** متابعات ثقافية متميزة ** Blogs al ssadh موقع للمتابعة الثقافية العامة |
مدونات الصدح ترحب بكم وتتمنى لك جولة ممتازة
وتدعوكم الى دعمها بالتسجيل والمشاركة
|
عدد زوار مدونات الصدح | |
|
| نداء الأعماق مدخل إلى علم النفس المركَّب | |
| كاتب الموضوع | رسالة |
---|
حياة فريق العمـــــل *****
عدد الرسائل : 1546
الموقع : صهوة الشعر تعاليق : اللغة العربية اكثر الاختراعات عبقرية انها اجمل لغة على الارض تاريخ التسجيل : 23/02/2009 وســــــــــام النشــــــــــــــاط : 10
| | نداء الأعماق مدخل إلى علم النفس المركَّب | |
نداء الأعماق
مدخل إلى علم النفس المركَّب - 2
ديمتري أفييرينوس
النماذج البدئية
بالدخول إلى هذا اللامتعيِّن، إلى بحر الطاقة السابق على التمايز الفردي، خطا يونغ خطوة لم يجرؤ فرويد على القيام بها. لقد رأى يونغ، وهو بعد طفل، أحلاماً عجيبة وتخلّقات نمت بشدة غير اعتيادية؛ وبعيد قطيعته مع فرويد سمح عامداً لهذا المظهر من نفسه أن ينشط من جديد وترك للجانب اللاعقلي من طبيعته أن يعبّر عن نفسه بكل تلقائية. وفي الوقت نفسه درس هذا الجانب علمياً بأن دوّن ملاحظات مفصّلة عن تجاربه الداخلية.
فيما يتعدى الخافية الفردية personal unconscious (نتاج القصة الشخصية) التي درسها فرويد، دعا يونغ بحر الطاقة هذا بـالخافية الجامعة collective unconscious التي تمثل تناضُد الخبرات والتجارب الألوفية للبشرية: "لو كان بالوسع تشخيص الخافية، لاتّخذت ملامح إنسان جمعي يحيا على هامش تمايز الجنسين، والشباب والشيخوخة، والولادة والموت، مسلَّح بخبرة إنسانية تكاد تكون خالدة عمرها مليون أو مليونان من السنين." والمُقدِم على ارتياد هذه الخافية ليس بمنجى من المخاطر والمهالك: فالطاقات المرعبة التي تنبجس عندئذ من الوعي تُغرق الكيان كما الطوفان؛ ونشهد هبوطاً "هبوطاً في المستوى الذهني" قد يصل إلى حد انحلال الوعي، ويشغل المعالج النفسي في أثنائه، بفضل التحويل، مكان أنية بديلة. وإن مضامين الخافية الجماعية أو كيفيات تجلي "حكمتها الخالدة" هي ما دعاه يونغ بـالنماذج البدئية Archetypen أو "الأعيان الثابتة"، بحسب مصطلح محيي الدين بن عربي. وهذه النماذج، أكثر منها بنيانات مسبقة التشكّل، هي بالحري مراكز للطاقة الخافيّة، عصيّة على الإدراك الواعي، وكمونات مشكِّلة تُنَمْذِج المادة اللامتمايزة التي يأتي بها دفق الطاقة النفسية. إنها ديناميات أو زُخُم صرفة تتبدّى على هيئات متنوعة للغاية وتنتظم السلوك الغرائزي وتغذي المخيّلة العفوية بالصور وتكوِّن مقولاتها "البَدَرية" a priori، إذا جاز التعبير؛ إنها تحتوي على شحنة انفعالية قوية من نسق "قدسي" numinous (يتخطى الإنسان)، بحسب تعبير رودولف أوتّو . وهذه الشحنة موجبة وسالبة في آن معاً: فالنموذج البدئي هو في الوقت نفسه عامل لاغنى عنه للتطور الداخلي، وهو، من خلال الفتنة التي يمارسها، سلطان مغوٍ أو غول مريع. وهذه النماذج، بما هي "قوى" متوارَثة، تستبدّ بحياة الإنسان برمّتها وتشكّل لحمتها وسداها. فلاإبداع فردياً أو جماعياً بإطلاق في نظر يونغ لأن هذا الإبداع قوامُه، في معظمه، المواد النموذجية البدئية المستقاة من الخافية الجماعية.
من أقوى هذه النماذج البدئية بلامنازع نموذجا الوالدين. وهنا ينبغي علينا ألانرتكب الخطأ المتمثل في رؤية إسقاطات تتشكّل في "الصور الأبوية" بدءاً من الشخصية العيانية، كما فعل فرويد الذي كان أسير التفكير العقلاني، "الخطِّي" linear ، السائد في عصره. فالعكس هو ما يحصل: الأب والأم المنظوران هما تعيّنان للنموذج البدئي غير المنظور؛ ومن هنا مظهرهما الإنساني الفائق في نفس الطفل .
إلى جانب نموذجي الوالدين، يعلّق يونغ أهمية كبرى على "صورة النفس" التي يسميها قريناً animus عند المرأة وقرينة animus عند الرجل. وصورة النفس هذه تُدرِج صورة وخصائص الجنس المقابل (والمكامِل) للفرد في البسيكي الواعية بمقدار ما يتمايز هذا الفرد عن والديه. والقرينة هي "هيئة المرأة هذه التي تلعب دوراً خطيراً في أحلام الكائنات المذكرة؛ وهي تدعى بمصطلح قرينة بسبب من كون الرجل، منذ أزمنة متقادمة قد عبّر في أساطيره عن فكرة معيّة مبدأ مذكر ومبدأ مؤنث في جسم واحد." (كارل يونغ، علم النفس والدين)[1] وبالمثل، فإن القرين يمثّل "الهيئة المذكرة لنفسانية المرأة"، أي المظهر المنطقي والعقلاني للمنظومة النفسية المؤنثة. وهاتان الهيئتان كثيراً ما تظهران في الأحلام، إلا أن الأنا تجهل وجودَهما، واستيعاؤُهما، الذي يتطلب خبرة وجرأة، وهو عند الغالبية الساحقة من الناس من مهام النصف الثاني من العمر، يمثل لحظة حاسمة في العلاج النفسي اليونغي.
