"ملكة طبيعية مثل العقل لا تنتقد بل إن
دعا الأمر تفحص، تعرف، ترسم حدودها بالإشارة إلى الإفراط والتفريط في
إستعمالها. نحن ننتقد الفنون والعلوم، بما هي كذلك وبحسب منتجاتها لأنها من
إبداعات الإنسان: لا ننقد الملكات الطبيعية".


هردر، تلميذ كانط.
__________________
"أصبحت لا أقيم للتاريخ
وزناً ولا أحسب له حساباً لأني رأيته بيت الكذب ومناخ الضلال ومتشجم أهواء
الناس، إذا نظرت فيه كنت كأني منه في كثبان من رمال الأباطيل قد تغلغلت في
ذرات ضئيلة من شذور الحقيقة".

(معروف الرصافي)

طالما كانت مزعجة لي فكرة إيمانويل كانط وطلاسمه عن العقل ومحدوديته. شيء
ما بداخل ظلمات تلك النظرية يجعل منطقي يهتز ويرجف ولا يرتاح لها. وما
يزعجني أكثر هو الإتباع الأعمى لنظريته من قبل البعض من غير تمحيص ومن غير
وضع أفكاره تحت التحليل ومن دون غربلتها. وتجد من يطبل بأفكاره التي نقد
بها عقله الذي يفكر به. يالسخرية! طلاسم كتبها وبناء سحري شيده وألفاظ
فارغة لو نفخت فيها لتفرقعت. ملح أجاج وقشر من دون محتوى.

يقول كانط أننا لا نعي الحقيقة كما هي، وأن حواسنا وعقولنا توفر لنا صورة
مشوهة عن الحقيقة ولا توفر لنا الحقيقة نفسها. ويبتع قائلاً: كل الأجسام في
أي تجربة ممكنة بالنسبة لنا ، ليست سوى مظهر، وهذا يعني، مجرد تمثيل،
والتي... ليس لها وجود مستقل خارج أفكارنا!.

هذا جنون محض وخالص ومجرد. هو لا يعترف إلا بالمظاهر أو Transcendental Idealism.

هذا يعني أن جراح القلب عندما يجري جراحة الشريان التاجي الإلتفافية فإنه
لن يستطيع إجراءها بنجاح لأن حواسه لا تعرض له الحقيقة. كما تعني أن معرفة
الطيار بطائرته وموقعها في الجو وبأجهزة تحكمها لا تتوافق مع الحقيقة، مما
يعني أنه لن ينجح في الإقلاع بها ومن ثم الهبوط بها بنجاح. طبعاً كل هذا
غير صحيح وهذا يدل على أن حواسنا وتجاربنا وملاحظتنا كلها توفر لنا إدراك
مباشر للحقيقة وأنها ليست فقط قفزة إيمانية Leap of faith كما يقال.

نعم أعترف، الإدراك الساذج Naïve realism نظرية خاطئة. مذاق البرتقالة ليس
أمراً مستقلاً عن الإنسان بل هو أمر يحدده حاسة الذوق لدى الإنسان. ولكن
هذا لا يعني بأن البرتقالة لا تحتوي على الفيتامينات وأن شكلها غير دائري.

المسألة التي عجزت عن حلها فيما يخص تحليل كانط هو إعتماده على العقل
والبرهنة والإستنتاج في إثبات محدودية العقل. ولكن هذه هي الآلية بعينها
التي يحاول إثبات محدوديتها في نفس الوقت!! فكيف إذن كيف يثق بها في الوصول
إلى نتائجه التي وصل إليها؟ وكيف يستقيم أن أنفي الأداة التي عن طريقها
وصلت إلى نتائجي؟ كيف يكون الحاكم هو المحكوم!؟.

أما العقدة التي لا يقوى أحد على حلها في نظريته هي: كيف يعلم كانط أن
العقل محدود؟ كيف يعلم أننا نرى الأشياء بشكل محدود ومشوه؟ كيف يعلم أن
عقولنا مبنية بشكل ينزع للوهم كما يقول؟ بأي منهج يعرف هذه الأشياء؟ هل
بالخبرة أم بالمنطق؟ كلاهما محدود بالنسبة إليه وغير موصل للحقيقة.

كانظ يعتقد بأن الطريقة الوحيدة لإدراك الحقيقة هي عن طريق مباشر يتم من
دون الحواس. يعني السحر ولا شيء غيره. إذا كان يريد أن يثبت محدودية العقل
فعليه الإعتماد على وسيلة أخرى غير ما يريد نفيه وإثبات محدوديته. الأمر
الذي لا أرى له سبيلا.

العقل إلهى، في أحيان أحتقره، وفي أحيان أبجله، ولكني لا أنفيه.

ديقي الثائر المتمرِّد

ما عناهُ كانط - في تقديري - أبعد من ذلك وأسمى ، إنه يُريد أن يبرهنَ لك
بأن العقلَ له مجال اشتغال محدود لا يمتلك إمكانَ تجاوزه ، هذا لا يعني أن
مجاله ضائقٌ بالضرورة إذ قد يكون رحباً ولكن حتى مع هذه الرحابة المفرطة
ثمة تخوم حاجزة يعجزُ عندها العقلُ ، إذ الأصلُ أن الوجود طوْقٌ من
المجهولية المطلقة ومهما نشط العقلُ واشتغلُ في سبيل القبض على ما يشبه
الحقيقة أو المعنى الشمولي سوف يقصرُ عن إدراكها إما لعجز العقل وكونه خرج
عن مجال اشتغاله المخصوص به وإما لكونه ليس ثم حقيقة مطلقة أو كونها مجزوءة
ومبعثرة عبر امتداد هذا الوجود اللامتناهي والتقاط فتاتها يحتاجُ إلى أيدٍ
كثيرة ، لقد حاولَ كانط أن يؤسس لفلسفة جديدة ومحاولته في حد ذاتها بعيدا
عن بداياتها ونهاياتها تعكسُ جلال العقل البشري عندما ينشط ويتفتح ويُنجز
ولكن هذا الجلال المتعاظم مسقوفٌ وليس مفتوحا إلى ما لا نهاية ، أين يبدأ
حاجز السقف ؟ ليس ثم من يدري ، وفي هذه اللا أدرية المؤلمة إلغازٌ طريف
وقوة جاذبة للارتقاء المستمر ، هل كانتْ كتابته طلسما أو سحراً أو فراغا ،
الكلمة هُنا للزمن وللتاريخ ، وما قد يراه بعضُنا على هذه الشاكلة الزائفة
يراه بعضُنا تمثيلا ناجزا للعقل في أقصى جموحه وازدهاره واخضراره ، ولا
أرضى لك أن تكون وثوقيا يقينياً على هذا النحو الذي تكتبُ به ، بل حاولْ أن
تتأرجح بين ضفاف الشك كما يتأرجح راقصُ الساعة ذات اليمين وذات اليسار ،
ففي هذا التأرجح انكشاف على مناطق لم تكن لتراها لولاه ، ثم إن انكشاف
الطبيب على شرايين مرضاه انكشاف ماديٌّ كليٌّ محسومٌ بحكم التجربة والعادة ،
أما انكشاف العقل للقبض على المعنى أو الحقيقة فليس انكشافاً مادياً ولا
كلياً ولا محسوما بحكم التجربة والعادة ، فلا قياسَ هُنا ، ويبقى أن العقلَ
مهما تنامى وتمادى وتعاظم فإنه سيظلُّ يأكلُ نفسَه ويدورُ كالثور الأعمى
تنهشه الرماحُ المسنونة وليس ثم مهربٌ إلا هذا الوجود المغلقُ الثقيل .