النظام العربي الجديد: استحضار أرواح الماضي لقتل المستقبل
د. لبيب قمحاوي
2012-07-16
''يعيش العرب الآن مسرحية هزلية ذات فصول مأساوية لم تكتمل بعد. البعض
ينظر للمستقبل بأمل، والبعض الآخر بوجل وخوف. ولكن تبقى الحقيقة أن
العــــرب يعيـــشون الآن مخاضاً قد ينسجم في أعراضه مع الأهداف المضمرة
لدعوة كوندوليسا رايس (وزيرة خارجية أمريكا في عهد الرئيس بوش الابن)
المبكرة إلى تبني نهج 'الفوضى الخلاقة' كمدخل للتغيير في العالم العربي.
من
المفهوم أن تؤدي ثورات الإصلاح والتغيير إلى الإطاحة ببعض أنظمة الحكم غير
القابلة للإصلاح، ولكن الأمر الخطير هو أن تؤدي تلك الثورات إلى الإطاحة
بالنظام العربي السائد واستبداله بنظام جديد قد لا يكون عربياً بل جديداً
فقط وذا ملامح مجهولة وأهدافاً تبعث على الشك والريبة أكثر مما تبعث على
الارتياح والطمأنينة. وهذا النظام إما أن نشكله بأنفسنا ولأنفسنا
ولمصلحتنا وندفع الثمن اللازم من تضحيات وجهد ومثابرة، أو أن نتقاعس عن
دفع الثمن ويقوم غيرنا من خارج العالم العربي بالتدخل في تشكيل ذلك النظام
وبما يخدم مصالحهم هم لا نحن. التحدي واضح، إما أن نكون سادة أنفسنا أو لا
نكون. المسؤولية تبقى مسؤولية الشعوب في قيادة ثورة مفتوحة متجددة
ومتفاعلة مع التطورات: إما دعماً وتأييداً، أو مكافحة وتصدياً لمنع تفاقم
الأمور إلى الحد الذي يعيد الوضع إلى المربع الأول، أو يوصل الأمور إلى
حضيض التجزئة والتشرذم وبما لا يترك مجالاً لإعادة بناء الوطن الواحد
الموحد على أسس من الديمقراطية والشفافية وتكافؤ الفرص.
إن ما اصطلح
على تسميته 'الربيع العربي' يجري استعماله من قبل البعض كمدخل للولوج إلى
نظام عربي جديد. وهو أمر لن يقتصر على دولة بعينها أو مجموعة محددة من
الدول بل سيشمل العالم العربي قاطبة، وإن كان بدرجات متفاوتة وأشكال
مختلفة. ومن هنا تنبع أهمية الرابطة القومية وأثر ما يجري داخلياً في كل
قطر على حدة على تلك الرابطة.
إن عفوية وصدق منطلقات ثورات الإصلاح
والتغيير أمر لا يجب إنكاره أو التشكيك به. فنظرية المؤامرة قد تقودنا
بعيداً عن الحقيقةً. إن افتقار تلك الثورات لبرامج عــمل ذات أهداف واضحة
وتنظيمات فاعلة تقوم على حماية الثورة ومكتسباتها جعلها أقرب ما تكون إلى
'الفوضى الخلاقة'. وهذا ما أدى ويؤدي إلى فتح المجال أمام الآخرين سواء من
داخل الوطن أو من خارجه للتسلل إلى داخل تلك الثورات والعمل على احتوائها
واقتناص مكتسباتها بل وتغيير مسارها بما يخدم مصالح محلية وأجنبية قد لا
تنسجم بالضرورة مع مصالح شعوب المنطقة. هذا هو واقع الحال، وهذا هو الأساس
الذي قد يتم استغلاله للدفع في اتجاه نظام عربي جديد يكون أكثر انسجاماً
مع الأهداف الإستراتيجية لبعض القوى الدولية وأهمها أمريكا. فالسياسة
الأمريكية في منطقة الشرق الأوسط تحكمها بالطبع مصالح أمريكا ومصالح
إسرائيل، وفي بعض الأحيان تأتي المصلحة الإسرائيلية أولاً مثل موضوع تقسيم
العراق.