والقرينة في حدِّها الأقصى هي القوة التي تنتزع الرجل من عالمه الفكري؛ لذا فإنها تظهر أولاً بوصفها "الفاتنة المغوية"، المحرِّضة على الفوضى. فبعض أنماط القرينة سلبي محض، تسلب مَن تجتذبه لبَّه، تسلبه "دينه ويقينه"، شأن "المليحة في الخمار الأسود".[2]
وإذن، فكل ما لايزال في البسيكي كامناً، غير متعيِّن، غير متمايز، لابثاً في الخافية، قابعاً في ثناياها، يخلعه الفرد ويسقطه: يخلع الفرد على غيره من البشر "ظلَّه"، مثلما يخلع كذلك "نظيره من الجنس المقابل". وهو يختار شريكاً في الحب موضوعاً يمثل خصائص نفسه (من قوة أو ضعف). يقول يونغ: "الرجل غالباً ما ينحاز في الحب إلى اختيار المرأة التي توافق كأحسن ما تكون الموافقة أنوثته الخافية." (والعكس صحيح عند المرأة.)
إن "صورة النفس" على صلة مباشرة مع بنيان القناع؛ فإذا كان القناع قناعاً فكرياً جاء القرين (أو القرينة) عاطفياً لا محالة. وفي حين أن القناع هو الوظيفة التي تلعب دور الوسيط بين الأنية والعالم الخارجي، فإن صورة النفس هي الوظيفة التي تلعب دور الوسيط بين الأنية والعالم الداخلي (انظر الترسيمة). وعندما يكتشف المرء في ذاته ويوعّي فيها الجزء ذا الجنس المقابل في نفسه يصبح أقدر على الإمساك بزمام انفعالاته.
هكذا يولد التناغم رويداً رويداً من "الشواش" أو "العماء" Chaos، ويمكن للقرينة عندئذٍ أن تُظهر وجه المسارِرة الذي يتحدث عنه آخر بيتين في فاوست تصدح بهما الجوقة السرّانية: "الأنثى الأزلية تجتذبنا إلى الأعالي." إنها نظام ابن عربي و بياتريتشه دانتي و صوفيا Sophia الغنوصيين. ويقود استدماج القرينة لدى الرجل، واستدماج نظيرها القرين لدى المرأة، إلى التحقّق الداخلي لأحَدي الجنس الأسطوري Androgynos أو Hermaphroditos، آدم الأول قبل أن تُستل حواء من ضلعه، بحسب الرموزية القديمة.[3]وككل ما يتعلق بالخافية الجامعة، لا تنفصل النماذج البدئية بعضها عن بعض بحدود صارمة؛ فبينها صلات رحم، و"معابر"، واشتباكات. إنها أشبه ما تكون بالمبادىء الأربعة والستين المكوِنة للكون في كتاب التحوّلات Yi king الصيني التي لاتني يتحول بعضها في بعض إلى غير ما نهاية. فالنماذج البدئية تتجلّى، ليس من الداخل وحسب، بل وعلى هيئة مواقف يقابل فيها الحدث الخارجي معطى نفسياً. وبذلك نكون في حضرة نوع من الترابط، مختلف بالكلية عن العلاقة السببية، يشير إليها يونغ باسم التزامن
sinchronicity . وبالتالي فإن النموذج البدئي يجب أن يُعتبَر عاملاً غير نفسي البتّة، نستطيع أن نرى فيه الجسر الواصل بين العالمين الداخلي والخارجي، باعتباره يصوغ في الوقت نفسه المنظومة النفسية والمُتَّصَل المكاني-الزماني.
نداء الأعماق
إن ظهور الخافية الجامعة ورسائلها، في الأحلام العفوية وفي الفنون[4] التي تبدي شبهاً بالثيمات الأساطيرية والحكايات القديمة (دون أن يكون الحالم على علم بها في الأغلب)، على مسرح الاهتمامات المعاصرة يشكِّل في نظر يونغ الطريقة التي تجتهد الطبيعة من خلالها في حل كبرى مشاكل الساعة. إن التنمية الهائلة للوعي الصريح بتشييد الإنسان بنية فوقية فكرية بحتة وقمع تعويله على طبيعته النفسية النموذجية البدئية من جهة، يقابلها بوار هذا الوعي لاعتقاده بإمكان الاستغناء عن ينابيع النفس والجانب اللاعقلي التي نُحِّيت باعتبارها من مخلفات العصر الأساطيري. والعاقلة اللوسيفرية (الإبليسية) قد اغتصبت منزلة الروح الخلاق الذي لم يعد ينبغي التفتيش عنه في الأعالي بعدُ، وكأنه شعلة نار، بل في الأعماق حيث مَكْمَن المياه، كما تشهد رؤى العديد من الناس في أيامنا هذه. إن الكرب المعاصر، الناجم عن اغتراب الإنسان عن نفسه وانسلابه، هو نداء الغور العميق فيه، هو الدوار المكابَد في شواهق الفكر حيث كفّ الكائن عن الضرب بجذوره في التربة الخصبة لاستمداد نسغ الحياة الشافي. لقد كان الإنسان القديم يحيا في ظل الخافية الجماعية ويستمد حياته من كنز الصور المقدسة، لكن دعوى الحداثة طغت واستبدّت مصرّة على روح المغامرة واستقلالية العاقلة، فنبذت، واحدة إثر واحدة، قِطَع هذا التراث الإنساني المشترك، الموغل في القدم، تاركة الإنسان بلا وسيط، وجهاً لوجه أمام المجهول وخالقةً وضعاً مزعزَعاً واهِناً، كركغور والوجوديون أبلغ من يمثِّل له. ولقد عزّز القرن الثامن عشر مع الثورة الصناعية هذه السيرورة وأدرجها في المنظور النفسي والروحي، بما جعل الأديان بدورها تلفظ مخزونها الأسطوري لفظاً مطرداً متحوِّلة إلى عقائد وشعائر وشرائع جوفاء.[5] وإن أجمل فتوحات العلم الحديث ليس في مكنتها أن تقدم عوضاً عن ضياع النفس هذا. فالإنسان المعاصر، متى اختلى بنفسه، يشعر بفاقة روحية مُخِلّة بالتوازن. لقد كتب يونغ في ذلك: "العصاب إنما هو عذاب نفس فقدت معناها." على أن هذه ليست إلا مرحلة، حرجة لكنها خصبة، من مراحل المغامرة الإنسانية المغرقة في القدم، الضاربة بجذورها في البدايات البكر لوجود الإنسان على الأرض. فمعاينة أن السماء الفيزيائية خالية، وتفكُّك الأنظمة التوتاليتارية، بما هما قد وضعا حداً للإسقاط الذي كان الإنسان يقوم به لأشواقه وتطلّعاته على العوالم النائية والقوى الفائقة، وحتى على المجتمع (الجماهير) – كل هذا يدعوه إلى أوْبَة إلى نفسه ويطلق فيها سيرورات خلاقة جديدة. إنه من الآن فصاعداً مدعو إلى إبداع كون Kosmos، أي عالم منظّم، بدءاً من نفسه.
التفردن والكلّية
هذا العالم المتجدد هو ثمرة ما أطلق عليه يونغ اسم سيرورة التفردن individuation process . وهو يشرح هذا المصطلح بكون الإنسان، ما دام لم يحقق استيعاء أو استدماج المضامين النموذجية البدئية للخافية، فإن هذه تنخلع – انخلاعاً إيجابياً أو سلبياً بحسب الحالة – على هيئات خارجية، بحيث أن المرء يسبح في حالة من المشاركة في المحيط، هي من بقايا "المشاركة الصوفية" participationmystique ، أو بالأصح المشاركة الخافيّة التي وصفها لوسيان ليفي-برول[6] باعتبارها حالة البدائيين. أما التفردن فهو يفضي إلى انكفاء الإسقاطات، من حيث إن الإنسان يجرِّد العالم الخارجي من فتنته المسلَّطة عليه ويبلغ الاستقلالية، محققاً فرادته النوعية الأتمّ: وبذلك يستحق كل الاستحقاق اسم فرد individuo. لكنه لا يكون بهذه المثابة منفصلاً عن الآخرين وعن الكون، بل على العكس تماماً: فالأنا الواعية، إذ تجد نفسها قد اتسعت إلى ما لانهاية، تشعر أنها على تواصل وثيق مع مجال يشترك فيه المرء مع البشرية ومع العالم أجمع (الخافية الجامعة ونماذجها البدئية)، فتسلس قيادها لإيقاعات هذا الأخير؛ ومحلَّ قانونها التعسُّفي والمؤثرات الخارجية الاعتباطية يحلّ ناموس جوّاني لا يقل سرية وقوة عن مثيله الذي يحكم البحر والنجوم والمجرات.
التفردن هو "صيرورة المرء فرداً"، وهو، "بمقدار ما نعني بالفردية خاصيتنا الصميمية، الفريدة والنهائية، التي لا تضاهى، بلوغُ المرء ذاتَه."[7] وسيرورة التفردن مبرهن عليها بوجود أفراد لا ينتهي التأسّي النفسي لديهم تبعاً لهذا الشكل المعتاد المحدود أو ذاك؛ إذ تتواصل المواجهة مع الخافية، بمساعدة عالِم النفس أو بدونها، وتفسح المجال لمكابدة اختبارات روحية يتجسد فيها معنى الحياة. ومثل هذا التطوّر يقلع عادة حوالى "وصيد الأربعين"، أي في مستهل النصف الثاني من العمر، ولا يُستحسَن التشجيع عليه قبلئذٍ إلا في حالات استثنائية عموماً؛ ذلك لأن المهمة الملقاة على عاتق الإنسان إبان النصف الأول من حياته هي "التلقين الخاص بالواقع الخارجي"، بتمكين أناه وتعزيزها وذلك بتوكيد نفسه في العالم الخارجي؛ بينما مهمة النصف الثاني هي "التلقين الخاص بالعالم الداخلي".
والتفردن
individuation يدفع إلى الواجهة الأمامية للشخصية بنسق من القيم أرفع من نسق الأنا ومقدّر له أن يستمر بعدها على ما يبدو. فهو بهذه المثابة يشكل استعداداً طبيعياً لنهاية الحياة التي هي بمعنى من المعاني غاية الحياة. إن يونغ يعلق أهمية نفسانية كبرى على ظاهرة الموت ويعزو إليها قيمة إيجابية، على كونه، كرجل علم، يمتنع عن البتّ في أمر آخرة محتملة. التفردن هو الثواب على رحلة طويلة مفعمة بالتصاريف والمصاعب والمواجهات في سبيل التأليف بين مضامين الخافية؛ رحلة إيناع للشخصية ومعرفة للنفس متعاظمة يصبح بها الإنسان "ما هو إيّاه" حقاً، على حد تعبير غوته. التفردن هو الكنز الأنفس يحرسه التنين؛ هو "الجزّة الذهبية"؛ هو الغرال الأقدس؛ هو قِبلة القلب والدخول في قدس الأقداس. وإلى جانب الوحوش والغيلان، يكتظ الدرب المفضي إليه بالشخوص المسعِفة التي تعاون المرء على اجتياز ممرات محفوفة بالمخاطر، من نحو القرينة "مرافقة الموتى" psychopompe (مثل أرياذني وخيطها الذي يستعين به البطل ثيسيوس على الخروج من المتاهة labyrinthos الكريتية الشهيرة)، الحكيم الشيخ، الحيوان المرشد: الضفدعة، السلحفاة، الأرنب، الوعل، إلخ.
والواقع أن مواجهة صورة النفس واستدماجها تتواصل في مواجهة النموذج البدئي لـ"الحكيم الشيخ"، بما هو تشخيص المبدأ الروحي (مكافئتُه في سيرورة التفردن عند المرأة هي "الأم الكبرى" magna mater التي تمثل للطبيعة). وعندئذٍ يتعين على المرء أن ينقِّب في أعمق تضاعيف ماهيته أو مبدئه الأصلي "المذكر" (المبدأ "الروحي") أو "المؤنث" (المبدأ "المادي")، من حيث إن الرجل، بحسب يونغ، يتّحد في ماهيته بالروح بينما تتحد المرأة في جوهرها بالمادة. يدعو يونغ هاتين الهيئتين النموذجيتين للخافية بـالشخصيتين مانا. و مانا mana كلمة ميلانيزية تعني "الناجع نجوعاً خارقاً". لكن القوى التي تنشِّطها هذه المعارف في الفرد ليست في متناوله حقاً إلا عندما يتعلم بكل تواضع كيف يميز نفسه عنها.
بعدما يتم للمرء استجلاء وجهه المظلم (الظل)، والجنس المقابل فيه (القرين أو القرينة)، وعلاقته مع الروح أو الهيولى، يتعرّف إلى الوجه المزدوج للنفس، ويسبر طبقات الخافية طبقة طبقة حتى يحقق كلية كيانه. يترافق "الوصول" بإرهاصات تعلن عن قربه هي رموز الكلِّية: الشجرة، الجوهرة، كرة النور، الحجر المكعب، المندلة[8] mandala، إلخ. وهذه الكلية هي إجمالاً قطب الرحى الذي يتم عليه ويتحقق شيئاً فشيئاً الدوراناللولبي الداخلي الجامع بين الأضداد. والصورة النموذجية التي تقود من مواجهة أعماق الخافية إلى صلة بين المنظومتين النفسيتين الجزئيتين (الواعية والخافية) تتم في نقطة مركزية مشتركة تدعى الذات das Selbst، هي آخر مقامات طريق التفردن (الذي يذكّر، كما نرى، بدرجات المسارَرة)، وتتخطى الأنا التي تشغل بالنسبة إليها موقع الكويكب التابع من الشمس. وفقط عندما تُستدمَج هذه النقطة المركزية يحق لنا الكلام على فرد "دائري كلِّي".والخاصية الغامضة للذات تجعل التعريف بها أو تحديد كنهها أمراً عسيراً جداً. والصعيد الفينومينولوجي الذي يقف عليه يونغ يمنعه من أية صياغة ميتافيزيائية لها. فهو، إذ قارن بين رموز الذات والرموز المعبرة عن الألوهة في الأديان والأساطير، خلص مع ذلك إلى القول بأن الذات هي عينها صورة الله imago dei في النفس. لكن كلمته الفصل بهذا الصدد نقع عليها في الجملة التالية المستقاة من أواخر ما كتب: "ليس للتجريبي أن يقول شيئاً عن العلاقة بين الذات والله". فههنا، شأنه في كل ما قال وكتب، لا يبالي يونغ ببناء منظومة عَقَدية dogma، إنما همُّه ينحصر في تبيان طريق؛ إذ إن على الإنسان ألا يواحد نفسه مع الذات قبل بلوغه على درب التفردن مرحلة متقدمة يتم فيها هذا التواحد على نحو طبيعي وتلقائي لئلا يتعرض لانتفاخ inflation خطير (نيتشه)؛ بل عليه بالحري أن يسلك بإزائها سلوك التابع لا سلوك السيد؛ وبذلك يتعلم التواضع الحقيقي الذي لا رياء فيه.
حصيلة سيرورة التفردُن أو التحقُّق الفردي هي تحوّل في النظرة وفي الكيان ككل؛ وهي خبرة تفعم القلب وتُعجِز الوصف. والإنسان "المتفردِن" يستجيب بعدها راضياً لكل مواهب الحياة، ويعرف في كل هذا التوكُّل الرضيّ الحرية الحقّة. فهذه في الواقع ليست قطعاً مجرد حرية الاختيار أو إمكانية إشباع رغبات الأنا المتناقضة: فممارسة "حرية" من هذا النوع تفضي لا محالة إلى الإحساس بالتفاهة والعبثية، كما كابده بعض الوجوديين السارتريين. فالتفردن لا يستبعد المسؤولية الاجتماعية بالمعنى النبيل، بوصفها جزءاً لا يتجزأ من سيرورة إيناع الشخصية والتحقق الذاتي. والحرية الحقّة من هذا المنظور هي انقياد المرء طوعاً وبرصانة – مع ما يرافق ذلك من ألم "إيجابي"[9]
– لنظام يتخطى الإنسان المحدود، يشعر بفضله أنه يشغل مكانه الصحيح في كون يمتلئ بالمعنى والغاية والقدسية: إن هذا ليذكرنا بـ"العمل بمشيئة الآب" في المسيحية - "حبّ القدر" amor fati الرواقي، و"الإسلام" بمعناه الكوني الأشمل.يونغ والخبرة الدينية
مع أن يونغ بدأ حياته المهنية طبيباً نفسياً فقد لزمه اهتمامه بالدين طوال حياته. فخلافاً لفرويد الذي طبّق التحليل النفسي على الدين، رأى يونغ أن الدين بعد أساسي من أبعاد العلاج النفسي بخاصة، ومن أبعاد الحياة بعامة. لذا اتصف منهاجه التحليلي بخاصية "دينية"، إذا جاز التعبير. وفضلاً عن ذلك فقد حدد موضع نظريته النفسانية في الخبرة الدينية وفي العلاج النفسي في مجرى الموروثين الديني والعلمي الغربيين، موجِداً بذلك فهماً شاملاً للعالم المعاصر.
إن نفسانية التفردن اليونغية لا تُفهم حقَّ فهمها بدون العودة المباشرة إلى الخبرة الدينية وإلى مفهوم الله. فلقد اكتشف يونغ أن معاوديه، فيما هم يدنون من نهاية علاجهم، تشرع مخيّلاتهم المعبِّرة عن النماذج البدئية بتصوير شخص يوحي بالسلطان والهيبة ويشبه أباً قديراً، وأطلق على هذا الشخص اسم صورة الله imago Dei، كما رأينا. تشير كلمة "صورة" هذه إلى الاختبار الداخلي للألوهة، وليس بالضرورة إلى حقيقتها الموضوعية. وبذلك ذهب يونغ مذهب الوظيفية النفسانية، معتبراً أن خبرة الناس عن الله أهمّ بما لا يقاس من أي سجال فلسفي حول وجوده أو عدمه. فمتى تم إبداع صورة الله، أي متى "تصوَّر" نموذجه البدئي وانخلع، ومتى اختُبِر اختباراً واعياً، وتم من بعدُ فهمه أو تأويله، أتت سيرورة التفردن أُكْلَها.
