ما هو التعايش؟ بقلم: كومار ربسنكة ترجمة: ذاكر آل حبيل
إن التعلم للعيش المشترك، وقبول الاختلاف، وجعل العالم مكاناً آمناً له؛ سوف يكون أحد أهم التحديات الكبرى للقرن الواحد والعشرين.
فالتعايش
هو المصطلح الذي تم استخدامه بشكل مترادف في سياقات عدة، كما استخدم بوصفه
عبارة رئيسية في ظهور عدد كبير من الحركات الاجتماعية والسياسية، والسمة
الرئيسية في تعريف كلمة «التعايش» هو علاقتها بكلمة «الآخرين» والاعتراف
بأن « الآخرين» موجودون.
التعايش يعني التعلم للعيش المشترك، والقبول
بالتنوع، بما يضمن وجود علاقة إيجابية مع الآخر. فلقد عرَفت هوياتنا
العلاقة مع الآخر، فعندما تكون العلاقات إيجابية وعلى قدم المساواة معه،
فإن ذلك سوف يعزز الكرامة والحرية والاستقلال، وعندما تكون العلاقات سلبية
ومدمرة فإن ذلك سيقوّض الكرامة الإنسانية وقيمتنا الذاتية. وهذا ينطبق على
الفرد والجماعة والعلاقات بين الدول، فبعد أن شهدنا حربين عالميتين
وحروباً لا حصر لها من الدمار والإبادة الجماعية، صارت مسألة تعزيز
التعايش على جميع المستويات أمراً ملحاً للقرن الواحد والعشرين.
واحد
من المفاهيم الأساسية في تاريخ الثقافة الغربية عموماً، والفلسفة الحديثة
على وجه الخصوص، هو أن الشرعية الفعلية للوجود المفترض مع صفاتها المحددة
موجودة فقط عندما تعترف بها ذاتية أخرى، ووفقاً لهيغل، فإن جوهر فكره قائم
على مصطلح «وجود» وهو في الأساس «تعايش». وينطبق ذلك على الأفراد
والجماعات والطبقات، فالمطلوب هو الاعتراف المتبادل، كشرط ضروري من أجل
الحرية والاستقلال. وهناك أمثلة ممتازة للعديد من أشكال النضال لأجل
الاعتراف والتأكيد على الاستقلال في تاريخ الحركات الاجتماعية. ومن
الأمثلة المهمة في هذا السياق، الكفاح من أجل التعايش بين الرجل والمرأة
والخلاص من البطريركية (الأبوية) للنضال من أجل تحرير المرأة، والمساواة
بين الجنسين، والنضال ضد الاستعباد وضد عبودية الإقطاع معروفة جيداً. وفي
عصرنا الحالي فإن الكفاح من أجل التعايش يتواصل مع عملية تحول الاتحاد
السوفيتي السابق، والثورة السلمية في أوروبا الشرقية.
وفي المفردات
السياسية الحديثة فإن مصطلح «التعايش السلمي» تم تصوره كاستراتيجية للبقاء
والوجود بين الحرب بالمعنى الحرفي والسلام بالمعنى المثالي، فالتعايش
السلمي في هذا السياق يعني علاقة سلمية بين الدول، في حين أن التنمية
المركزية لكل دولة تتطلب التعايش داخل الدولة، وعدم التدخل في الشؤون
الداخلية للدول الأخرى، وقد كان ذلك أحد أهم الركائز الأساسية لدبلوماسية
الدولة. وكان لينين أول من أعلن التعايش السلمي باعتباره سياسة الدولة
للثورة، وخلال المرحلة الأولى من الثورة الروسية قد استعمل لوصف الفترات
التي ستتخلى عنها السياسة السوفيتية في الهجوم الشامل على كل الجبهات ضد
العالم غير الشيوعي والاستعاضة عنها بأساليب أكثر دهاءً من إبرام اتفاقات
مع بعض الحكومات في بعض المجالات، مع الحفاظ على الضغط الشديد في أماكن
أخرى، فالغرض من التعايش وفقاً للينين، كان تكتيكيًّا بحتاً، ومرحلة
مؤقتة، فبواسطة طريقة تغيير طبيعة الهجوم وتخفيف الضغط، وتقسيم الدول
الرأسمالية، والتي تكون متلازمة، سيسمح بالتالي لتطوير وسائل إضعاف أعداء
الشيوعية .
ولكن في سياق الحرب الباردة فإن «التعايش السلمي» الذي
أعلنه خروتشوف، وجعله تحولاً استراتيجيٍّا وركز وبشكل واضح عليه، حيث كان
من المُسلَّم به فيما لو استمر الصراع بين النظامين، فإن ذلك من شأنه أن
يؤدي إلى التدمير المتبادل للنظامين الغربي والشرقي بأكملهما.
وأما
التعايش وفقاً لغورباتشوف فهو يعني استمرار الصراع بين النظم الاجتماعية،
ولكن بالطرق السلمية، من دون حرب، ودون تدخل من جانب دولة واحدة في الشؤون
الداخلية للأخرى، و تكون المنافسة بين النظامين في حقل سلمي .
وجاء
التحول في معنى آخر مع مؤتمر باندونغ حيث تم استخدام مفهوم «تعايش»، وذلك
بهدف خلق بيئة دولية أكثر سلمية، وكان نهرو قد دعا لمفهومه للتعايش السلمي
بين القوتين العظمتين من حيث المبادئ الخمسة: الاحترام المتبادل لسلامة
الأراضي وسيادتها، وعدم الاعتداء، وعدم التدخل في الشؤون الداخلية لبعضها
البعض، والمساواة، والمصالح المتبادلة . وكان لدى نهرو قناعة بأن الهند
يمكن أن تسهم في تحقيق المصالحة بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي
من خلالها «كجسر سياسي» وذلك من خلال فكرة التعايش التي كانت متجذرة في
استراتيجية غاندي (ساتياغراها)، أو نبذ العنف. على الرغم من أن تلك
المبادئ قد صدرت من ضمن تطلعات الدول الناشئة الحديثة الاستقلال وهي عدد
من الدول الإفريقية والآسيوية، والتي جاءت إلى الواجهة بحقيقة الاعتراف
لهذا المفهوم «التعايش» في عملية صنع السياسة الدولية.
إن التعايش
كنموذج يجب ألَّا يقتصر على العلاقات بين الدول ولكن العلاقات داخل الدول
كذلك، فالتعايش بين مختلف الشعوب والأعراق والجماعات الدينية والعشائر
والقبائل وطيف من الهويات هو التحدي الكبير للقرن 21، كما أن التعايش بين
الشعوب أصبح ضرورة ملحة في المرحلة المقبلة من تطور الحضارة. ومن جهة أخرى
صار الكفاح من أجل تقرير المصير للشعوب عاملاً رئيسيًّا في الحروب القومية
في القرن 20، وقد بلغ ذروته في استكمال عملية تصفية الاستعمار، وحاليًّا
الحروب الأهلية والعرقية وصراعات الهوية هي التحديات التي تواجه نظام
الدولة القائم.
وهناك سلسلة متصلة من النضال لأجل الاعتراف بهويات
جديدة، وتحديات الخصام التي تواجه دولة الوحدة، وفي بعض حالات الخصام
والحرب تؤدي إلى تقسيم الدول، وتكثر الأمثلة الحديثة، كفصل باكستان عن
النظام السياسي الهندي، وفصل بنغلاديش عن باكستان، وانهيار يوغوسلافيا
السابقة. من ناحية أخرى كان هناك أيضاً التوسع في كيان أكبر، حيث إن توسع
الاتحاد الأوروبي ليس سوى مثال تقليدي واحد، وأن تشكيل الاتحاد الأوروبي
هو مثال جيد لقرار وقف الحرب بين القوى العظمى. وقد عمل جان مونيه وآخرون
في صياغة إطار معياري لتطوير التعايش السلمي بين فرنسا وألمانيا، من خلال
التعاون الاقتصادي، ومن ثم إلى توسيع مفهوم أوروبا ككل، والذي يقدم مثالاً
ممتازاً على الاعتراف بالتنوع والمحافظة على التعايش.
