الأجواء
الغرائبية دون ان نعي اي شي مما يثار متحملين على مضض "تعيير" الجيران لنا
بالعبارة المؤذية ـ شوعيه ! بل ونفخر بذلك "العار".
واقع الأمر ان
المصطلح كان يختصر نظرة اجتماعية فيها ازدراء خفي كون "الشوعيه" متهتكين
اخلاقيا وملحدين. والحق أ
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
مُشاطرة هذه المقالة على: reddit

ليبراليون، شيوعيون.. ومثقفون خطايا :: تعاليق

لا يوجد حالياً أي تعليق
 

ليبراليون، شيوعيون.. ومثقفون خطايا

الرجوع الى أعلى الصفحة 

صفحة 1 من اصل 1

 مواضيع مماثلة

-
» خطايا الزمن الأصفر !
» ليبراليون في بيادة العسكر
» خطايا حكومة أحمد نظيف
» الاذكياء هم ليبراليون.. بقلم : مصطفى الصوفي

صلاحيات هذا المنتدى:تستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
** متابعات ثقافية متميزة ** Blogs al ssadh :: دراسات و ابحاث-
إرسال موضوع جديد   إرسال مساهمة في موضوعانتقل الى: