عن الوقت والمقبرة الانكليزية والحرب
يمتزج
صياح الديكة في الفجر بأصوات المؤذنين. ذلك زمن آخر. لقد انتقلنا إلى منطقة تهرب
فيها الروح من مرآتها. احبسني ولا تراني. ضعني في السطل ولا تطلقني مع الطائرة
الورقية. اتركني في إبريق الشاي ولا ترثني دخان سيجارتك. بغداد في علبة من الورق
السميك، ومن غير فيلتر. كنت أجلس في ظل الواسطي في انتظارها. نسخة جبسية من تمثال
اسماعيل فتاح الذي صار صديقي في ما بعد. بنظارة شبه شمسية ولحية وبنطلون شارلستون
وتي شيرت علامة التمساح. جون لينون بشيء من الارتباك المنزعج. كنا إثنين. أراه يمر
كما لو أنه صالح القره غلي. ويراني ألعب الشطرنج مع يوكو أونو، زوجته. قيل يومها إن
جون لينون عاد طالبًا في فرع السيراميك.
كانت المرأة الذهبية تأتي من الأعظمية. يسبقها فائق حسن بالفولسفاكن. لم يكن المعلم
يجيد السياقة. كانت امرأته الفرنسية تمسك بفرشاته. كنتُ حارس الفراشات. لقد قُدِّر
لي بسبب الحب أن أنهض من نومي فجرًا لأرى بغداد كما تركتها يد الخالق. كان إسرافيل
يوزع صيحته بين حناجر الديكة وكنتُ أمرُّ خفيفًا بين الصيحات.
كانت المقبرة الانكليزية قريبة. خلف التل الذي يمشي عليه القطار الذاهب إلى مستشفى
المجانين. رأيت أطفالاً يلوِّحون من نوافذ ذلك القطار. هل كانوا مجانين؟ رأيت عشبًا
أخضر يغطي اسماء الموتى. "لا يسمعون"، قلت لصديقتي بعدما رأيتها تشير إلى القبور
وهي تطلب مني أن أخفض صوتي. كنت أقرأ لها شعرًا من سعدي يوسف. كانت تتوسل بعينين
نبيلتين. فضحتنا. حتى لو سمعوا فإنهم إنكليز لا يفهمون العربية. تقول لي وهي تضحك:
"من يدري. الموتى يفهمون كل اللغات. حين يموت المرء يكون عالمًا باللغات".
كلُّهم أكراد. كانت صديقتي كردية. كلهم شيوعيون. كانت صديقتي شيوعية. "ابتسمي للحظ
الذي جعلهم جميعًا موتى"، قلت لها. ما الذي يمكن أن يقع لو انبعث الجميع أحياء؟
كانت بغداد يومها بعيدة. كنا في الآخرة، نجلس على العشب في حقل واسع تتخلله شواهد
القبور البيضاء خلف تلٍّ أخضر. شعرت صديقتي بالفزع. لم تكن الحرب يومها قد بدأت.
كنا نرعى الديكة في الصحون الصينية وبين خيوط نسيج السجاد الفارسي. ولم تكن البلاد
قد وقعت بين فكِّي التنِّين. الحرب لكم لأن السلم لم ينفع معكم. متى كان السلم؟ كنا
نهرب من النبأ ليس إلا. كانت الحرب في شمال الوطن تحصد الأرواح لتصنع منها سلَّمًا
نتسلقه إلى الجبل.
قلت
لها: "سنتسلق التلَّ ونرى القطار. سترين من هناك أن بلاد الجزائر كانت واسعة مثل
أفريقيا". ولكن أين تقع أفريقيا؟ كان الحبُّ أعمى. كنا نرى البلاد صغيرة مثل يرقة.
غزالة غزلوكي/ بالماي دعبلوكي. كنا قد نسينا القطار ونسينا المجانين ونسينا الموتى.
لقد حلَّ العصر. الوقت الذي تقدِّسه البلاد. حدَّثني نوري جعفر، وهو عالم اجتماع،
أنه كان يمر بالمقبرة الانكليزية يوم كان يدرس في كلية التربية وكان ينصت إلى أصوات
غريبة ويميز من بينها كلمات إنكليزية واضحة. "هل كان الموتى يتكلمون؟"، سألته.