ومع أن يونغ اعتقد بأن هذه الرواية لسيرورة التفردن تصح على غالبية معاوديه ممّن يحتوي موروثهم "الإبراهيمي" على صورة مشتركة لإله واحد، عليّ قدير، فقد كانت نفسانية نماذجه البدئية أوسع من أن تُحَدَّ بدين من الأديان؛ إذ وجدت الأساطير الدينية قاطبة مكاناً في منهاجه النفسي – حتى إنه لم يجد حرجاً في الكلام على "الأسطورة" المسيحية. لقد كان موقِناً أن جميع الأساطير، أياً كان مصدرها الحضاري، إنما تعود بأصلها إلى خبرات نموذجية بدئية. ويونغ، إذ أخذ عن المفكر الكبير رودولف أوتّو مفهومه عن القدسيّ numinosum وعمَّمه، أعلن أن الأساطير أو النواتج النموذجية البدئية ذات تأثيرات "مروِّعة" مبعثها الخافية. ولقد مكَّنه هذا الكشف من كتابة شروح نفسانية على معطيات دينية شرقية أيضاً، لا بل ومن التقريب بينها وبين الخبرات الروحية للإنسان الغربي. فعنده أن الرموزية الدينية للبوذية والهندوكية وتعاليم بوذية زِنْ والكونفوشية، كما والفينومينولوجيا الدينية الخاصة بها، هي جميعاً تعبيرات عن خبرات يتمخّض عنها العالم الباطن للإنسان، العالم الذي أهملته المدنية الغربية أشد الإهمال.[10]
من هذا المنطلق، يرى العديد من شرّاح نظريات يونغ أنه وجد في الأديان الشرقية حلاً أو علاجاً للأدواء الروحية للغرب المعاصر، متناسين بذلك أن الصحة الروحية للشرق اليوم ليست بأفضل حالاً منها في الغرب، وأن مؤلفات يونغ في الدين ركّزت في معظمها على الموروث المسيحي، على اعتبار أن المسيحية هي الخبرة الروحية "الشرقية" الوحيدة التي اندرجت عضوياً في اللوحة الثقافية والحضارية للغرب، لا بل صنعتها من وجوه عديدة.[11] من هنا أكبّ على التراث الروحي الغربي مفتشاً عن منقولات ونصوص تعوِّض عن هذا النمو الأفقي الانبساطي "الأعرج" للغرب، المتّجه نحو المزيد من العَقْلَنَة والتكنولوجيا. لقد وجد من خلال دراسته المعمَّقة للعلاقة بين علم النفس والدين أن نصوص الأقدمين الغامضة، المهمَلة في الأعم الأغلب، تلقي ضوءاً كاشفاً غير متوقَّع ليس على أحلامه وتخلُّقاته هو وحسب، بل وعلى أحلام مرضاه وتخلُّقاتهم التي تتكرر فيها متجانسةً صورٌ نموذجية بدئية.[12] لذا يؤكد يونغ، كما رأينا عند الكلام على التوسيع، أن الاطلاع على كتب المعلِّمين القدماء، على اختلاف مشاربهم، أمر لاغنى عنه للمعالج النفسي، إن هو أراد أن يُحسِن فنّه. فلاعجب أنه وجد ضالّته، كما سنرى، في الغنوص (= العرفان) والتصوّف والهرمسية.
إن شمولية يونغ في مذهبه الإنساني لم تحل بينه وبين السعي لإدراج نفسانيته (ونفسانية فرويد أيضاً) في الخبرة الدينية للغرب التي تندرج بدورها في الخبرة الروحية الإنسانية الشاملة. من هذا المنطلق، طوّر يونغ فهمه النفساني للخبرة الدينية الغربية وللعلم الغربي. يذهب يونغ إلى أن الثقافة الغربية مرت في تطورها بأطوار ثلاثة: الأول ديني، الثاني علمي، والثالث نفساني، وأن كلاً من هذه الأطوار كان في الواقع استجابة مختلفة للحقيقة الكلِّية للخافية. فالعصور الوسطى يكاد يغلب عليها الطابع الديني، واختبار الناس للخافية في تلك الفترة كان يتم من خلال صور دينية: الله (نموذج الأب)، الكنيسة والسيدة العذراء (نموذج الأم)، والمسيح (نموذج الذات)؛ وفي عصري النهضة والتنوير، ساد العلم والعقلانية اللذين مالبثا أن قمعا الخافية الجامعة والحقيقة الدينية عبر تبلور أكبر للأنية (= الأنا)؛ وأخيراً، في الفترة المعاصرة المتميِّزة باكتشاف العلم للخافية، يعود العلم والدين إلى الوفاق في خبرة من نوع جديد لا يلغي فيها أي منهما الآخر بل يعمِّقه ويثريه. لقد صنّف يونغ نفسانيَّته (ونفسانية فرويد أيضاً) في خانة العلم الذي أسماه علم الخافية، ألا وهو علم القوى النفسانية العميقة التي لم توجِد الدين وحسب بل العلم أيضاً. بذلك استطاع علم النفس التحليلي أن يؤلِّف بين الدين والعلم تأليفاً جديداً مكَّن يونغ من تقديم نفسانيَّته لمعاصريه من الرجال والنساء كسبيل يتيح لهم أن يكونوا في آن معاً علميين وحداثيين يحيون عصرهم، و"متديِّنين" عميقي الروحانية وراسخين في جذورهم التراثية، دون أن يعانوا من ازدواجية داخلية.
يونغ والكيمياء
كان على يونغ أن ينتظر خمسة عشر عاماً قبل أن يجيء على ذكر التفردن: لقد كان يريد أن يشدّ سيرورة محيِّرة كهذه إلى سابقاتها التاريخية، إلى روايات تقدِّم تخطّيات للأنية الشخصية بدون تحديدات الفكر الإيماني وإسقاطاته. ولقد زوّدته رسالة في الكيمياء والطاوية بعنوان سر الزهرة الذهبية عام 1928 بأولى حلقات السلسلة، إذ تصف الرسالة "دوراناً للنور" ينتهي بتفتح "برعم الخلود". لكنه عندما بدأ بفك "جفر" cipher ألغاز الكيمياء الغربية، إذ ذاك فقط تملَّكه الشعور بأنه وجد ضالّته ومَوقَع نفسانيَّته وحدَّد دوره التاريخي. لقد توصَّل يونغ إلى أن النصوص الكيمياوية الغامضة إنما هي تعبيرات رمزية بديعة عن اختبار الإنسان لانبثاقات الخافية الجامعة بنماذجها البدئية. ولكم أدهشه أن يقع على رموز كيمياوية الطابع في أحلام وتخلُّقات معاصريه.الأضداد تتعايش في قلب الألوهة، إن في العهد القديم أو في الإسلام (صفات "جمالية" وصفات "جلالية") أو فيما نطلق عليه اسم "وثنيات": فسفر أيوب مثلاً يجعل الشيطان واحداً من أبناء الله الواقفين أمام الربّ. لكن التمايز المسيحي التقليدي، على غير الغنوص، فصل جذرياً بين النقائض، كما بحد السيف، ورمى بالشر في الظلمات البرانية. ومع ذلك فقد وُجِد في كل العصور أناس مأخوذون بـ"الجمع بين الأضداد" coincidentia oppositorum؛ وقد أتاحت الكيمياء Alchemy التي خلفت الغنوص لهؤلاء إطاراً أوسع من الإطار الاتّباعي استطاعوا فيه مزاولة عملياتهم. فـ"حجر الفلاسفة" ("الشيء الأعظم" أو "الإكسير" بلغة جابر بن حيّان) مادة خسيسة مظلمة تتفتح عن الروح الإلهي القابع فيها بفعل "التدبير الأعظم". والكيمياء بهذا المعنى ليست مجرد عقيدة باطنية، إنما خبرة تحوّل جذري في الشخصية في متناول كل من يشعر في أعماقه بدافع إلى مثل هذا التحوّل. ففي عهد كانت المادة فيه مجهولة كان الكيمياوي يخلع صورة الخافية على جسم يختاره ويجتهد في تحقيق "تصيير" transmutation رصاصه ذهباً على أساس الجمع بين الأضداد الذي كان التوق إليه هاجسَه. بيد أن المريدين الحقيقيين لهذا العلم السامي كانوا على بيِّنة تامة من الأمداء النفسانية والروحية لتدبيرهم؛ فكانوا يطلقون على أنفسهم اسم "الفلاسفة" أو "الحكماء"، ويصرّون على أن ذهبهم "ليس ذهب العوام" aurum non vulgi وعلى أن جوهرتهم هي "حجر الغيبة" lapis invisibilitatis والخلود. و"تدبير الإكسير الأعظم"، مثله كمثل التفردن، يستمر على مدى سنين طوال. إنه حركة دائرية، ودوران موصول تظهر للمرء في أثنائه ألوان متعاقبة هي بصورة رئيسية: "السواد" nigredo (الذي يذكّر بمواجهة الظل وبالكرب الناجم عن انحلال الوعي)، ثم "البياض" albedo (الذي يقابل استدماج القرينة أو القرين)، فالـ"حمرة" rubedo (نور الوعي وقد تجدد وأصبح فاعلاً)، ترمز إليها على التوالي معادن الرصاص والزئبق والكبريت. وإن لكل كيمياوي دربه الخاص؛ وهذه سمة تشترك فيها الكيمياء مع التفردن.
