العنف ضد المرأة من وجهة نظر نظرية التعلق: مقاربة نفسية
لم
يشكِّل العنف ضد المرأة مشكلة، إذا ما استدعينا السياق التاريخي في هذه الظاهرة،
لأن المجتمعات، على وجه العموم، كانت تتعامل مع المرأة بوصفها من ممتلكات الرجال،
بل إن هذه المجتمعات شرعنت، بصورة أو بأخرى، العنف الأسري وباركته بقصدية واضحة.
لقد قادت التغييرات الاجتماعية إلى تجريم العنف ضد المرأة في المجتمعات المعاصرة،
إلا أن العنف بقي ظاهرة مشتركة في هذه المجتمعات تحت صور ومسميات شتى، قديمة
ومتجددة أو جديدة تتناسب مع روح العصر العاجز عن مواجهة غول العنف الذي يقتل ويشوه
الإنسان بدنيًا ونفسيًا واقتصاديًا وجنسيًا ليصبح وباء العصر وكل عصر. إنه يضرب
مجتمعات العالم قاطبة، يتخطى العوائق، والحدود، والثقافات، والتعليم، والأديان،
والتكنولوجيا، والعرق، والطبقة الاجتماعية، والاقتصاد، وغيرها. فلا يوجد دولة أو
ثقافة تستطيع أن تزعم أنها خالية من هذه الظاهرة المقيتة، والاختلاف الوحيد ربما
يكون في أنماط واتجاهات هذه الظاهرة. وعلى الرغم من أن بعض المجتمعات تحرِّم العنف
ضد المرأة، إلا أن هذا العنف متأصل في صميم ثقافاتها. ومن حيث الممارسة غالبًا ما
يقع العنف تحت ستار الممارسات الثقافية والعادات والتقاليد والتفسير الخاطئ للدين،
خصوصًا إذا كان ضمن حدود الأسرة، ذلك أن القانون أو الجهات الرسمية عادة ما تفضل
التغاضي والسكوت عليه بحجة السلم الاجتماعي على سبيل المثال.
لا يوجد تعريف عالمي متفق عليه لهذه الظاهرة. فبعض منظمات حقوق الإنسان تتوسع في
التعريف ليتضمن العنف البنيوي مثل الفقر، وعدم تكافؤ الفرص، والوصول إلى الموارد
كالصحة والتعليم، فيما تفضل مؤسسات أخرى تعريفًا محددًا حتى لا يفقد المصطلح مضمونه
وفاعليته.
وفي كل الأحوال، فإن الغاية من الوصول إلى تعريف محدد متفق عليه تسهل دراسة الظاهرة
ومتابعتها وإمكانية تطبيق التعريف على ثقافات مختلفة ومتنوعة في الوقت ذاته. في عام
1993 عرَّف إعلان الأمم المتحدة لمناهضة العنف ضد النساء، العنف ضد المرأة بأنه:
أيُّ فعل عنيف على أساس النوع الاجتماعي ينتج عنه أو ربما يتسبب في أذى بدني أو
نفسي أو جنسي أو معاناة للمعتدى عليها متضمنًا التهديد بمثل هذه الأعمال، الإكراه،
أو الحرمان التعسفي من الحرية، سواء حدث ذلك على الملأ أو في الحياة الخاصة.
يشير التعريف إلى جذور النوع الاجتماعي لهذه الظاهرة معترفًا بأن
العنف ضد النساء هو أحد الآليات الاجتماعية الحاسمة التي تضع المرأة قسرًا في درجة
أدنى من الرجل.
كما أنه يوسِّع تعريف العنف ليشتمل على العنف النفسي، فضلاً عن البدني، كما أنه
يتضمن الأفعال العامة والخاصة. يحدد الإعلان ثلاثة مجالات للعنف: الأسرة، المجتمع
العام، أو عنف تمارسه الدول أو تتستر عليه على أقل تقدير.
ترى المقاربة الاجتماعية النسوية لظاهرة العنف أن سبب الظاهرة يكمن في الموافقة
الضمنية التي يمنحها المجتمع للرجل الممارس للعنف
الرجل الذي يهين زوجته إنما يمارس وصفة ثقافية معززة في المجتمع: العدوانية،
والهيمنة الذكورية، والدونية الأنثوية، وهو يوظف القوة الجسدية لتعزيز هذه الهيمنة.