فصمت. ربما لم يكن نوري جعفر قد روى لي تلك الحكاية، بل كنت أنا من روى الحكاية له
في انتظار أن يفسِّر لي ما كان يحدث. ما أنا على يقين منه، أن واحدًا منا قد روى
للآخر تلك الحكاية.
في
سوق الدجاج كنا نتحدث عن الحرب أيضًا. لن يجرؤ أحد على إعادة تأليف الحكاية.
الحكاية تعيد تأليف نفسها بنفسها. تفلت من إطارها التقليدي فتتشظى. ريشها يملأ
الوسائد وغبارها على كل كتف. كانت كتب مؤسسة فرانكلين تتكدس في العربات الخشب،
عربات الدفع التي تقف في الأمتار الأولى من شارع السعدون، قريبًا من "مكتبة
النهضة"، ليس بعيدًا من "مقهى المعقدين". ما إن تمد يدك حتى تعثر على كتاب يستحق
القراءة. غالبًا ما كنا نمشي ونحن نتأبط الكتب، كتابين على الأقل. الكتاب بمئة فلس.
الثقافة لنا، ولهم كل ما تبقى. ولكن مَن هم؟ الآخرون على الرصيف المقابل، في
البناية المجاورة، بين صوتين يمتزجان في نسيج الحكاية.
الموقف نفسه يمكن أن يعيشه المرء في "مقهى المعقدين". هناك حروب أخرى هي الأخرى
طاحنة في مختلف الجبهات. صورنا اليوم في المنافي تظهر عجزنا عن تركيز النظر في مرآة
واحدة. يمكننا دائمًا أن نرى بطريقة جانبية. نختلس النظر. لكن لن نجرؤ على النظر
المباشر إلى مرآة واحدة. أعبر الشارع من جهة "مطعم تاجران" لألتقي بشخص يشبهني، كان
واقفًا عند إحدى عربات بيع الكتب وهو يقلِّب كتابًا.
"هل
شبعت؟"، يسألني. "لم أكن جائعًا. كنت أتسلى"، أجيبه. يدفع مئة فلس الى البائع ثم
يمسك بيدي لنمشي معًا. نتأمل واجهات المحال. فجأة يوقفني أمام محل لبيع الساعات.
"أنت لا تحترم الوقت"، يقول لي. "ولكن هل يحتاج الوقت إلى أن أحترمه لكي يكون
موجودًا؟"، أجيبه مبتسمًا.
كان
أقوى مني. الشخص الذي يشبهني كان عنيدًا. وكان في الوقت نفسه رقيقًا. أتذكر الآن
ديفيد سميث، النحَّات الأميركي. وصفه نقاد الفن بأنه قوي مثل شاحنة ورقيق مثل ورقة.
شبيهي وُلد بعدي بدقائق. وكان ميتًا بحسب المعلومات العائلية. محي اسمه من السجلات.
غير أنه كان يسبقني إلى اتخاذ القرار الذي لا أجرؤ على التفكير فيه. وكنت أعزو
جرأته إلى أنه لن يخسر شيئًا. الميت لا يخسر شيئًا. ولكن ذلك ليس صحيحًا. لدى
الموتى ما يمتعهم. ما يجعلهم حرصاء على أن يكونوا دقيقين في مواعيدهم.