بذلك يسّرت الكيمياء للإنسان، إبان قرون طوال، بأن يعبر بكل عفوية عن تفتّحه الداخلي وبأن يحقق في سر قلبه "التجديد الكلي" apocatastasis، بعث التناغم الأصلي، الإبلاء من الجرح المفتوح في قلب الألوهة، المغفرة لإبليس ونجاته التي أعلنها كل من أوريجينس في المسيحية وابن عربي في الإسلام. وتبيِّن الممارسة النفسانية بأن المواد التي تيسرها الخافية للإنسان الحديث تترجم من جانبها إرادة التقريب بين "الأقطاب المتضادة". ويعود يونغ مراراً وتكراراً إلى رؤيا لاهوتي شاب يعاونه فيها "مجوسيان" في رحلته الداخلية يعرف أنهما المجوسي الأبيض والمجوسي الأسود. بيد أن المجوسي الأبيض في الرؤيا متوشح بالسواد بينما الأسود متوشح بالبياض. وهذا الأخير هو من يقدّم للحالم "مفتاح الفردوس". الخير والشر ينزعان إذن إلى الاقتران واحدهما بالآخر وتشكيل وجهين متكاملين مشابهين للـيَنغ yang، و الـين yin في الحكمة الصينية، وهما فيها مبدآن متضادان متكاملان يرمز اجتماعهما في دائرة الـطَيْ جي tai-ji إلى "المبدأ الكلي"، الطاو Tao، "الطريق". والأحلام في عصرنا كثيراً ما تنقل صوراً كيماوية يجهلها الحالم، الأمر الذي يفسر كون يونغ لم ينِ طوال الربع قرن الأخير من حياته يفسح في مؤلفاته مجالاً أوسع فأوسع للرموزية الهرمسية أو الكيمياوية.[13] إن إعادة اكتشاف يونغ لسر الكيمياء الأزلية لهي شاهد على أن ثمة فينا جوهراً يتملص من تقلبات الحياة وأوصابها، وعلى أن هذا "الحجر الإلهي" lapis divinitatis هو ينبوع حياة خصبة لا تنضب.مساهمة يونغ في دراسة الدين
يعود الأثر البليغ الذي تركته نظريات يونغ النفسانية على دراسة فلسفة الدين وفينومينولوجيّته – والذي يفوق برأينا أثر النظريات الفرويدية بكثير – إلى رأي يونغ بأن الدين متأصل في الحياة الإنسانية ولا يصح أن يُختزَل إلى مركَّب أبوي يجب حلّه لكي يسترد المرء عافيته النفسية، ولا إلى عوامل متعلقة بتطور العلاقات الاقتصادية والوعي الاجتماعي؛ غير أن الأمر لا يقتصر على ذلك فحسب. إن همّ الباحثين في فينومينولوجيا الدين ينحصر أساساً في توصيف الصور والرموز والأساطير والتأويل hermeneutics ومعنى الخبرة الدينية؛ ونظرية يونغ النفسانية في رموز الأحلام النموذجية البدئية تيسِّر للباحث مهمة شدّ خيال القراء والمستمعين، آنياً ومباشرة، إلى الرموز في النصوص الدينية والأدبية. وبما أن النماذج البدئية تعبِّر عن نفسها بنوع من لغة الرموز العامة فإن تحليل النصوص يجب أن يتيسَّر بدون أن يؤخَذ بالضرورة السياق التاريخي والاجتماعي الذي أُبدِعت فيه بعين الاعتبار.
ولقد ظهرت دراسات عديدة أصيلة في الأساطير الدينية استفادت من نفسانية يونغ، أشهرها مؤلفات جوزف كمبل – ولاسيما كتابه الرائد البطل ذو الألف وجه[14] و كتاب أقنعة الله في أجزائه الأربعة. لقد جمع كمبل بين معرفة واسعة بميثولوجيا الديانات العالمية وديانات الشعوب "البدائية" وبين فهم أصيل لنظريات يونغ النفسانية، مؤسِّساً منهاجه التأويلي على التأويل النفساني، ساعياً من خلاله إلى تشييد نموذج معنوي واحد ينتسج عبر المضامين العديدة للأساطير المتنوعة دعاه الأسطورة الأصلية
monomyth . وهذه الثيمة الواحدة النائتة من كل الأساطير هي قصة مغامرة البطل كشخصية نموذجية بدئية. وهي تحدث على ثلاث مراحل: مغادرة البطل للجماعة؛ يلي ذلك سلسلة من الأهوال والمهالك والامتحانات تقوده إلى انتزاع شابة حسناء أو كنز نفيس من قبضة سلطان ذي حَوْل؛ والعودة، أخيراً، بالحسناء التي ظفر بقلبها انتهاءً بالنكاح المقدس، أو بالكنز الذي فاز به وتقديمه للجماعة.[15] إن أساطير مختلف الثقافات والحضارات، على تنوعها، تروي هذه القصة وتعيد روايتها. ومع أن تفاصيل كل رواية تكاد تبدو فريدة فإن المعنى النفساني يبقى هو هو فيها جميعاً لأن المضامين النموذجية البدئية للخافية الجامعة هي هي في العالم قاطبة.