لا تستبعد هذه المقاربة البعد النفسي في طرحها كما تفعل بعض الناشطات النسويات
اللواتي يركزن على المقاربة الاجتماعية الصرفة للظاهرة، علمًا أن عددًا من
المشاهدات لا تتوافق مع مقارباتهن، فمثلاً يرى الباحثون أن معدلات العنف وسوء
معاملة النساء أقل في المجتمعات الموسومة بالثقافة البطريركية. كما أنه لا توجد
علاقة مباشرة بين السلطة الفعلية التي يمتلكها الرجل في إطار علاقة ما بالمعاملة
المهينة للمرأة. فضلاً عن تفشي العنف بين الأزواج الشاذين جنسيًا، الأمر الذي يقلل
من أهمية وجود ذكر وأنثى ضمن علاقة الشراكة التي يمارس فيها العنف. وعلى الرغم من
أهمية الدور الاجتماعي إلا أن فهم الظاهرة هو الطريق الفاعل نحو مكافحتها، الأمر
الذي يتطلب مقاربة نفسية إضافية.
ترى نظرية التعلم الاجتماعي أن العنف ضد المرأة هو استجابة مكتسبة لمثير – معززة
بنتائج مباشرة (الشعور بالسيطرة، التعبير التطهيري عن الغضب، إنهاء الجدال) –
يجلبها العنف، ومن ثم فإن عنف الأب ضدَّ الأم قد يشكِّل نموذجًا يحتذى من قبل
الأطفال. وعلى الرغم من ذلك، فليس من الحكمة القبول بنموذج مبسط لمقاربة هذه
الظاهرة لأنه ببساطة لا يمنح تفسيرًا شاملاً لها. ذلك أن معايشة العنف الأسري تؤدي
إلى ممارسة العنف من قبل الذكور والإناث بصورة عامة ولا ترتبط بالجنس، فضلاً عن أن
الكثير من الرجال يمارسون العنف ضدَّ المرأة دون أن يكونوا قد تعرضوا لتاريخ مشاهدة
ممارسات عنفية بين والديهم. الأمر الذي يؤكد ضرورة مقاربة هذه الظاهرة من منظورات
أخرى تتجاوز السائد والعام وتبحث في الأسباب والدوافع.
يرتكز البروفسور بيتر فوناغي[1]
في تفسير ظاهرة العنف الأسري – استنادًا إلى نظرية بولبي عن التعلُّق – إلى
الملاحظات الابستمولوجية التي تؤكد أن النوع الأول من هذه الظاهرة يتضمن علاقات
تعلُّق، الأمر الذي قاده إلى استنتاج أن نظرية التعلُّق قد تكون مفيدة في تحليل هذه
الظاهرة.
وتتعامل نظرية التعلُّق مع التفاعلات الديناميكية التي تحدث بين الأطفال والقائمين
على رعايتهم، أعني الوالدين أو من يحل محلهما، وترى هذه النظرية أن الأطفال يندمجون
في سلوك (تعلُّق) يبحث عن التقارب
Proximity-seeking attachment behavior،
وعادة ما يكون في شكل مطالب مشحونة انفعاليًا لجذب الانتباه (مثل الصراخ أو نوبات
الغضب) أو في شكل سلوك انسحابي شديد. وعندما تتم تلبية هذه المطالب بشكل مناسب
لسلوك الرعاية، فإن الطفل يعيش إحساسه بالصحة النفسية والأمان الذي يمكِّنه من
الاندماج في سلوكيات "استكشافية"، والتي تعد مهمة جدًا لنموه الطبيعي. وهنا لا
يتضمن سلوك الرعاية المناسبة الإهمال أو الحماية الزائدة. أما الفشل والإخفاق في
معايشة الرعاية المناسبة للطفل فقد يؤدى إما إلى التثبيت على مرحلة نمائية مبكرة،
أو النكوص إلى هذه المرحلة المبكرة. إن مثل هذا التثبيت أو النكوص سوف يأخذ غالبًا
شكل سلوك تعلُّق نمائي غير مناسب باحثًا فيه عن التقارب[2].
يفترض بولبي[3]
أن نظام التعلُّق يبقى مُنظِّمًا مركزيًا للسلوك الشخصي الداخلي طوال حياة الفرد.