* الهوية والانتماء العرقي والتعايش
عندما
نبحث عن كثب، فإن الغالبية الساحقة من الدول القومية في مجتمعنا العالمي
تكشف عن انقسامات داخلية كبيرة، على أساس العرق والجنس والدين، كما أن
نوعية هذه الاختلافات في العملية الاجتماعية والسياسية تختلف على نطاق
واسع، وكذلك مدى شدة أهميتها في تسييس الشرائح الاجتماعية، سواء داخل
الدول أو فيما بينها، كما أن الافتراض الأساسي بعد انتشار صراعات الهوية
والعرقية، لا سيما بعد الحرب الباردة، هو إدراك أن التعددية الثقافية هي
سمة دائمة في الحياة السياسية المعاصرة، فلم يعد هناك أي مبرر للتشبث في
الاعتقاد بأن مجموعة من العمليات المعروفة باسم «تحديث» من شأنها أن تؤدي
تلقائيًّا إلى فكرة أمة واحدة، أو أن تؤدي إلى تآكل التضامن الثقافي أو
العرقي أو الديني، بل قد يحدث عكس ذلك، فالتغيير الاجتماعي يميل إلى إنتاج
أقوى للهويات الطائفية، والدراسات التي تركز على أن الفرد هو الوحدة
الأساسية في تحليل الصراعات، تشير إلى الحاجة إلى الهوية، باعتبار أن ذلك
أمرٌ أساسيٌ لبقاء رفاهية الفرد والمجتمع الذي يوجد فيه هذا الشخص. وكان
«بيرتون» وللحصول على نقاط أمثلة لمثل هذه الصراعات المعقدة التي طال
أمدها مثل الصراع الفلسطيني، والصراع القبرصي، وصراع إيرلندا الشمالية؛ قد
أكد على أنها جميعاً تستند إلى الحاجة إلى الهوية التي يسعى البشر
لتلبيتها بغض النظر عن الظروف السياقية أو درجة الإكراه . ولأن
«الاحتياجات الإنسانية الأساسية نهج»؛ ولذلك يرى أن الاعتراف بالهوية
ضرورة عالمية، وباعتبارها أيضاً شرطاً أساسيًّا لتحقيق التنمية الفردية .
هناك
بالطبع من المنتقدين الذين يشككون في قيمة ومدى عملية استخدام مفهوم
التعايش. وهناك مدرسة فكرية واحدة تزعم أن العلاقات بين المجموعات
المتنافسة لا يمكن تغييرها، وأنها الأساس ولا يمكن تحويلها، ويجادل آخرون
بأن التعايش يعني قبول الوضع القائم، ويقول آخرون برأي أقوى من هذه الحجة،
وهو أن التعايش ما هو إلا مصطلح يستخدم من قبل الأغلبية لكي يفرضوا
سيطرتهم على الأقلية، وهو الزعم بأن الأغلبية المهيمنة ترغب في الاحتفاظ
بهيمنتها من خلال اقتراح أشكال التعايش، والتي لا تقوض سيطرتهم. وما أود
أن أقوله هنا، هو أن التعايش بين الطوائف والمجموعات هو في الأساس علاقة
تحويلية، ديناميكية وايجابية، ومصطلح التعايش يعني أن الهوية هي القوة
الدافعة الأساسية في التنمية البشرية التي تتطور من حالة الحد الأدنى من
الاعتراف بالاختلاف وقبول التنوع والاعتراف المتبادل من جهة أخرى، إلى
وجود علاقة تحويلية في المجتمعات، ربما على مرور الزمن قد تجد الآليات
والمؤسسات المناسبة لتلتحم ومستوى أعلى في ذلك المعنى.