أما مؤرخ الأديان الفذ مرشيا إلياده فقد استفاد من نفسانية يونغ استفادة مختلفة. صحيح أنه اعتقد، مثله كمثل كمبل، بأن الأسطورة هي المفتاح لفتح مغاليق الأديان كافة، إلا أنه، على غير كمبل الذي استعمل منهاج يونغ في تأويل الأساطير، عوَّل على القيم والمثل الأكثر "فلسفية" التي اعتنقها يونغ في نفسانيَّته التحليلية. لقد صفّق إلياده مراراً لنظرية يونغ في الدين والعلم الغربيين لقناعته بأن للحياة الإنسانية بعداً دينياً متجذِّراً فيها، وبأن أدوات تفسير الحداثة – كالعلم البحت والتدوين التجاربي للتاريخ empirical historiography – تجاهلت هذا البعد، وبأن من شأن منظور علم النفس المركَّب إلى أديان الإنسانية أن يعيد إليه الاعتبار. لقد وجد إلياده ضالته في فكرة يونغ أن العقل البشري متديِّن بطبعه، وبخاصة عندما يعبِّر عن هذا التديُّن بأساطير تضرب بجذورها في الأعماق النفسانية أو في الخافية الجامعة. لذا فإن إلياده كثيراً ما أشار إلى مفاهيم من نحو النموذج البدئي والخافية الجامعة والبسيكي، لا بل وتبناها أساساً للتحليل العلمي في مؤلفات عديدة.[16]
يبقى أن نذكر مقترَباً أجدّ وأحدث للأسطورة الدينية تأثّر هو الآخر تأثُّراً عميقاً بخبرة يونغ في هذا المجال، ألا وهو عمل وِندي دونِغِر أوفلاهرتي. وهذا المقترَب المتعدِّد المناهج الهام يختلف عن مقتربي كمبل وإلياده كليهما، من حيث إنهما استفادا من يونغ في صياغة نظرية شاملة في الأساطير الدينية، بينما تركِّز أوفلاهرتي انتباهها على التفاصيل النصية للأساطير، مستعملة أدوات تأويلية عدة بالإضافة إلى علم النفس، وتشدد على السياق التاريخي والثقافي للأسطورة التي تدرسها. ففي كتابها نساء وخنثيات وبهائم أسطورية أخرى، على سبيل المثال، تناقش أوفلاهرتي أساطير تلعب فيها الفرس الدور الأساسي. ولكي تبلغ أقصى ما تستطيع من الدقة والحيوية تورد مقبوسات مختلفة تصف الفرس وفِعالها والثيمات والصور الأسطورية المتصلة بها. يقودها ذلك إلى استنباط مصادر أو مستويات عدة لأسطورة الفرس: فهي ترمز إلى النزاعات النفسانية للحياة الأسرية، وهي تمثل للتوتر السياسي الذي يطرأ على المجتمع، وهي كذلك إفصاح عن طبيعة الألوهة. ولا تكتفي أوفلاهرتي بذلك، بل تحاول أيضاً وصف دورات الأساطير التي تسود فيها الفرس، لتضعها في سياقها التاريخي والجغرافي والحضاري الخاص. يظهر تأثير يونغ واضحاً في مسعاها لإعطاء الصورة الدينية كل العيانية والمباشَرة اللذين يتصف بهما التخلُّق الفردي، في الوقت الذي تربط فيه هذه الصورة بنصوص أخرى مستقاة من حضارات أخرى. ولا نظنّنا نجانب الصواب إذا وصفنا منهاجها بأنه مقترَب "متعدِّد المنظورات" لميثولوجيا الأديان كافة؛ وهو، بما هو كذلك، واعد بالتوسع في استعمال نفسانية يونغ في فهم الرموز الدينية وإغناء الجهود التي بذلها كل من كمبل وإلياده في هذا الاتجاه.
خاتمة
يقول باراكِلسُس، الطبيب الحكيم: "خُلق العالم غير ناجز والله وضع الإنسان فيه لكي ينجزه." فليبدأنّ الإنسان بنفسه إذا لم يكن يريد أن يبدي له العالم، الذي هو منه "المختصر الشامل" والنموذج البدئي، مظهرَه الأقتم والأشد قساوة. ففي قرن حققت فيه الفيزياء، وقد غاصت بباصرتها إلى قلب المادة، تصيير الكتلة إلى طاقة في ألق يذهب بالأبصار لكنه يزهق الأرواح، هو ثمرة ما أسماه روبرت أوبنهايمر "فعلة إبليس"، فإن مغامرة ارتياد باطن الإنسان، تلك المغامرة الإنسانية الأزلية التي أفلح فيها ذلك البالوي البسيط،[17] أفضت بذلك إلى إعادة "الصنعة الإلهية" opus divinus التي تحدّث عنها الفيزيائون الأقدمون إلى المنزلة اللائقة بها.[18] وبينما يفكر بنو الإنسان في استيطان المريخ و"يلوِّثون" الفضاء بأقمارهم الصناعية ويرسلون مركباتهم إلى خارج المنظومة الشمسية قبل أن تفصح لهم أمّهم الأرض عن سرّ واحد من أسرارها؛ بينما يجتاحون الغابات ويصيدون بعض صنوف الحيوان حتى الانقراض ويستهلكون في عقود قليلة ما استغرق بناؤه الأرضَ ملايين السنين؛ بينما يقتتلون على حفنة تراب ويطالبون بالسلام وهم يقصفون الأبرياء ويتشدقون بنظام عالمي جديد؛ بينما يحدث كل هذا، يعيد علم نفس الأعماق فتح الدرب القديم الذي قاد دانتي عبر الأفلاك الكوكبية إلى قلب الوردة السرّانية المقدسة، نظيرة الزهرة الذهبية في الصين وزهرة اللوتس في مصر والهند. ومثل هذه "المصادفات" تشهد على أهمية يونغ للحاضر، وموازَنَتِه، إذا ما عُمِل برأيه، لمدنيَّة تلفظ الإنسان بعنف خارج نفسه، وتحكم عليه بذلك بجهل أصل نزاعاته الداخلية وبالتفتيش عنها في حلول وهمية تزداد تعقيداً ونأياً به عن نفسه في مسعى لا جدوى منه (عذاب طنطال في الأسطورة اليونانية). إن طريقة يونغ تتيح للإنسان، بالعودة إلى نفسه، أن يجد في نفسه، بنفسه، لنفسه وللكل، في سيرورة جدّ طبيعية، كرامته السامية المتأتِّية عن الحقيقة المنغرسة في كيانه منذ الأزل، التي أعلنتها الحكمة المشرقية على تعدد مشاربها، وبذلك تبدو مؤهلة لمنح الإنسان ذلك "المدَد الداخلي" الذي هو في أمس الحاجة إليه، لا لشيء إلا لكي ينجو… وبنجاته، يشهد للحقيقة… وتعي "الفكرة" ذاتها فيه. *** *** *** | |