إذ تنشأ علاقات التعلُّق على مدى السنتين الأوليين من حياة الطفل تقريبًا، ولكن
الأهم هو أن هذه العلاقات تحدث في وقت واحد مع تطورات عصبية هامة في الدماغ. إن
سلوكيات مثل الإغماء أو الجمود أو الهرب أو الاختباء أو إهانة القائم على الرعاية
عند الاتقاء به بعد الانفصال المؤقت تدلِّل على فشل في نظام التعلق.
يزعم بولبي أن مهمة الطفل هي تأسيس علاقة مع القائم على رعايته تؤكد الحماية من
خلال التقارب. يوفر نظام الأبوة هذا التقارب والتواصل لتأكيد الحماية والبقاء في
نهاية المطاف. يحرض التهديد نظام التعلق وهذا بدوره يحفز نظام الرعاية عند البالغ.
ولكن، ماذا عن العلاقة المؤذية أو المهينة
abusive relationship؟
يسبب سوء المعاملة أو التهديد بسوء المعاملة استثارة عالية لنظام التعلُّق عادة ما
يكون مفارقيًا بالنسبة للمسيئ الذي هو مصدر التهديد والأمل في احتوائه في الوقت
ذاته. وهذا بالتحديد لب التعلُّق المضطرب أو المشوش.
عرَّف بولبي الغضب على أنه استجابة طبيعية من الطفل عندما تتعرض توقعاته بالأمن أو
القرب من القائم على رعايته للخطر. وفي حالة التطور الطبيعي فإن لهذا الغضب وظيفة
في تمتين العلاقة مع القائم على الرعاية. وعند السنة الثانية أو ربما قبلها بقليل
يوظف الغضب للحفاظ على تكامل التمثيل الذاتي. تهديد قدرة الصغير على تقرير المصير
عادة ما يقود إلى نوبة غضب مؤذية تميل إلى الخفوت مع نشوء نظام ذاتي ثابت. إن
انفجار الغضب عند الصغير لا يكون استدعاء للحماية بالأساس، بل إنه أيضًا استجابة
وقائية ذاتية على بلادة وبرود القائم على الرعاية. تنفجر هذه الاستجابة لحظة إحساس
الطفل بالانتقاص من صورته الذاتية الناشئة. عادة ما تثير ردة الفعل هذه تكثيفًا
فوريًا لاستجابات تقديم الرعاية مع فرصة أكبر نحو الاعتراف بقصدية الطفل. وعلينا
التذكير بأن ثورات الغضب هذه شائعة في سياق التعلُّق.
تتحول استجابة الغضب الطبيعية إلى عدوانية عندما يسود البرود والبلادة. يستدعي
الطفل درع الغضب الدفاعي مرات عديدة بحيث تصبح استجابة المعارضة متكاملة مع البناء
الذاتي للطفل. وعلى الفور يولِّد التوكيد الذاتي عنفًا. وبالرغم من أهمية الغضب ضمن
علاقات الارتباط فإن العدوان هو بالتأكيد خلل لأنه يهدد بتحطيم علاقة الارتباط. وفي
تشكيل بولبي فإن العدوان أو بالأحرى "اختلال الغضب" يكمن في جذور التعلُّق القلق.
وعليه فإن التعلُّق القلق يرتبط بالعنف ولكنه لا يوفر تفسيرًا كافيًا، لأن الارتباط
القلق شائع في أطفال الطبقات العاملة ولكن أغلبهم لا يصبحون عنيفين لأن التعلُّق
القلق على الأرجح استراتيجية ثابتة تقريبًا تتمايز في مرحلة البلوغ بنبذ العلاقات
بوصفها غير هامة (نمط التجنُّب القلق)، أو بوصفها انشغال بعلاقات ارتباط ماضية يتم
تناولها غالبًا بغضب (نمط المقاوم القلق). لا تشبه أي من هذه الاستراتيجيات السلوك
الخارج عن السيطرة والذي يمارسه الرجال العنيفون، فضلاً عن ذلك تشير الدلائل
الإكلينيكية إلى أن المعنِف يذهب إلى أقصى حدٍّ في سبيل الاحتفاظ بالعلاقات المختلة
مع ضحاياه بعد نوبات العنف.