* مناهج لتعزيز التعايش
وهناك
مجموعة متنوعة من الأساليب، التي يتم استخدامها حاليًّا في تعزيز جوانب
التعايش بين الشعوب، فبعض الحركات الاجتماعية تعرف نفسها كمعززة لتسوية
المنازعات، أو إدارة الصراع، وأن حل المنازعات أولوية في إدارتها، والتي
تعرف نفسها عادة بأنها تسعى لجلب الطرفين إلى طاولة المفاوضات، كما أن
متغيرات أخرى لحل النزاعات هو الرجوع إلى مختلف الأساليب والمناهج
المتقدمة في مجال الدبلوماسية كمسارٍ ثانٍ، وحيث توضع الجهود التي يجب أن
تدعم عملية المفاوضات الرسمية من قبيل نهج المجاملة، ومثل تعزيز العمل على
تحقيق وبناء السلام بين المجتمعات المحلية، كما أن العديد من الجهود التي
تبذل لحل مشكلة النهج، إلى حد كبير من قبل جماعات المواطنين القائمة على
خلق مساحة للحوار من أجل تحسين التعايش بين الطوائف، إذ إن الحركة البيئية
على سبيل المثال، وهو مثال كلاسيكي لتمديد التعايش مع الطبيعة بحيث أن
الطبيعة تعتبر جانباً من جوانب وجودنا على كوكب الأرض، والحركة بين
الجنسين هي مثال آخر حيث يتم التركيز على الاعتراف، والتحرر، والنضال من
أجل المساواة والحرية. وعادة فإن مفهوم حل النزاعات، يعني الوسائل
والخطوات التي اتخذت لتشجيع التعايش السياسي بين مختلف الأطراف في الصراع.
ومع أن حل النزاع كان ضيِّقاً جدًّا بالنسبة لأولئك الذين رأوا أن هذا
المفهوم لا يعني سوى التوصل إلى تسوية عن طريق التفاوض بين أطراف النزاع،
فإن هذا النهج لا يبدو أنه ينطوي على بناء السلام بين المجتمعات المحلية،
ففي كثير من الأحيان تفشل التسويات التفاوضية إذا لم يتم اتخاذ العناية
الكافية لمواصلة الجهود لبناء الثقة بين المجتمعات، وهذا هو السبب الذي
كان قد قدم لمفهوم آخر، ويدعى تحويل الصراع. وتحويل الصراع هو مفهوم ضمني
أوسع حيث الجانب الحاسم لحل النزاع هو تحويل العلاقات الاجتماعية بين
الجماعات والهويات في المجتمع. وكان مفهوم آخر قد دخل حيز الرواج فوراً
بعد انتهاء الحرب الباردة، هو مفهوم منع نشوب الصراعات. وقدم للدول التي
يساورها القلق من انتشار الصراعات الداخلية والحروب الأهلية فيها، وكذلك
الحروب بين الشعوب داخل الدولة المركزية لمنع نشوب الصراعات فيها، على أنه
يعني منع نشوب الصراعات قبل أن يحدث العنف في الواقع. وكان البديل الأكثر
تطوراً لمنع الصراعات والحد من العنف في أي نقطة في دورة الصراع، بالرغم
من أن هذا المفهوم كان أيضاً يعاني من صعوبات في الاصطلاح، فهناك من يناقش
على أن مصطلح «منع نشوب الصراعات» يطرح كمصطلح له دلالة سلبية، مما يشير
إلى أن الصراعات مستوطنة في التعايش البشري، وبالتالي هي لازمة في سياق
تطوره. ومع ذلك، ماذا كان يعني المفهوم ضمناً لمنع نشوب الصراعات العنيفة؟
* التعايش السياسي والتعايش الاجتماعي
إن
سياسة المبادرات التي كانت قد وجهت للتقديم لأجل وقف الصراع بين المجتمعات
المحلية، كانت قد وجهت إلى الإدارة المؤسسية في أعلى مراتب الحكومات وفي
