حوار
مع دكتور عبدالله النعيم: العلمانية لا تعني إقصاء الدين ومن المستحيل
تكرار دولة النبي - لا توجد صيغة نموذجية لتنظيم الحياة العامة الدكتور عبدالله أحمد النعيم مفكر
وناشط حقوقي سوداني يعمل حالياً أستاذا للقانون في كلية الحقوق بجامعة
إموري بالولايات المتحدة الأمريكية، وله العديد من المؤلفات باللغتين
العربية والإنجليزية. وكانت حصيلة مشروعه البحثي عن علاقة الدين بالدولة
والسياسة محل جدل وحوار في العديد من الأوساط الأكاديمية المعنية، وقد تضمن
كتابه الذي صدر عن دار ميريت بالقاهرة تحت عنوان «الإسلام وعلمانية
الدولة» خلاصات هذا المشروع، كما ترجمت أيضا أعمال المشروع بسبع لغات منها
الإنجليزية والفرنسية والتركية والفارسية، وكان للدستور هذا الحوار عبر
البريد الإلكتروني مع الدكتور عبدالله النعيم
> ماذا تقصدون بـ «علمانية الدولة»؟
- إن أطروحتي الأساسية في الكتاب تتمثل
في ضرورة الفصل بين الدين والدولة، مع التسليم بالعلاقة العضوية واللازمة
بين الدين والسياسة. وأري أن للشريعة الإسلامية مستقبلا جوهريا فيما يخص
المجتمعات الإسلامية ولكن ليس عبر تطبيق أحكامها كشريعة من خلال القانون
والسياسة العامة التي تتطلب التسبيب والتأسيس الموضوعي الذي يمكن قبوله عند
جميع المواطنين وعلي تفاوت معتقداتهم الدينية والفلسفية. إذ يجب أن يكون
أساس جميع أعمال الدولة المواطنة الكاملة بلا أدني تمييز علي أساس الدين أو
الجنس أو العنصر أو غير ذلك من الأسباب.
ولقد استخدمت مصطلح «علمانية
الدولة» لتمييز ما أدعو إليه عن العلمانية كفلسفة عامة للحياة من غير
اعتبار للمرجعية الدينية. ونظرا للفهم الشائع لدي المسلمين عامة والذي يربط
بين العلمانية والعداء للدين أو علي الأقل يربط بينها وبين إقصاء الدين عن
الحياة العامة للمجتمع، ولتفادي هذا التعميم الضار فقد ألحقت صفة
العلمانية بالدولة وليس بالمجتمع، هو ما يتسق تماما مع ما أدعو إليه، من
فصل الإسلام عن الدولة وليس فصله عن السياسة والتشريع والحياة العامة بشكل
كلي. كما أنني استخدم مصطلح علمانية الدولة لأميز ما أدعو إليه عن دعوة بعض
الجماعات الإسلامية للدولة المدنية وهم يقصدون بذلك فهمهم للدولة
الإسلامية التي تكتسب صفة «المدنية» من أن القائمين عليها ليسوا من رجال
الدين.
> تستند علمانية الدولة كما أشرتم علي
التمييز بين الدولة والحكومة من ناحية والتمييز ما بين الدولة والسياسية
من ناحية أخري؛ لماذا ينبغي إجراء هذا التمييز وكيف؟
- لقد كشفت العديد من التجارب عن الحاجة
الماسة للتمييز بين الدولة والحكومة بحيث لا تصبح الدولة أداة طيعة للحزب
أو المجموعة التي بيدها السلطة، ففي العديد من الأنظمة الشمولية والسلطوية
صار القضاء وأجهزة الأمن والسلك الإداري والدبلوماسي وغيرها من مؤسسات
الدولة أدوات لإرادة الطغمة الحاكمة. وفي تلك الظروف أصبح المواطنون بين
شقي رحي، أحدهما الحزب والآخر الدولة، دون أمل في خلاص من قهر الحكومة باسم
الدولة، ولا إمكانية لمعارضة سياسية خارج نطاق سلطاتها. فأنا أميز بين
مؤسسات الدولة مثل القضاء وأجهزة الأمن والعلاقات الخارجية، وهي مواقع
استمرارية سيادة الشعب، والحكومة القائمة في أي وقت كنتيجة للصراعات
السياسية المحدودة. إن الفشل في التمييز بين الدولة والسياسة يؤدي إلي
تقويض دعائم السلام والاستقرار والسياسي والتنمية للمجتمع بأسره.