في إطار التعلُّق والقدرة على تمثيل الحالات الفكرية، يمكن تناول فشل القائم على
الرعاية الدائم في الاعتراف بحالة الطفل الموضوعية في بواكيرها. يمكن القول إنه
بدون قدرة فعلية على اختبار الذات من حيث الدوافع والأمنيات والرغبات التي تحاصرها
المعتقدات والتوقعات فإن الطفل يعتمد على رمز التعلُّق لاكتشاف موضوعيته الذاتية[4].
يجد الطفل نفسه في عقل القائم على الرعاية بوصفه كائنًا مقصودًا تحفِّزه حالات
عقلية وأفكار ورغبات. هذا التمثيل يصبح فيما بعد لب الذات النفسية، وبالتالي فإن
إدراك الموضوعية يمكن أن يعبَّر عنه لدى الطفل كالتالي: "القائم على رعايتي يفكر
بي، بوصفي تفكير، إذًا أنا موجود بوصفي مفكر".
هناك العديد من الدلائل التي توافق هذا النموذج: فقد أثبتت دراسات متعددة أن قدرة
مقدم الرعاية على عكس الحالات العقلية عند وصف طفولتهم يشي بأمن التعلُّق لدى
الطفل. إن كفاءة التعلُّق المبكر هي أيضًا مؤشر جيد نسبيًا على قدرة الطفل على
تعلُّم أن أفضل طريقة لفهم سلوك الآخرين تكون بوساطة الحالات العقلية أو ما يطلق
عليها نظرية العقل. يتمكن الأطفال اللذين تمتعوا بتعلُّق آمن في طفولتهم من اجتياز
الاختبارات المعرفية المتعلقة بتفهم الحالات الوجدانية عند الآخرين بتفوق أكثر من
أقرانهم اللذين عانوا من تعلُّق غير آمن. إن تفهم الطفل للعقل يعتمد بصورة حاسمة
على فرصة وجوده في عقل القائم على الرعاية بوصفة فردًا متعقلاً. تعتبر قدرة
الوالدين التعقيلية مؤشرًا آخر. وبالتالي فإن نظرية العقل هي قبل كل شيء نظرية
الذات والتعقيل[5]
Mentalization.
التعقيل هو القدرة على فهم وتأويل السلوك الإنساني من خلال الحالات العقلية
المفترضة التي تدعمه والتي تتكون عبر خبرة أن المرء قد قوبل بتفهم مماثل في سياق
علاقة تعلُّق. يقول البروفسور بيتر بوناغي إن هذا من وجهة نظره هو البعد الحاسم في
الإساءة والعنف المتنقل عبر الأجيال[6].
إن سوء المعاملة يضعف قدرات الطفل الانعكاسية والشعور بالذات. وقد لوحظ[7]
أن الأطفال الصغار اللذين تعرضوا للإيذاء كانوا أقل إيجابية من الناحية الوجدانية
عند التعرُّف على أنفسهم في المرآة، كما أظهروا عجزًا في توظيف كلمات تصف الحالة
الداخلية. إنهم لا يستطيعون حلَّ الألغاز التي تتطلب منهم إدراك المعتقدات الخاطئة
الخاصة بشخص والمتعلقة بالمعتقدات الخاطئة لشخص ثانٍ. تشير النتائج إلى أن سوء
معاملة الأطفال قد يؤدي إلى الانسحاب من العالم العقلي. إن سلوكيات التعلُّق لديهم،
والبحث عن التقارب، تكون مشوشة ومنقسمة على ذاتها لأنهم ينشدون التقارب الجسدي بشدة
بينما يحاولون خلق مسافة عقلية. أما أسباب حدوث ذلك فهي[8]:
-
أولاً: إن الاعتراف بالحالة العقلية للآخر يمكن أن يشكِّل خطرًا على تطوير الذات،
لأن الطفل الذي يعترف بالكراهية التي ينطوي عليها تعاطي أحد الوالدين معه مضطر إلى
النظر إلى نفسه بأنه غير محبوب.
-
وثانيًا: إن الحالات القصدية أو المتعمدة يمكن أن تنفي أو تشوه. إذ إن الآباء
المسيئين عادة ما يزعمون معتقدات أو مشاعر تخالف سلوكهم. ولأن الطفل لا يمكنه
اختبار أو تعديل عروضه وإقراراته الخاصة التي أصبحت جامدة، أو غير ملائمة.