يد النخب السياسية. ولأن التحيزات والأحكام المسبقة والتي تنبثق عن
السياسات الحزبية والسياسة الشعبوية في كثير من الأحيان تتورط في تلك
السياسات المضادة للتعايش، لذلك تأتي تلك المبادرات للتصدي لسياسة خلق
مناخ أفضل للتعايش المجتمعي وليكون ضمن الأولويات، ولأن جزءاً كبيراً من
الصراع الطائفي الموجود في مجتمع اليوم، والذي من المقرر على صانعي
السياسة اللجوء إلى الحيلة وأسهل الطرق للبدء في التوجيه السياسي إلى
المركز على أمل أن يكون «رجع الصدى» للإصلاح المؤسساتي في المجتمع على
مستوى القاعدة، ومنها يمتد إلى كافة المستويات، كما يجب التداول بشأن
احتياجات التعايش السياسي من خلال تنفيذ الضمانات الدستورية، إلى جانب
خطوة صنع السياسات فيما يتعلق بالتعايش المجتمعي، فيما يجب أن يتم التمييز
بين تشجيع التعايش السياسي والتعايش المجتمعي، لأن التعايش السياسي يتضمن
وسائل تطوير نظم الحكم التي يمكن أن تستوعب بشكل أفضل التنوع العرقي
والتعددية، وهذا يعني أن البحث عن أشكال الحكم الدستورية تتراوح بين
الفدرالية لأشكال الحكم الذاتي والحكم الذاتي نفسه، وقد يستغرق الأمر
البحث أيضاً عن أشكال وأنواع مختلفة من الأنظمة الانتخابية، والتي يمكن أن
تستوعب بشكل أفضل التوازن بين المجموعات العرقية في المجتمع.
غير أن ما
يميز التعايش المجتمعي، هو أن مختلف الجماعات في كثير من الأحيان، سواء
كانت عرقية أو دينية، والتي تعيش في فضاء العيش المشترك، وبذلك يكون تحديد
علاقتهم مع بعضهم البعض، وكيفية إمكانية تطوير هذه العلاقات واستدامتها
وتطبيعها هو ما يشكل تحدياً رئيسيًّا للقرن 21، ولأنه على مستوى المجتمع
المحلي التقليدي والذي لا زال يعيش وفق التصور النمطي تجاه بعضه البعض،
ووفقاً لماري فتزدوف، «وفي وقت سابق من التعارف الهادف في عمل العلاقات
المجتمعية والتي تبدو على مستوى الأولوية نفسها عند المعنيين، مع التأكيد
على فكرة وجود الانسجام بين الجماعات المختلفة مع الهدف المقصود من إدماج
الأقليات في المجتمع الأوسع في أسرع وقت ممكن. وقد وضعت التعريفات في وقت
لاحق على أن تكون الأهداف أكبر بكثير من مجرد التركيز على فكرة المساواة
في الحقوق الأساسية والفرص لجميع الفئات، بل يكون الهدف هو تشجيع التنوع
الثقافي في الوقت نفسه، باعتباره الخيار الأفضل» .
وفي تقييم
العلاقات المجتمعية العاملة في إيرلندا الشمالية فإن ماري فتزدوف تقول:
إنه يتزايد الاعتراف بمثل هذا العمل مع التركيز على الخلافات، كمثال أن
تكون لاهوتية ذات طابع سياسي في بعض الحالات، والتي من المرجح أن تكون
محدودة، فسيكون الهدف هو العمل على تسهيل النقاش الحر داخل المجتمعات
المحلية، والذي يجب أن يتم بصورة منتجة، فإذا كان لا يتم مثل هذا العمل
داخل المجتمع، والذي غالباً ما يكون بسبب حالة من الخوف والترهيب وعدم
وجود هياكل متاحة من خلالها يتم القيام بمثل هذا العمل المشترك وفهمه فإن
النتاج سيكون على الأرجح دفاعيًّا وبالتالي أقل فعالية.