| | |
مُشاطرة هذه المقالة على:
صفحة 1 من اصل 1 | |
| صلاحيات هذا المنتدى: | تستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
| |
| |
| المواضيع الأخيرة | » بناء أطروحة بتنبني منهجي المعروف الهدم التحريري حول الموضوع التالي الاطروحة تتعلق بتفكيك بنية العقل الثوري الكلاسيكي منذ عهد أرسطو وإسناده على مجموع القيم التي أنتجها هذا العقل اليوم في 1:32 pm من طرف سميح القاسم» يتبعاليوم في 1:31 pm من طرف سميح القاسم» الاستنتاج والبديل الابستمولوجيا والمنهجي بعد الهدماليوم في 1:30 pm من طرف سميح القاسم» فرص السيطرة على الصراع في الشرق الأوسط ا٢بح شبه مستحيل خصوصا مع وجود زعماء يتغذون على هذه الصراعات وأطالتها مثل نتانياهو وقريبا ترامب أمس في 5:54 pm من طرف سميح القاسم» معالم انهيار وشيك في الاقتصاد العالمي واضحة حتى وان بقيت لفترة تعمل في التنفيس من خلال قانون المنافذأمس في 5:50 pm من طرف سميح القاسم» تعزيز. القوة وتحصينها. والهرولة. نحو التفوق والسيطرة. مؤشرات. تتجاوز الحالة السيكولوجية. للعالم قبل الحرب العالمية الثانيةأمس في 5:47 pm من طرف سميح القاسم» حتمية الانعطاف الحضاري الجدري القريب كل المؤشرات تبين ان البشر دخلوا مرحلة. الانجذاب العنيف نحو. التدمير الذاتيأمس في 5:42 pm من طرف سميح القاسم» باسكال معاصرًا باديو وغولدمان: حول قيمة الرهان وعودة الله بالتفصيلالجمعة نوفمبر 08, 2024 1:51 pm من طرف سميح القاسم» الإمام الغزالي الفيلسوف التَّائهالجمعة نوفمبر 08, 2024 1:39 pm من طرف سميح القاسم» برتراند راسل يكتب عن جورج أورويل إيديولوجيون ..دون إيديولوجياالخميس نوفمبر 07, 2024 4:55 pm من طرف سميح القاسم» الفلسفة و الدين صراع العقل و الخيالالخميس نوفمبر 07, 2024 4:48 pm من طرف سميح القاسم» المضامين الفلسفيّة في الفيزياء المعاصرة ج1 (نموذج النظرية النسبيّة)الخميس نوفمبر 07, 2024 4:44 pm من طرف سميح القاسم» النظرية العلمية. ونهاية فلسفة العلوم الحسم للعقل البديل والمعزز اية افاقالخميس نوفمبر 07, 2024 1:16 pm من طرف هشام مزيان» يتبعالخميس نوفمبر 07, 2024 1:15 pm من طرف هشام مزيان» العقل وأوثانه : نقد فلسفي للعقلالأربعاء نوفمبر 06, 2024 3:21 pm من طرف هشام مزيان» الفلسفة الأمريكية والعولمة سيطرة البراغماتية على العالمالأربعاء نوفمبر 06, 2024 3:14 pm من طرف هشام مزيان» الرأسماليّة بوصفها ديناًالأربعاء نوفمبر 06, 2024 1:30 pm من طرف هشام مزيان» بمقارنة تاريخيّة مع الوضع المحتقن في ألمغرب وما إذا أدت إلى ثورةًالأربعاء نوفمبر 06, 2024 1:25 pm من طرف هشام مزيان» بقايا استعباد قديم للعقلالأربعاء نوفمبر 06, 2024 1:12 pm من طرف هشام مزيان» نص تطبيقي لمنهج نظرية الهدم التحريري نظرية الحقالأربعاء نوفمبر 06, 2024 12:47 pm من طرف هشام مزيان» هذا النص هو اول تطبيق للاتجاه الهدمي التحريريالأربعاء نوفمبر 06, 2024 12:44 pm من طرف هشام مزيان» من إبداعي وطن النور الغجري"الثلاثاء نوفمبر 05, 2024 5:04 pm من طرف هشام مزيان» عنوان القصة: "أرواح المكان"الثلاثاء نوفمبر 05, 2024 3:23 pm من طرف هشام مزيان» المنصات الرقمية وأزمة العقل ما بعد الرقمية هندسة. للوعي بادوات التسطيح والتفاهة تك توك نموذجالثلاثاء نوفمبر 05, 2024 3:21 pm من طرف هشام مزيان» الفكر المسردب .. المتغير الثابت في إدارة التدافع العربيالثلاثاء نوفمبر 05, 2024 3:17 pm من طرف Admin» التإثيل لاتحاه فكري جديد الثلاثاء نوفمبر 05, 2024 12:33 pm من طرف بن عبد الله» لتأصيل هذا المنهج النقدي الهدمي الذي أسسته أضف مزيدا من العمق على الأفكار السابقةالثلاثاء نوفمبر 05, 2024 12:32 pm من طرف بن عبد الله» أسس معي لمنح النقد الهدمي وتبيان أدواته كيفية عملهالثلاثاء نوفمبر 05, 2024 12:31 pm من طرف بن عبد الله» ماذا يمكن تسمية هذا الاتجاه الفكري النقدي الجديدالثلاثاء نوفمبر 05, 2024 12:29 pm من طرف بن عبد الله» عوض الفكر هل يمكن تسميته اتجاه. لأنه لا يستدعي منظومة فكرية في ذاتها بقدر ما يسعى إلى تبني منهج اصيل للتصدي للفكر والمناهج الكلاسيكيةالثلاثاء نوفمبر 05, 2024 12:29 pm من طرف بن عبد الله |
|
|