-
وثالثًا: يمكن للعالم، حيث من الشائع وجود وظيفة انعكاسية، أن يمنح نماذج بديلة
لمواجهة الذات والتي هي من الجمود والتصلب بحيث تبقى منفصلة عن سياق التعلُّق.
-
وأخيرًا، قد يحدث اختلال وظيفي، ليس بسبب سوء المعاملة فحسب، ولكن بسبب جو الأسرة
التي يحيط بالطفل. ذلك أن الأبوية السلطوية، المرتبطة عادة بسوء المعاملة، وكما هو
معروف، يمكن أن تؤخر تطوير التعقيل. يجد هؤلاء الصغار وأمهاتهم صعوبة في الانخراط
في موقف مسلٍ أو لعوب، وبالتالي تغيب السقالات الاجتماعية الضرورية لتنمية التعقيل
في هذه الأسر.
وفي حالة ما، إذا كان نقص الاعتبار بقصدية[9]
الطفل هو السائد، فإن العواقب لا تكون فقط على المستوى الوظيفي ولكن أيضًا على
مستوى النمو العصبي، إذ يعاني الأطفال من نقص واضح في الوظيفة القشرية في المناطق
الحجاجية الأمامية من المخ. فقد أثبتت دراسات أن التعلُّق غير الآمن، ولا سيما
المشوش والمضطرب، يرتبط ببطء كبير في العودة إلى المستوى الطبيعي للكورتيزول
المرتفع بعد الانفصال المحرض. التعرض المزمن لمستويات الكورتيزول العالية المرتبطة
ببلادة الرعاية المزمن يمكن أن يسفر عن النمو العصبي الشاذ الذي يؤدي إلى حدوث عجز
في القدرة على التعقيل. ويُعتقد أن العنف الذي يمارسه الذكور في كثير من الأحيان له
أساس عصبي.
بتطبيق مبادئ نظرية المهارات الديناميكية للنمو، والتي وضعها كورت فيشر، يمكننا أن
نفترض أن سوء المعاملة يرتبط بتجزئة أو انقسام التعقيل على المهام والمجالات. وفي
الرجال العنيفين لا يتحقق التنسيق الطبيعي للمهارات التي كانت منفصلة سابقًا،
وبالتالي يبدو التجزؤ تكيفًا من الفرد وسائدًا على التكامل.
هناك أنواع من العنف مرتبطة دون أدنى شك بفك الارتباط المعنوي الناتج عن فشل
التعقيل الشامل. وهناك على الأقل أربعة أسباب لهذه الحالة:
-
أولاً: إن الأفراد الذين لا يمتلكون إحساسًا راسخًا بهويتهم ربما يكونون أكثر
استعدادًا للشعور بأنهم غير مسئولين عن أفعالهم لأنهم في الأصل يفتقدون الإدراك
بالوكالة[10]
sense
of agency.
-
ثانيًا: القدرة التعقيلية هي استباق العواقب النفسية عند الآخرين.
-
وثالثًا: إن القدرة المحدودة للتعقيل قد تجعل الفرد يعامل الآخرين بوصفهم أشياء
مادية.
-
ورابعًا: إن محدودية التعقيل من المرجح أن تتسبب في ميوعة معينة داخل النظام
التمثيلي العقلي الذي يمكن أن يؤدي إلى تبريرات متحررة. يظهر بعض الذكور العنيفين
قدرة ملحوظة على تبرير ممارسات غير مقبولة بوصفها مقبولة.
هناك ضغوط هائلة على الأطفال لتطوير تمثيل للحالات الداخلية، وقد حذرنا ويني كوت
(1967) من أن فشل الطفل في العثور على انعكاس حالته الراهنة سيؤدي به على الأرجح
إلى استيعاب وتمثُّل حالة الأم الخاصة، كجزء من تركيبه الذاتي. يدمج الطفل في
تركيبه الذاتي الوليد تمثيلاً لآخر. وعندما يواجه بمقدم الرعاية الخائف أو المخيف،
فإن الرضيع يأخذ مشاعر الغضب والكره والخوف عند الأم، إضافة إلى صورتها عن الطفل
على أنه مخيف ولا يمكن السيطرة عليه، بوصفها جزءًا منه. هذه الصورة المؤلمة يجب
تخريجها وتجسيدها حتى يتمكن من تحقيق تمثيل ذاتي متماسك يمكن له أن يحتمله. سلوك
التعلُّق المشوش للرضيع وعواقبه – التسلط والتفاعلات المسيطر عليها مع الآباء –
تسمح بتجسيد وتخريج أجزاء من الذات وتحد من استمرار اقتحام التمثيل الذاتي. وفي
الحقيقة فإن الجزء المركزي المتفكك من الذات هو غياب، وليس محتوى نفسيًا أصيلاً.