فالمواطنون الذين يحرمون من معونة الدولة وحمايتها أو من المشاركة السياسية
الفعالة يلجأوا إلي الانسحاب أو التقوقع أو العنف، وهو ما فيه ضياع لحقوق
المواطنين وإضرار بمصالح المجتمع ككل.
ولهذا يجب العمل علي تأمين المجال
العام بحيث يكون متاحا أمام مختلف القوي والمجموعات التنافس بصورة حرة
وعادلة من أجل التأثير علي سياسات الدولة، ولكن بأسلوب لا يهدد
استقلاليتها، وعلي نحو يضمن المشاركة الحرة والعادلة من جانب جميع فئات
المواطنين. وحتي يتحقق ذلك ينبغي أن تستند القوانين والسياسات علي ما أسميه
«المنطق المدني» أي وجوب ارتكاز التشريع أو السياسة العامة علي المنطق
المشاع، الذي يمكن لكل مواطن أن يقبله أو يرفضه بحرية، أو يقدم البديل من
المقترحات، من خلال الحوار العام.
إن الدولة تمثل نسيجا متشابكا من
السلطات والمؤسسات التي يتم من خلالها حفظ الأمن العام والقضاء وتوفير
الخدمات في مجالات مثل الصحة والتعليم والقيام بتحصيل الضرائب وضبط الإنفاق
العام. وبحكم طبيعة مهامها ينبغي أن تمثل الدولة الجانب الأكثر استقرارا
وترويا في عمليات الحكم، فيما تكون الحكومة القائمة نتاجاً للتنافس السياسي
اليومي علي تحديد وتطبيق السياسات العامة. ويجب البحث عن كيفية التمييز
بين الدولة والحكومة، بدلا من تجاهل مخاطر الخلط بينهما كأنما يمكن أن تحل
المسألة من تلقاء نفسها. وهذا التمييز الضروري بين الدولة والحكومة، وعلي
الرغم من صعوبته، يمكن معالجته من خلال مبادئ وآليات الحكم الدستوري،
وحماية حقوق الإنسان وعدم التمييز بين جميع المواطنين.
إلا أنه يجب
الوعي بأهمية دور المواطنين وواجباتهم، فنجاح المؤسسات والمبادئ مرهون
بالمشاركة الشاملة، والفعالة، من جانب مختلف فئات المواطنين، ويلزم لتحقق
تلك المشاركة الشاملة والفاعلة توافر القناعة لدي مختلف فئات المواطنين بأن
المؤسسات والمبادئ توافق معتقداتهم الدينية وقيمهم الثقافية. كذلك وحتي
تتحقق مبادئ السيادة الشعبية، والحكم الديمقراطي، يجب علي المواطنين
المشاركة في كل جوانب الحكم والحياة العامة، حيت يمكنهم إخضاع الحكومة
للمحاسبة، والاستجابة لمطالبهم. وهذا القدر من الحرص والعزم لا يكون في
غياب المشروعية الدينية والثقافية لمبادئ وآليات الحكم الدستوري، وحماية
حقوق الإنسان لدي عامة المواطنين. ولا يعني هذا القول إجازة أو إقرار بالحق
في انتهاك المبادئ الدستورية وحقوق الإنسان باسم احترام الدين أو الثقافة.
وإنما يعني التوعية بقيمة هذه المبادئ والحقوق وتوافقها مع القيم الدينية
والثقافية لمجتمعاتنا.
> وماذا عن القول بأن العلمانية تتناقض مع الإسلام؟
- لقد جري استخدام مصطلح العلمانية بمعان
مختلفة ومتناقضة، مما يجب معه أن نحدد دائما ماذا نقصد بالعلمانية. وكما
أشرت فإن ما أدعوه إليه هو علمانية الدولة وليس علمانية المجتمع. ولا يوجد
شيء «غير إسلامي» فيما يتعلق بمفهوم علمانية الدولة كإطار ضروري لمفاوضة
الدور الطبيعي والشرعي للإسلام في الحياة العامة. والقرآن يخاطب المسلمين
كأفراد وكمجتمع، دون حتي ذكر فكرة الدولة، ومن دون وصف شكل معين لها. ومن
الواضح أيضا أن القرآن لا يقدم وصفة محددة لشكل الحكومة. وأيا كان شكل
الدولة الذي يأخذ به المسلمون فسيكون مفهوما بشريا بالضرورية، والذي بدوره
سيكون علمانيا (أي قائماً علي الفهم والتجربة البشرية) بصورة موروثة، وليس
إسلاميا. نفس المقولة صحيحة في حق نظام الحكومة الذي سيحكم عبر مؤسسات
الدولة.
