النسيج الحيوي
في
بداية الثمانينات كان هناك البعض من اليساريين والعلمانيين، الذين ربتوا على كتف
"حافظ الأسد" عندما قام بالقضاء على الإخوان المسلمين بطريقة وحشية إجرامية، بحجة
أسميها "شيطنة ستالينية".
اليوم ضمن تفاصيل الحالة الصعبة والمعقدة، ولكنها الحالة الأكمل للانعتاق نحو
الحرية، تخرج بعض الأصوات المفصولة عن الواقع، التي تطالب بعدم الإشارة إلى الأخطاء
بمسمياتها الحقيقية، الأصوات النخبوية التي تعيش ضمن رومانسيات الزمن الجميل، عن
شعارات وحدة السوريين وعن العلمانية والدولة المدنية، وهو أمر جميل ورائع، خاصة إن
كان العديد من المثقفين لا يريدون تلويث أسمائهم بالحديث عن الوحل! وما اتضح أننا
سننتظر المزيد منه. الوحل مع الدم وأوساخ نصف قرن من العبودية الأسدية.
النوايا الطيبة لا تكفي، والإخلاص للثورة، أمر لا يجب التشكيك به عند أحد، لأني
افترض سلفًا أن الإرتقاء بالخطاب الوطني بين السوريين يلزم، في الدرجة الأولى، مدَّ
جسور الثقة وروح التعاون، بدل التناحر، مع الإقرار باختلافنا وخلافاتنا، كصيغة
مستقبلية للتعددية الوطنية، لكن من يريد مكاشفة الذات؟ الثورة على الأنا، هي أولى
الخطوات التي فعلتها الثورة لدى الكثيرين، ولابأس من مواجهة هذه المرآة حتى لو كانت
مكسورة، أو مشوهة.
التاريخ الذي نحتاج لإعادة النبش فيه، ليس تاريخًا عاديًا، وهو سيحتاج لاحقًا
الكثير من الأدبيات لتفكيكه وتحليله، وربما الوقت غير موات للحديث عن ذلك، ولكن من
المهم الآن أن لا يتم الصمت عن التفاصيل المُلتبسة واختصارها بعيدًا عن سياقها كفعل
منفصل، تمامًا يشبه هذا الحديث عن معنى مفردة اللغة المعلقة في الهواء، خارج سياقها
المُحال لاحتمالية لانهائية للمعاني، رحم الله جدنا الإمام الجرجاني، فنظرية سياقه
عن اللغة تصلح لسياقات الحياة وتصاريفها!
من يريد أن يبقى في برجه العاجي له الحق المطلق في ذلك، هذا قبول اختلاف، ومن يريد
أن ينزل ليرى حجم الفداحة التي تتنظر التغيير الحقيقي في سوريا، فعليه أن يخبط في
هذا الوحل.
العلويون،
ككتلة سياسية تقف إلى جانب النظام كما يبدو للعيان، لم تكن تحتاج لشيطنة أكثر مما
هي عليه في ذهن الثوار الجمعي، حتى لو تواجد العديد من النشطاء السريين والعلنيين،
من أبناء هذه الطائفة في الثورة، هذا لا يعني أننا نتحدث بشكل طائفي، نحن نتحدث عن
كتلة بشرية ضمن وطن واحد، وتحديدًا تفصيل "الوثيقة الخاصة بجد الأسد"، هي في
النهاية تفصيل تافه لا أهمية له البتة، ولم يكن ليستحق الذكر، لولا موجة التخوين
التي انتشرت على صفحات الفيس، والتي تفضي بتخوين كتلة بشرية كاملة، والنبش في
تفاصيلها. يضاف إليها تزوير في تفاصيل لا معنى لها، سوى اذكاء المزيد من نيران
الحقد.
ليس دفاعًا عن طائفة، هو دفاع عن تاريخ سوريا حين كانت الطوائف والأديان جزء من
نسيج اجتماعي متعدد، يثري تاريخ البلد ويشكل جزءًا من صيرورتها، سواء أعجبنا بهذه
الثقافة أم لا، ولكن هذه بلادنا وهؤلاء ناسنا وهذه ثقافتنا. ونحن هؤلاء أيضًا، وهم
نحن، إذا لم نعترف، أن وعي الناس العاديين رغم المجازر والمذابح، يبدو أكثر تسامحًا
وإنسانية من وعينا، نكون قاربنا الجحود فعلاً.