إنه يعكس خرقًا في حدود النفس، وبالتالي يخلق انفتاحًا على "استعمار" الذات من قبل
الحالة العقلية لرمز التعلق. وفي حالة بعض الأطفال اللذين يتعرضون لسوء المعاملة في
وقت لاحق من النمو، فإن الأمر لن يكون حياديًا بل تعذيبًا بصورة كارثية. وعندما
تتمثل هذه الصورة الغريبة ضمن تمثيل الذات، فإنه لا بد من طردها وتخريجها ليس فقط
لأنها لا تتطابق مع الذات البنيوية، ولكن لأنها اضطهادية. عواقب ذلك على العلاقات
الشخصية يمكن أن تكون كارثية.
هذه الأسباب هي جذور التعلُّق المشوش، وذلك لأن السلوك المشوش للرضيع يستبدل خلال
السنوات الخمس الأولى من عمره باستراتيجيات سلوكية هشة للسيطرة على الآباء، سواء
كانت عدوانية أو سلوكًا لا يلاءم عمره. ولأن الآباء يخبرون الطفل بوصفه من يملك
زمام الأمور فيما هم عاجزون عن توفير الرعاية المناسبة. ومن ثم فإن أمهات الأطفال
المشوشين يصفن أطفالهن بأنهم نسخ مكررة عنهن، وتخبر الأم نفسها بوصفها مندمجة مع
طفلها، وبالتالي فإن هذه الخبرات تفسر من خلال جوانب تخريج تمثيل الذات التي لا
تتصل بتمثيل الأم للطفل، ولكن بتمثيل الأم داخل ذات الطفل. أيضًا يتوافق سلوك
الرعاية غير الناضج مع فكرة أن تمثيل الأم قد تجسد أو تطبع في الذات، وقد وجدت أغلب
الدراسات علاقة بين التعلُّق المشوش والمستويات المنحرفة من السلوك العدواني.
تخريج صورة تمثيل الأم من داخل التمثيل الذاتي يجعل هذا التمثيل أكثر تماسكًا. مثل
هذا التخريج يمكن أن يعمل في حالة كانت الأم تحت السيطرة بدرجة كافية حتى يمكن
اختبار التمثيل الذاتي الدخيل بوصفه خارجيًا.
هذه الإستراتيجية يمكن أن تعزز، في مرحلة الطفولة، من خلال السلوك الهجومي أو
التهديد الذي غالبًا ما يجبر الكبار على استئناف موقف السلطة، ومن ثم تنشيط نظام
تقديم الرعاية الأبوي الذي تخلى مقدم الرعاية عنه مؤقتًا.
الآلية الموصوفة هنا هي مثال لمفهوم التحليل النفسي عن الهوية الاسقاطية، أو بشكل
أكثر تحديدًا، ما أطلقت عليه اليزابيث سبيليوس "الهوية الاسقاطية المذَّكِرَة"[11].
النمط الفوضوي من التعلُّق المتجذر في الذات المشتتة. يشعر الفرد عندما يكون الفرد
وحده – وبسبب التمثيل التعذيبي الذي لا يستطيع الهروب منه لأنه يخبره من داخل ذاته
– بأنه عرضة لخطر الاختفاء، والدمج النفسي، ويخسر كل تماسك ممكن وكل حدود العلاقة.
في مرحلة البلوغ، يواصل التمثيل الذاتي المشوش ظهوره بوصفه احتياجًا هائلاً للسيطرة
على الآخرين. يضطر الرجال الذين يمارسون العنف إلى إقامة علاقة تكون فيها وعاء
لحالات النفس التي لا تطاق. إنهم يلجئون إلى العنف في بعض الأحيان عندما يهدد
الوجود العقلي المستقل للآخر عملية التخريج هذه. في هذه الأوقات، يضطرون إلى اتخاذ
إجراءات قوية بسبب الرعب من أن التماسك أو الذات سوف يتم تدميرها بعودة ما تم
تخريجه.