السؤال بالنسبة لمستقبل الشريعة هو كيف يمكن ابتداع دولة ونظام
حكم، علمانيين بالميراث، ويمكنهما خدمة أغراض الشريعة للمسلمين كأفراد
وكجماعات بأفضل صورة. أكثر من ذلك، بما أن علي المسلمين دوما أن يتعايشوا
ويتعاونوا مع المجتمعات الأخري، علي النطاقات المحلية والوطنية والإقليمية
والعالمية، فإن غير المسلمين معنيون، بالقدر نفسه، بالدول والحكومات التي
سيعيشون فيها مع المسلمين والمؤسسات والعلاقات الدولية بين أصحاب مختلف
الأديان والمعتقدات. وبالتأكيد أن الاعتماد المتبادل والتعاون بين
المجتمعات الإنسانية المختلفة أمر مدعوم بوضوح بالنص القرآني («يا أيها
الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثي وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم
عند الله أتقاكم» سورة الحجرات، الآية 13).
إنني أدعو إلي الدولة
المدنية أو علمانية الدولة من أجل تمكين التدين الصادق في المجتمع، فأنا
كمسلم بحاجة لعلمانية الدولة من أجل أن أعيش وفقا لتعاليم الشريعة كالتزام
شخصي واختيار حر، فرديا وفي المجتمع، فتلك هي الطريقة الوحيدة الصالحة
والشرعية لأن أكون مسلما بحق. وقد بينت في الكتاب أن علمانية الدولة هي
الأكثر اتساقا مع تواريخ المجتمعات الإسلامية من شعار «الدولة الإسلامية»
والذي ظهر حديثا بعد الحقبة الاستعمارية، ولا أعني بذلك أن هذه المجتمعات
قد مارست علمانية الدولة بالمعني الكامل الذي أدعو إليه بسبب الاختلاف بين
النموذج التقليدي البسيط للدولة، في تلك الأزمان، وبين نموذج الدولة الحالي
الذي يتسم بالمركزية، والتراتبية والبيروقراطية والسلطات الواسعة
المتداخلة مع جميع جوانب الحياة اليوم.
وآمل أن يساهم توضيح أن مفهوم
علمانية الدولة هو في الحقيقة فهم «إسلامي» في الخلاص من انطباع معظم
المسلمين اليوم بأن هذا المفهوم تأطير غربي يعمد إلي حصر الممارسة الدينية
في المجال الفردي الخاص فقط. فإذا ما نظرنا إلي التاريخ الإسلامي من زاوية
مدي القرب أو البعد بين الدولة والمؤسسات الدينية التي عاصرتها أو أنجبتها
فسوف نجد أن دولة النبي عليه ـ الصلاة والسلام ـ في المدينة هي فقط التي
تحقق فيها نموذج التمازج/التلاحم التام. ذلك النموذج لا يتحقق دينياً إلا
للنبي ـ عليه الصلاة والسلام ـ لأنه هو التجسيد الكامل لقيم الإسلام وهو
خاتم الأنبياء بصريح نص القرآن الكريم.
فيما كانت التفرقة بين السلطتين
الدينية والسياسية هي النموذج السائد من الناحية العملية في باقي فترات
التاريخ الإسلامي. وقد عرضت لذلك من خلال عدد من الأمثلة في التاريخ
الإسلامي كحقبتي الفاطميين والمماليك في مصر، وأوضحت الاستحالة العملية
للمزج بين الإسلام والدولة، هي استحالة تؤكدها أيضا التجارب التي ادعت
تأسيس دولة إسلامية في العصر الحديث، علي سبيل المثال: في السودان أو إيران
أو السعودية. فمن المنظور الإسلامي هناك استحالة لتحقيق نموذج
التمازج/التلاحم التام بين السلطتين الدينية والسياسية، فذلك كان مستحيلا
بعد وفاة النبي ـ صلي الله عليه وسلم ـ وسيظل مستحيلا بختم النبوة. لذلك
علينا العمل علي تنظيم واستيعاب نموذج أكثر عملية للتفرقة.
> إذن في رأيكم ما الصيغة الأمثل لتنظيم علاقة الدين بالدولة والحياة العامة وكيف يمكن الوصول إليها؟
- في تقديري إنه لا يوجد صيغة جاهزة أو
نموذجية لتنظيم علاقة الدين بالدولة والحياة العامة لجميع المجتمعات
البشرية لأن النموذج الصالح لكل مجتمع إنما يقوم علي سياقه التاريخي وواقعه
الاجتماعي والاقتصادي والسياسي. فضرورة الفصل بين الدين والدولة مع حقيقة
الارتباط وجدلية الفصل والوصل بين الدين والدولة هي معضلة يمكن معالجتها في
الممارسة العملية علي مدي الزمن، ولا يمكن حلها بصورة قاطعة من خلال
التحليل النظري. ومن ثم فالجهد ينبغي أن يوجه لبحث كيفية توفير الظروف
المواتية لهذا التفاوض والمعالجة، بدلاً من الأمل في انتظار الوصول لحل
لهذه المعضلة بصورة نهائية عبر تصور ما يقدمه البعض علي أنه نموذجي.