من هنا نستطع أن نبدأ، إذا استطعنا مكاشفة كل الأخطاء.
السؤال هنا: لو كان من قام بالحديث عن تفاصيل الوثيقة وحاول تفنيدها الآن، لا
ينتمي، بحكم المولد، للطائفة العلوية، هل ستكون ردة الفعل مشابهة، لدى من اعتبر أن
الحديث فيها هو نكوص نحو الطائفية؟
أظن أن مكاشفة الذات الآن ضروية، أكثر من أي مكاشفة أخرى، لا داعي للالتفاف على
الحقائق ومواربتها، خاصة أننا نولد جميعًا من جديد، نكسر ذواتنا، وتكسرنا أيضًا هذه
الذوات، ونكسر معها طوق العبودية، وتراكم تفاصيل كثيرة من هذا النوع في المجزرة
المستمرة، لن تضر المكاشفة فيه، حتى لو طالتنا أوحالها وقذارتها، وإن كانت لا تفيد،
فهي تثير سؤالاً، يبقى أفضل من اليقين.
هنا سياق مثال عن الإلتباس، وبعيدًا عن حديث الطائفية – رغم أنه جزء منه:
بدأت مؤخرًا تتشكل دعوات لدى العديد من الشباب الذين اضطروا لحمل السلاح، لتشكيل
كتائب مسلحة – في ظل الصمت الدولي، والمال المنهمر من رجال أعمال خليجيين لتمويل
المجموعات الجهادية، وفي ظل رغبة الشباب في محاربة النظام، التي ستجعلهم يوافقون
على الانضمام إلى أي مجموعة – هل سنجلس ونكتب ونحلل عن الأسباب التي أدت إلى ما
يحدث فقط؟ هذا جزء من عملية التغيير، وهو مهم جدًا، لكن هل سنتهم الثورة بالانحراف.
ونحن نقول إن سوريا لن تكون لبنان الجديد، أو أفغانسان، وأن الثورة مستمرة، وأن...
وأن...
هذه ليست دعوة لحمل السلاح، بل هذا ما يسمى بتخفيف ضرر، لأننا كلنا كنا ضد السلاح،
وكلنا كنا ضد القتل، ولكننا مع حق المقاومة المسلحة المشروعة، لذلك يجب أن نكون في
داخلها، ولا نبتعد عنها، ربما يبدو هذا الكلام رومانتيكيًا وبعيدًا عن الواقع
بالنسبة لكثيرين، لكن وفي كل حركات التحرر والمقاومة المسلحة في العالم، أخذ
الكتَّاب والمثقفون دورهم ومسوؤليتهم.
نعم نستطيع التواجد على الأرض، ومع الناس ومع هذه الكتائب، ليس من أجل موضوع
الطائفية فقط، ولكن من أجل الحوار معهم، التعلم منهم، ومشاركة الأفكار، وإمدادهم
بما يحتاجون. نستطيع أن نحمل أقلامنا إلى جانب أسلحتهم.
من يخاف من الجهاديين والقاعدة والسلفيين، لينزل ويرى بأم عينيه، بعد كل هذه
المجازر وكل هذا التصعيد الطائفي من قبل النظام، وليس من قبل الثوار، من هو الطائفي
والمجرم!
يستلزم الحال النزول بين المقاومة المسلحة، ليس لحمل السلاح، ولكن لتشكيل جزء من
رأي عام فيها، نوعي ومدني، من يعيش خارج سوريا يستطيع العودة، والدخول والخروج كما
يفعل الألاف من السوريين، والجنود المجهوليين في الثورة، أما من يعيش في الداخل
يستطيع أن يجد طريقه.
هل تكون هذه الدعوة مثلاً لدى البعض، هي دعوة للقتل؟ هل تكون دعوة لحمل السلاح؟ أم
التغلغل في نسيج الثورة الحيوي؟
أوردت هذا المثال فقط، لأنه يتقاطع مع حديث الوثيقة المشؤوم، كمنهجية ورؤية في
العمل الثوري، وللقول إن الثورة هي فعل حياة، وليست خطًا أفقيًا نظريًا، وهي قدرة
على اكتساب المزيد من الأفكار في ظل المآلات التي تتجه إليها الثورة، وفي الوقت
نفسه صنع المهارة للتعاطي مع المتغيرات السريعة التي نواجهها.