ومن ثم فإن أعمال العنف تؤدي وظيفة مزدوجة: إعادة خلق واستعادة خبرة الذات الدخيلة
داخل الآخر وتدميرها، على أمل لا واع بأن تذهب إلى غير رجعة. وعندما يلمسون الرعب
في عيون ضحاياهم، فإنهم يستعيدون اطمئنانهم. وعليه، فإن طلب المغفرة التي يقومون به
تاليًا حقيقي في الواقع، وذلك بسبب الحاجة الماسة إلى وجود علاقة يكون فيها هذا
التخريج ممكنًا.
يشترك الرجال المعنفين في جملة سمات اكلينيكة[12]
فهم مثلاً لا يطيقون الوحدة ذلك لأنهم لا يجدون الوعاء الذي يخرجون فيه حالات النفس
التي لا تطاق.
ومن السمات الأخرى تصعيد التوتر وثورات الغضب العنيفة من جانب الرجل، وعادة ما
يرافقه اعتراف بالخطأ، ولكن أيضًا مع الاعتراف بأن الأمر كان خارج السيطرة. يرتبط
التهور والاندفاع هنا بعدم القدرة على تمثيل الحالة العاطفية بتماسك، وسرعان ما
يدفعهم الخوف من الهجر إلى اتخاذ استراتيجيات مرتكزة على فعل بدني ما قبل تعلقي.
إنهم يفقدون القدرة على التأثير على الشريك من خلال تغيير حالتهم النفسية. وهناك
نوع من اليأس العقلي المكتسب، وأكثر ما يثيره هو الخوف الناجم عن احتمالية فقد وعاء
تخريج التمثيل الذاتي. الغيرة القمعية من هؤلاء الرجال ليست تعبيرًا عن الحب أو
الرغبة، ولكنها خدعة بدائية للحفاظ على الشريك أسيرًا ومتاحًا لضبط حالات النفس.
اندلاع العنف عادة ما يسبقه تكثيف القلق من الهجر والسبب في ذلك – تبعًا للبروفسور
فوناغي – أن هذه الفترات غالبًا ما تتميز بزيادة استقلالية المرأة، التي تركن إلى
شعور زائف بالأمان من قبل الشريك نتيجة الندم الذي أظهره في أعقاب المواجهة العنيفة
الأخيرة. ولكن ما لا تدركه أن إحساسها النسبي بالراحة والاطمئنان النفسي يشكل
تهديدًا لا يطاق لشريك حياتها بسبب حاجته إلى تخريج الجزء الدخيل من تمثيل الذات.
ما يعقد الأمور في هذه المرحلة هو أن الرجل يتراجع إلى نمط من التفكير لا يسمح إلا
بإمكانية احتمال واحد فحسب، ورفض مجرد وجود احتمال بخطأ اعتقاده. إنه يفقد قدرته
على "اللعب مع الواقع" وأية محاولة من جانب المجني عليه في تقديم صيغة بديلة للحدث
ينظر إليها على أنها بادرة استفزازية أو محاولة لتقريبه من الجنون. يتفاقم الامتلاك
الجنوني بسبب هذا المنظور المتفرد الجامد. هذه الخبرة البدائية للحقيقة النفسية
التي تساوي الداخل بالخارج تستثير قلقه المتصاعد المرتبط بالانفصال العقلي. الأفكار
الوهمية بأن شريكته قد تغيرت في الشكل والمظهر، ولم تعد (ملكه)، تثير موجات غضبه
العارم فيضطر إلى إجبارها على العودة إلى دور الرضيع الخائف، وقبول صورة الأم
الخائفة أو المخيفة، لذلك لا بد: "أن يلقنها درسًا لا تنساه".
غالبًا ما تكون بواعث العنف عرضية، ولكن لا يمكن تجنبها، إنها أي مؤشر آخر على
الانفصال النفسي للمرأة؛ فقد تكون تصفيفة الشعر الجديدة، أو ملاحظة عابرة تعرب فيها
عن اهتمامها بأي شخص آخر غير الشريك، أي شيء للمرأة يمكن أن يذكر الرجل بأنها
إنسانة في حد ذاتها (كما هي في الواقع وكما ستظل دائمًا). وسواء بقيت صامتة، أو
تكلمت فإنها يمكن أن تذكر المعتدي بقصديتها.