ويمكن
بيان طرفي هذه المعادلة فيما يلي. أولا: علي الدولة ألا تفرض أحكام
الشريعة الإسلامية من خلال سلطتها الجبرية أو تحاول فرض فهم الحكام لأحكام
الشريعة علي عامة المواطنين المسلمين. ثانياً: يجب أن تبقي أحكام الشريعة
كأحد المصادر للسياسة العامة والتشريع، وذلك وفق مقتضيات الحكم الدستوري
وحقوق الإنسان لجميع المواطنين بلا تمييز علي أساس الدين أو الجنس أو غير
ذلك من الأسباب. وبعبارة أخري، لا يجوز فرض أحكام الشريعة من خلال إدارة
الدولة الجبرية كما لا يجوز استبعاد هذه الأحكام كمصدر للسياسة العامة
والتشريع. فعقيدة المسلم في إلزامية أحكام الشريعة تبقي قائمة دائما في حق
المسلم بموجب عقيدته الدينية للممارسة علي المستوي الفردي والجماعي الطوعي
بين المسلمين. إلا أن هذه العقيدة لا تكفي كأساس للتطبيق الجبري بواسطة
أجهزة الدولة لأن ذلك ينتهك حقوق المسلمين الذين يختلفون مع فهم الحكام
للشريعة وغيرهم من المواطنين من أصحاب الديانات والمعتقدات الأخري.
فتنظيم
العلاقة بين الدين والدولة والسياسة في أي مكان، هو دوما ذو أبعاد تاريخية
وسياقية عميقة، وليس هناك نموذج محدد. فعلي سبيل المثال فيما يخص كل واحد
من النظم الغربية، المقبولة بصورة شائعة اليوم كنظم علمانية، نجد أنه قد
طور تعريفه السياقي الخاص والعميق عن طريق تجربته التاريخية الخاصة. فتحليل
التجارب الأمريكية والبريطانية والإيطالية والفرنسية والسويدية
والإسبانية، أو أي تجربة غربية أوروبية أخري، يكشف عن أنها متميزة ومتعينة
بتاريخ وسياق تلك الدولة. مهما كانت المظاهر المشتركة التي يمكن ملاحظتها
بين هذه النظم فإنها نتيجة مقارنة تحليلية في صورة إدراك متأخر، وليست
نتيجة تناسق بين نماذج مرسومة مسبقا وتم تطبيقها عمدا لتصل إلي نتائج معينة
مسبقا. كما أن معني وتطبيقات مفهوم علمانية الدولة في أي واحدة من تلك
التجارب محل نزاع واحتمالات متعددة عبر الزمن، وأحيانا في المناطق المختلفة
في البلد نفسه. كما هو الشأن في القضايا المثيرة للجدل حتي اليوم مثل
الصلاة في المدارس أو إظهار الشعارات الدينية في المؤسسات العامة في
الولايات المتحدة، والتعليم الديني والرموز الدينية في فرنسا وألمانيا
وبلجيكا. فعلمانية الدولة تحتمل مدلولات مختلفة باختلاف المجتمعات، وأحيانا
باختلاف المناطق المتعددة التي تنتمي للمجتمع نفسه، عبر الزمن. ولا يعني
ذلك بالطبع عدم إمكانية التعرف علي بعض المبادئ الضوابط العامة المتصلة
بمفهوم علمانية الدولة، شريطة أن يكون ذلك من النظر المقارن للتجارب
الفعلية، وليس بغرض تصور نظري مسبق.
