ان هدف التحول الديمقراطي إقامة الدولة المدنية وتحقيق العدالة
الاجتماعية والتأسيس لبناء المواطن والمواطنة الحقة من خلال المؤسسات
الديمقراطية، وان النظرية الديمقراطية تتعارض وتتقاطع مع كل مظهر من مظاهر
الفكر والممارسة الاستبدادية ايا كان شكلهما.
ان صناعة الاستبداد في العراق ليس بالشيء الحديث، وإنه يمتد في عمق التاريخ وبأشكال مختلفة.
ان النبض الذي جاء الى رأس السلطة عبر الصناديق الانتخابية، والتي هي
إحدى آليات الديمقراطية –غير مؤمن وليس لديهم قناعة بالمبادئ العليا
للديمقراطية، والتي تقوم على احترام الآخر المختلف ،واحترام ارادة الفكر
والرأي ،والايمان بأن الاختلافات الفكرية والسياسية والمذهبية هي تنوع وليس
تضادات واحترام التنوع الديني والسياسي والاثني، الا ان بعض ما يظهر في
المشهد السياسي والاجتماعي هو انتساب الى حقب الاستبداد، كون ان في مناسبة
وأخرى تظهر الاصوات الاستبدادية والنشاز والتي لا تلائم التصور الديمقراطي،
أن هؤلاء مستبدون تحت عباءة الديمقراطية.
ان العقل المزدوج لهذه الشخصيات يناقض أبسط مبادئ الديمقراطية، فهم يتحدثون
عن الديمقراطية وآلياتها والحريات المدنية وصيانتها، وفي ذات الوقت يتم
انتهاك الحريات بشتى صورها، ويعد المختلف فكرياً وسياسياً أعداء لهم، وهنا
اتساءل، واين هي الديمقراطية في عراق ما بعد الحقبة البعثية الصدامية؟
ان الاستبداد السياسي يعني، الانفراد بالسلطة السياسية والسيطرة عليها
ومحاولة توظيفها لمصلحة حزب او فرد لأجل تحقيق مصالح فردية او حزبية، ويعرف
الاستبداد السياسي ايضاً وان "التغلب والانفراد بالسلطة السياسية والسيطرة
الكلية والشاملة على مؤسسات الدولة" وينتج عنه غياب التعددية السياسية
والفكرية والانتهاكات المستمرة للقانون والدستور، واستخدام اساليب القهر،
وممارسة القمع واللجوء الى سياسة التحريم، والمنع عبر قنوات سياسية ودينية،
مما يؤدي بالتالي الى انهيارات نفسية واجتماعية، وتخلف اقتصادي وشلل ثقافي
وفكري ومعرفي ونتيجة السيطرة الشمولية على الحياة السياسية والاجتماعية
والثقافية يساعد على خلق وانتاج علاقة غير طبيعية بين الدولة والمواطن لكون
ان الدولة الاستبدادية تعمل على الغاء الذات ومصادرة الحريات مما يؤدي ذلك
الى اغتراب اجتماعي ونفسي، كما تنعكس الآثار الاستبدادية على تخلف المجتمع
اقتصادياً واجتماعياً وفي عوامل الإثارة السياسية ويتبدى ذلك في عرقلة
التنمية والنتائج المدمرة على بنية التعليم والصحة والثقافة.
ان الاستبداد السياسي يتمدد وينمو عندما تتهيأ فرصة النمو ، لاسيما عندما
ينشغل المواطن بالهم الاجتماعي والاقتصادي، وان تمدده يعني انتاج الفكر
الرجعي والسياسة الشمولية ،والحزب الواحد، والقائدالاوحد، وان فرصة نموه
وتمدده هو في ايجاد بنية اجتماعية متخلفة، كون ان الاستبداد يستعيد عافيته
بمدى سعة وانتشار حجم التخلف الاجتماعي والاقتصادي والثقافي.
ان عملية المنع والتحريم تتمظهر باشكال متعددة وبمناسبات مختلفة، فعدم
السماح بالتظاهر ومخالفة الدستور وثلم الحريات المدنية وبصورة مستمرة ،
والاعتداء على الصحافة ووسائل الاعلام بداية لتشكل النموذج الاستبدادي في
ظل الديمقراطية، ظهور الاجهزة الامنية المدججة بالاسلحة والمعدات هو شكل من
اشكال الترهيب والتخويف ومنع نشر واعادة طبع الكتب التي لاتنسجم مع
تصوراتهم العقائدية هو شكل من اشكال ثقافة الاستبداد التمويل المالي الكبير
لتجديد الروح العسكرية ،لاسيما المجهزة لاستخدامها ضد القوى الديمقراطية
وبالمقابل الاهمال الشديد والمقصود لمؤسسات الثقافى والتعليم والصحة يعد
مظهراً من مظاهر الاستبداد.
ان صناعة الاستبداد –كما قنا- ليس بالشيء الجديد، انه موروث تاريخي
واجتماعي على مستوى الشرق، واعتقد انه من الصعب على بعض القوى تقبل فكرة
الديمقراطية وممارسة الحرية، فمثلا فرض الحجاب على الطالبات في المدارس
والجامعات الى حد ما، واضطهاد الشباب تحت تبريرات وحجج واهية وغير منطقية،
هو صورة من صور الاستبداد، واصدار فتاوى ورؤى ما أنزل الله بها من سلطان،
واعتماد المذهبية والطائفية والأثنية في الفكر والتعليم والثقافة والمعرفة.
ان منع وتحريم الفن والابداع وتحجيم دور الثقافة والمثقف وابعادهما في
الاسهام في البناء الاجتماعي والمعرفي، وتحريم المهرجانات الثقافية والفنية
بحجة مخالفة الشرع والدين، يعد تاييداً للثقافة الرجعية ،وهي مهمة
الاستبداد والهيمنة الشمولية.
ان الثقافة والفن والابداع بوجه عام ممثل ضمير الشعب ووجهه الحضاري وسمته
التاريخية، انه المنتج للفكر والمعرفة وتحديث العقل البشري، وان ابعاد
المثقفين وتحجيم دورهم المعرفي والانساني ومنح المناصب الاساسية لبعض
الافراد، وبصرف النظر عن الاختصاص والثقافة والمعرفة تعد صيغة من صيغ
الاستبداد والهيمنة.
ان تقويض الاستبداد وعدم السماح لنموه والعمل على تفكيكه وقطع الطريق عليه
مهمة وطنية وديمقراطية، ونحن في بداية الطريق صوب الديمقراطية، يتم عبر
تعبئة القوى الديمقراطية واليسارية والليبرالية في تجمع واسع لمواجهة
الهيمنة، وفي بناء منظمات المجتمع المدني الفاعلة والرصينة واعتماد ونشر
الثقافة المجتمعية الديمقراطية والمواجهة الفكرية الثقافية لكل اشكال
التمييز بانواعه المختلفة.