هناك جانب آخر للصورة الإكلينيكية للرجال اللذين يمارسون العنف تتمثل في الحرمان
الأمومي. كما وجد أن للحرمان الأبوي دورًا لا يقل أهمية، إضافة إلى أن عدوانية الأب
تلعب دورًا هامًا في تاريخ الرجال اللذين يمارسون العنف. يلعب الأب دورًا أساسيًا
في تقديم وجهة نظر الشخص الثالث ضمن علاقة الطفل المشوش ومقدم الرعاية. ولكن من
الواضح أن غياب الأب أو سلبيته لا تسبب عدوانية الرجل بدون اختلال مسبق في نظام
التعلق على نحو ما ذكرناه سابقًا. وبلا شك سيكون سلوك الأب عاملاً مساهمًا في ترسيب
السلوك العنفي المستقبلي.
تأخذ الأمور بعدًا يتجاوز الحرمان، فقد يمارس القائمون على الرعاية الإهانة
والتحقير والعقاب العشوائي بحق الصغير. وبسبب أن القدرة العقلية للصغير هشة أصلاً
نتيجة للتعلق المشوش والتركيب الذاتي المشوش المصاحب، فإن الصغير لن يتحمل الإهانة
الوالدِّية. تخلق الرعاية الخائفة أو المخيفة هوة أو نافذة مفتوحة ضمن بنية الذات
يمكن لعدوانية الأب نحو الطفل أن تقوم بملئها مستقبلاً، وبالتالي فإن هذه العدوانية
واللاعقلانية والرعب ستختبر ضمن الذات أيضًا. ليس من السهل بعد ذلك تخيل اليأس الذي
سيجذره ذلك في الذات.
ولأن الطفلة الأنثى يمكن أن تتعرض إلى المعاملة ذاتها في طفولتها، وبالتالي تظهر
السمات النفسية ذاتها. إلا أن الحالة المرضية تتطور بشكل مختلف فيما بعد. تميل
النساء اللاتي تعرضن إلى سوء المعاملة وإلى علاقات تعلُّق مضطربة في طفولتهن إلى
محاولة الانتحار أو إلحاق الأذى بأنفسهن. إنهن يطورن علاقات عنف مضطربة مع أبدانهن
يمكن مقارنتها بعلاقة العنف المشوش التي يمارسها الرجال ضد النساء على أمل أن يتمكن
من تحطيم الذات الدخيلة على ذواتهن.
ويمكن القول إن البناء الاجتماعي الذي نعيش فيه يقود الرجال إلى طريق مختلف عن
النساء بحيث يصبحون معتدين لا معتدى عليهم، يعذبون الآخرين ولا يتعذبون.
كلا الفريقين ضحايا بنية اجتماعية لا تدعم العائلات ولا وظيفة الأبوة بما فيه
الكفاية لتمكيننا من تقديم الرعاية الكافية للأطفال واليافعين، كما أنها لا تقدم
هياكل اجتماعية بديلة يمكن أن تساعد الأطفال على التوصل إلى التعرف على الذات من
خلال التبادل الاجتماعي القائم على الخيرية وليس الربحية.
إن البنية الاجتماعية الحالية تركز، بشكل أكثر وحشية، على التميُّز، والنزعة
الفردية، وتحقيق الأنانية، الجانب الأكثر هشاشة في الفرد الذي يعاني من تعلُّق
مضطرب ومشوش. ويعتقد البروفسور فوناغي أن التعلُّق غير المنظم وما يرتبط به من
تعقيدات في التنظيم الذاتي يمكن أن يحدث، على الأقل جزئيًا، بسبب أن المجتمع قد
تخلى عن وظيفته في الرعاية، وأهمل مؤسساته الداعمة للتنمية العاطفية، والتي تحولت
أولوياتها من الاهتمامات العقلية والعاطفية إلى الاهتمامات المادية. الأمر اتضحت
عواقبه بازدياد ضحايا العنف المتصاعد من حولنا. مشكلة العنف بين الذكور ضد الإناث
لا يمكن أن تعالج معالجة كافية من دون التزام حقيقي برصد الموارد الكافية من أجل
الوقاية، وبتقديم الدعم الكامل للآباء والأمهات والأطفال الصغار، وإعادة النظر
جذريًا في الأولويات الاجتماعية في اتجاه مقاربة اجتماعية وتربوية ترتكز على تنمية
العلاقات التعاطفية في الأسرة والمجتمع.