> ما أهم الضوابط والمبادئ المتصلة بعلمانية الدولة فيما يتعلق بمجتمعاتنا؟
- إن كفالة الحكم الدستوري ودعم وحماية
المنطق المدني يعدا من المسائل التي ينبغي التركيز عليها في أوضاعنا
الراهنة. وبداية يجب التنويه علي أن الحكم الدستوري ليس مجرد وضع لوثيقة
نطلق عليها دستور بل؛ بل إن العديد من الدساتير القائمة في بلادنا هي من
منظور ضمانات ومعايير الحكم الدستوري لا تستحق أن يطلق عليها لفظ دستور
سواء بالنظر إلي الطريقة التي وضعت بها أو لانتهاكها لضمانات ومعايير الحكم
الدستوري، هذا بخلاف أن بعضها علي الرغم من قصوره لا يحظي حتي بالاحترام
في التطبيق أو يتم تفريغه من مضمونه بالتحايل عليه بوسائل مختلفة. بينما
إعمال ضمانات ومعايير الحكم الدستوري يكفل علي سبيل المثال وضع حدود لسلطة
الحكومة بما يتوافق مع الحقوق الأساسية للمواطنين والفئات المجتمعية، وكذلك
صفة التمثيل الشامل للشعب من خلال انتخاب الحكومة والشفافية والمحاسبة
والفصل بين السلطات، التشريعية والتنفيذية والقضائية، واستقلال القضاء،
وحكم القانون لضمان تنظيم العلاقة بين الأفراد والدولة بواسطة مبادئ
قانونية واضحة للتطبيق العام، بدل الإرادة المستبدة للمجموعة الحاكمة.
وينبغي
أن يعي المنادين بتطبيق الشريعة الإسلامية بأنهم بحاجة إلي ضمانات الحكم
الدستوري حتي يتمكنوا من الدعوة لوجهة نظرهم. وأنه إذا لم يكن هناك فصل ما
بين الدين والدولة فإنهم سيخسرون عندما يطبق الحكام فهماً للشريعة يختلف
عما يدعو إليه هؤلاء الدعاة. ونري اليوم صورة من ذلك في السودان والسعودية
وإيران حيث يتناحر دعاة تطبيق الشريعة الإسلامية فيما بينهم.
هذا كما
ينبغي العمل علي تدعيم المنطق المدني، كما سبق القول، بحيث يتم الاعتماد في
اقتراح التشريعات أو السياسات العامة علي المنطق المشاع، الذي يمكن لكل
مواطن أن يقبله أو يرفضه، أو تقديم البديل من المقترحات، من خلال الحوار
العام، دون الاعتماد علي دينه أو مزاعم تقواه. ففيما يحق لأي مواطن، مسلم
أو غير مسلم، أن يقترح أو يدعم التشريعات أو السياسات التي تتوافق مع
عقيدته الدينية غير أنه يجب أن يدعم ذلك انطلاقا من منطق السياسة أو
التشريع المقترح بحيث تبقي عملية الحوار العام حوله علنية ومتاحة لكل
المواطنين بغض النظر عن قائدهم أو رؤاهم الدينية.
جوهر المنطق المدني هو
أن تميز الأفكار لا يمكن عزله عن منطقها، وأن منطقها ذلك يجب أن يكون
مؤطرا بشروط مقبولة ومتاحة للجميع. والمنطق المدني يتطلب أولا الاعتراف بأن
الوسائل مهمة كالغايات. لكن عندما يتم طرح أحكام الشريعة استنادا إلي أنها
ببساطة تمثل ما يعتقده البعض أنه إرادة وأمر الله فإن جميع الآراء الأخري
يتم إسكاتها بفعالية.
ولا بد أن يكون مجال المنطق المدني محميا من قبل
الدولة، بحيث تحول بنية الدولة دون أن تقوم أي حكومة أو نظام حكم أن يغير
مجراه، أو أن تتحكم فيه أي مجموعة اجتماعية أو سياسية معينة، وأن يكون هذا
المجال للمنطق المدني مقبولاً من جميع المواطنين، من جميع فئات وطوائف
المجتمع، مما يجعله مرتبطاً بالدولة ذاتها، وليس بحكومة معينة. كما يجب
أيضا ألا تسعي الدولة إلي التأثير في مسار المنطق المدني، علي سبيل المثال
عن طريق تضييق نطاق المشاركين في الحوار العام عبر وسائل التمييز ضد بعض
المجموعات الدينية أو الفئات المجتمعية أو الأقليات. بل علي العكس، يجب أن
تعمل الدولة علي إتاحة الفرصة وتسهيل قيام أكبر عدد من المواطنين، كأفراد
وجماعات، بالمشاركة في قضايا الحوار المعنية بالسياسة العامة عبر أدوات
المنطق المدني. وبالطبع فإن الأمر لن يكون سهلا، إذ إن الحكومات التي تتصرف
باسم الدولة ستحاول غالبا التحكم في هذه القنوات لخدمة مصالحها.
نشر الحوال أولاً في جدريدة الدستور يوم الأحد الموافق 10 يوليو 2010. أجراه علاء قاعود. أنظر
dostor.org/politics/middle-east/10/july/10/21909