"ليس مقبولاً أن تتأخر كل هذا الوقت عن الموعد"، يقول لي وهو يربط ساعة على معصمي
بعدما دفع ثمنها إلى البائع. نصف ساعة مشي تكفي لخفض ضغط الدم. يضحك. ساعة تكفي
لهدم بلاد. يبكي. سيكون الزمن عدوًا. كان الوقت يمر بطيئًا. في ساحة النصر هناك سوق
للزهور. من وراء الزجاج كنت أراقب نباتات الظل وهي تتثاءب. ينزلق الوقت بطيئًا على
الأوراق. ما كان يمر ليس هو الوقت تمامًا. ذيل طاووس يجرُّ وراءه حشدًا من أقواس
قزح. بعد سنوات تعلمتُ كيف ينزلق الوقت على الثلج بقدمي جنِّية عاريتين. تسقط لمعة
الشمس ثم تتشظى على هيئة بلورات تنتقل مباشرة إلى جوف العين. من وراء الزجاج المبلل
كنت ألقي نظرات على الزهور والنباتات الظلية التي كانت تلك السوق تعجُّ بها. هل كان
الوقت يمر؟ فيما الحافلات الحمراء تمر. يمر الجنود بنعاسهم، البستانيون بفؤوسهم،
السكارى المطرودون من البارات القريبة، الآشوريون القادمون من أسواق البتاويين،
طالبات ثانوية العقيدة، باعة الفول السوداني، الراقصات الذاهبات الى ملهى
الـ"أوبيرج"، القضاة بعد حفنة أحكام، مصوِّرو حفلات الأعراس، السياسيون السريون وهم
يتلفتون. يمرُّ المريخ وعطارد والزهرة، يمرُّ الأمير الصغير متأنقًا بزهرته
الوحيدة، يمرُّ جقمجي والسعدون وخضر الياس وحسّو إخوان وحافظ القاضي وناظم باشا
وسيد سلطان علي، من غير أن يرمش لي جفن. تقع نظراتي ثابتة على ذلك الحقل الشاسع
الذي يؤوي صورًا مستلة من رسوم الانطباعيين. في المتحف الباريسي همستُ لزهور فنسنت:
"لقد التقينا من قبل في حديقة والدي". كان أبي مثل كل العراقيين يعشق زهرة عبَّاد
الشمس، وهي الزهرة الوحيدة التي لا تؤويها محال بيع الزهور. ألأنها زهرة مرئية أكثر
مما يجب؟ هي زهرة منذورة للشمس وللمس العابث. لإيقاع النظرة المباشرة الذي يلهم
النسيان. تراها لتذهب معك. تلتفت إليك فأنت شمسها الوحيدة. زهرة عبَّاد الشمس هي
الزهرة الوحيدة التي ترى بعينين متفائلتين. كنت أقف مسحورًا أمام تلك السوق، وحين
أمدُّ يدي إلى معصمي لا أعثر على ساعتي. لقد استردها شبيهي يائسًا، بعدما أدرك أن
الوقت يمر بي بطريقة مختلفة. ولأني لا أستطيع استعادتها من رجل ميت، فقد صرت أتحسس
مكانها على معصمي متذكرًا أن الوقت لم يمر.
"أيها السيد سقطت ساعتك"، سمعتُ صوت المرأة وأنا أمشي في الشارع الرئيسي بمدينتي
البعيدة آلاف الكيلومترات عن بغداد. كانت المرأة تحمل ساعة تشبه تلك التي اشتراها
لي شبيهي في شارع السعدون، قبل ثلاثين سنة. ضحكتُ للسيدة التي كانت تمدُّ لي يدها
وهي تضحك. "لن تكوني إلا وهمًا". لم أقلها لتلك الجنية التي اختفت مثلما انبعثت
بخفة خطوتين. واحدة ذاهبة إلى المنفى وأخرى عائدة إلى الوطن. كيف يمكنني أن أقيس
سرعة الزمن؟ في سوق الدجاج كنا نتحدث عن الحرب باعتبارها الأبدية التي يرسم لها بوق
إسرافيل خط النهاية. أغلقنا على الزمن فلِّينة القنينة الفارغة وألقينا القنينة في
البحر. وحين جلستُ في مقهى الحافة بطنجة، رأيتُ تلك القنينة مرمية على الشاطئ
الاسباني.
"هناك قوارب صغيرة يمكنها أن تقلَّك إلى الجانب الإسباني من البحر"، قال لي عبد
العزيز. ذكَّرني صديقي المغربي بتلك المرأة التي أعادت لي ساعتي. صار عليَّ إذًا أن
أستعيد تلك القنينة التي تخلصت منها يوم كانت الدجاجتان تتشاجران. حروب صغيرة
يحملها المرء تحت ثيابه من غير قافية. يتركها مثل كتاب على سرير النوم في قطار ليلي
ويهبط من ذلك القطار في قرية لا يعرف حتى اسمها. ستصلك صيحات الديكة وهي تمتزج
بأصوات المؤذنين في فجر تقترحه عليك زهرة عبَّاد الشمس وهي تقف وحيدة في اللوحة.