ما جرى في العراق يعطي مؤشراً واضحاً على الرؤيا الأمريكية
لمستقبل المنطقة. فإضعاف الدولة المركزية إلى حد النزع وحشرجة الموت وخلق
كيانات طائفية وعرقية أقل من مستوى الدولة المستقلة ولكن أعلى من مستوى
المحافظة قد أدى إلى شل الدولة المركزية التي بقيت قائمة بالإسم ولكن
أحشاءها ممزقة بما يكفي لمنعها من النهوض.
ونشاهد نفس المحاولات الآن
في مصر من خلال استعمال الدين لتفتيت المجتمع وإضعاف الدولة المركزية،
وكذلك إثارة العصبيات القديمة في ليبيا بهدف إعادة إحياء الواقع القديم
عندما كانت ليبيا عبارة عن ثلاثة أقاليم وبهدف خلق عراق آخر في ليبيا. وما
يجري في سوريا الضائعة بين حكم أناني مجنون وشعب يريد الحياة بكرامة وصراع
دولي روسي أمريكي على سوريا مما يهدد بتمزيقها أو في أحسن الظروف فرض
حماية روسية أو أمريكية أو حماية مشتركة عليها.
إن إعادة تشكيل
منظــومة الدول العربية على شكل نظام جديد تابع وملتصق بالمصالح الأمريكية
والغربية يتطلب تفكيك أو إضعاف وتجويف الدول العربيـــــة، خصوصاً
المحورية منها، وإرجاعها إلى مكوناتها الأساسية سواء الطائفية أو العرقية
أو الإثنين معاً إلى الحد الذي يصبح فيه ما كان متعارفاً عليه من عالم
عربي عبارة عن تشكيلات واسعة من دويلات صغيـــــرة أو كيانات مجوفة لا حول
لها و لا قوة. والأصل هو المثال القطــــري. فدويلة قطر التي نصبتها
أمريكا زعيمة على العالم العـــربي ووفرت لها كل الإمكانات المالية
الهائلة والنفـــــوذ السياسي ما مكنها من ممارسة مثل هذا الدور، هذه
الدويلة القطرية هي المثال الذي سوف يُحتذى في النظام العربي الجديد
وبتشجيع و دعم أمريكي.
واستطراداً، فإن النظام الجديد الذي قد يُخلق
بإرادة أمريكية إذا لم يتم التصدي له بإرادة شعوب المنطقة لن يُسْمَحْ له
بتكريس الرابطة القومية العربية أو العروبة مما يعني إلغاء الدولة الوطنية
ذات الهوية العربية وتفكيكها أوتجويفها أو تحويلها إلى كيانات أخرى ذات
هوية عرقية أو طائفية وإلغاء أي رابطة بين تلك الكيانات بهدف تشتيتها
واستعداء بعضها على بعض. إن تسلم الإسلاميين الحكم في مصر قد يؤدي إلى
إضعاف الدولة المدنية وتأجيج العواطف الطائفية وخاصة إذا ما أمعن
الإسلاميون في المغالاة بتطبيق أحكام الشريعة وحولوا بالتالي جزءاً أصيلاً
من الشعب المصري من مواطنين إلى طائفة في وطنهم. إن عملية تفكيك ليبيا
وسوريا تسير الآن على قدم وساق بعد أن تم عملياً تفكيك الدولة المركزية في
العراق. ونجاح بعض الأنظمة العربية، وبتوجيه أمريكي، في تحويل العرب
الشيعة إلى طيف إيراني وإلى امتداد للنفوذ الإيراني بعد أن كانوا عماد
الجيش العراقي الذي قاتل ايران في الحرب العراقية- الإيرانية إنما هي خطوة
أخرى على هذا الطريق. نحن أمام سياسة مدروسة بعناية ومنذ ما يزيد عن عقدين
من الزمن في اتجاه 'قطرنة' العالم العربي. وهكذا يتم قتل الانتماء القومي
والعروبي من خلال استعمال أدوات محلية وتحت ستار وغطاء عصيبات عرقية أو
طائفية قد تدغدغ عواطف بعض الأقليات.
يتطلب هذا النظام الجديد للعالم
العربي وضع أو إشراك الإسلام السياسي أو الحركات الإسلامية في السلطة
تمهيداً لتدجينها أو إفشالها بعد أن يتم حرقها جزئياً أو كلياً في أتون
الحكم، ما يعني أن الحركات الإسلامية قد لا تبقى الخيار الغامض المفضل
للعديد من المواطنين، وسيتم إضعاف شعبيتها ومَنَعَتِهَا الدينية تحت ضربات
الحكم وصعوباته وتحدياته ومسؤولياته بما يحولها إلى حزب كباقي الأحزاب
وليس حركة ضميرية وجدانية ذات إطلالة دينية تخاطب الإيمان في نفس كل من
يريد. '''
إن أمريكا لن تتردد في خوض حرب دفاعاً عن مصالحها في الشرق
الأوسط. وبالتحديد دفاعاً عن وجود إسرائيل، ودفاعاً عن علاقتها الخاصة مع
مصر و دفاعاً عن مصالحها النفطية في السعودية. وكل من يظن أن أمريكا سوف
تقدم مصر للإخوان المسلمين على طبق من ذهب لا يفقه في السياسة شيئاً.
الإخوان المسلمون سوف يحكمون في مصر بإرادة وموافقة أمريكا وسوف يخرجون من
الحكم بإرادة وموافقة أمريكا. والعسكر في مصر سوف يبقون القوة الخفية
المسيطرة وأداة لحماية العلاقة الخاصة مع أمريكا.
إن إيمان الحركات
الإسلامية بالهوية الإسلامية هو الأصل وهو أقوى من إيمانهم بالهوية
العربية. وهذا يعني أنهم لن يبذلوا أي جهد لحماية تلك الهوية إذا ما تعرضت
للخطر باعتبارها في نظرهم هوية طارئة على الهوية الأصلية وهي الهوية
الإسلامية. وهم بذلك يلتقون، سواء عن قصد أو عن غير قصد، مع الرؤيا
الأمريكية التي تريد طمس الهوية العربية واستبدالها بهويات محلية عديدة
سواء أكانت طائفية أم عرقية، وقد تختلف الأسباب والأساليب، ولكن النتيجة
واحدة. وفي السياق نفسه، فإن طمس الهوية العربية وهي هوية قومية لصالح
الهوية الإسلامية وهي هوية دينية، يعطي شرعية للكيان الصهيوني باعتباره
وطناً لليهود مقابل أوطان إسلامية للمسلمين وأوطان مسيحية للمسيحيين
وأوطان درزية للدروز وأوطان علوية للعلويين إلى آخر ذلك من مسلسل بائس من
العنتريات التي تغذيها تنظيمات وأحزاب ضيقة في نظرتها ومحدودة في تطلعاتها
ذات خلفيات مشكوك بها بعضها يختبئ خلف الدين وبعضها الآخر يتستر بالأصول
العرقية ويبحث في عمق التاريخ عن شرعية لا يقبل بها الحاضر.
إن ما
نحن بصدده لا يعني أننا أمام قضاء لا مفر منه، ولكنه يوضح أن التحديات
القادمة مصيرية، وأن أي تهاون في التعامل معها سيؤدي إلى خسائر هائلة
للموقف العربي والمصالح العربية.
الرؤيا المدنية العربية للنظام
العربي الجديد يجب أن لا تعتمد الرؤيا الأمريكية الهادفة إلى التمزيق
والتشتيت تحت عنوان الإصلاح لغاية تحويل المنطقة إلى دويلات صغيرة ممزقة
وربما متشاحنة حتى يتم السيطرة عليها إلى الأبد. وبنفس المقدار يجب أن لا
تعتمد رؤيا الحركات الإسلامية الهادفة إلى استعمال ثورة الإصلاح للوصول
إلى الحكم وإعادة إنتاج الدولة العربية المدنية لتصبح دولة إسلامية
إقصائية تعتمد الانتماء الديني بدلاً عن المواطنة كأساس للدولة،
والديمقراطية الإسلامية المتداولة ضمن الحركات الإسلامية حصراً كبديل
للتعددية في مجتمع ديمقراطي أساسه المواطنة والمساواة وتشكل بذلك أساساً
لتمزيق الوطن إلى مِلَلْ وطوائف.
التحدي واضح أمام المجتمع العربي
الذي تقع عليه مسؤولية التصدي لحماية مستقبل الوطن من قوى داخلية وخارجية
قد تختلف في وسائلها ولكنها قد تلتقي في هدف إضعاف الهوية العربية أو
إلغائها، وتفتيت الدولة الوطنية وتحويلها إلى دويلات أو إلحاقها بعالم
إسلامي يكتنف هويته الغموض ويبحث عن شرعيته في أعماق التاريخ، لا أحد يعرف
من أين أتى حاضره وإلى أين سينتهي مستقبله.
' استاذ جامعي وكاتب اردني