* بناء أساس للتعايش: التعليم
إن
محاولة إطلاق سراح الطفل من الحدود العرقية المقيدة، وإعادة توجيه وعيه
إلى حقيقة وجود ثقافات ومجتمعات أخرى وأساليب متعددة للتفكير وللحياة،
ولأن المقصود هو إعادة تكييف الطفل إلى أقصى حد ممكن من أجل أن يتمكن من
الخروج إلى العالم وهو خالٍ من التحيز والتحامل، ولديه القدرة والرغبة
لاستكشاف العالم بكل تنوعه ، وباعتبار أن العشرية الأولى للقرن الحادي
والعشرين قد اقتربت من نهايتها؛ فإن البلدان في جميع أنحاء العالم منشغلة
بالتحدي المتمثل في إيجاد طرق جديدة ومحسنة لتثقيف المواطنين للعيش في ظل
التنوع في الألفية القادمة، فهناك أكثر من 2 مليار من الأطفال الذين سوف
يرثون الأرض.
إن الحق في التعليم هو حق أساس معترف به من قبل جميع
البلدان، غير أنه في الحقيقة لا يزال غالبية أطفالنا من دون مرافق تعليم
مناسبة، وبناء على ذلك يجب تبني أسس للتعايش قائمة على أن يتمكن كل طفل من
الحصول على التعليم والمشاركة في صنع القرارات التي تضمن تعليمه بشكل
أفضل، ولأن التعليم والتعلم هما مبدآن ووسيلتان لتعلم العيش المشترك، وهذا
يعني أن المدرسة تصبح مؤسسة كبرى لتعليم التعايش متعدد الثقافات، وأن
اللجنة الدولية المعنية بالتربية للقرن 21 في تقريرها عن التعليم في القرن
21 كانت قد وضعت مخطط الأعمدة الأربعة للتعليم، والذي منها التعلم للعيش
المشترك وعرفته كتحدٍّ مركزي. (انظر مقدمة التعليم).
فكيف يمكننا غرس
الاحترام والشعور بالحاجة إلى وجود ضرورة التعايش بين أطفال المدارس؟. كما
أن عملية التثقيف حول التعايش تحتاج إلى أن تحدث على كل المستويات، من
المستوى غير الرسمي بدءاً من كليات المعلمين، والمدارس ذاتها، إلى
الجماعات المحلية، والمنظمات غير الحكومية إلى وسائل الإعلام والشركات،
وجميع الوسائل غير الرسمية بما في ذلك الأسر والمشاهير والكتاب والشعراء.
أنه لتحدٍّ واضح في المجتمعات المتنوعة ثقافيًّا والتي تعكس بصورة مرضية
احتياجات جميع الفئات الاجتماعية والثقافية في المناهج الدراسية، وضرورة
تكييف المناهج الدراسية الأساسية المشتركة لتلبية الاحتياجات المحلية
وإعادة صياغة التقاليد، وهو أمر ذو أهمية وحيوية، والتي يمكن أن تكون
حاسمة، إذا ما كانت العلوم الاجتماعية ومناهج العلوم الإنسانية موضوعية
وتصاغ لأجل ذلك، والتي تعكس على نحو متزايد، اهتماماً دوليًّا ووطنيًّا
ومحليًّا بالتعددية وبالمجتمعات المتعددة الثقافات، كما أن عمليات تطوير
المناهج الدراسية بحاجة إلى أن تصبح أكثر ديمقراطية، باعتمادها نهج
اللامركزية التي تتيح إدخال ومشاركة جميع الفئات ذات المصلحة.
إن
التعليم القائم على التعدد الثقافي هو وسيلة ناجعة للطلاب، لرسم الهندسة
الاجتماعية التي تقوم على تقدير المجتمعات التعددية التي ينتمون إليها .
فالتعليم والتعلم هما دائماً العمليتان الثقافيتان اللتان تشتملان على
محركات النسج الاجتماعي المحدد، فعلى الرغم من تعلم الطلاب استخدام أفضل
الأمثلة المستمدة من ثقافاتهم الخاصة، والاحتفاظ بخصو صية تلك الأمثلة
المحددة ثقافيًّا، إلا أن هناك حاجة متزايدة للتعليم متعدد الثقافات وذلك
للمساعدة في نزع فتيل العقليات النمطية الراسخة، والتحيزات التي قد غرست
لتكييف بيئة ثقافية خاصة باعتبارها جزءاً لا يتجزأ من هذه التصورات
الشخصية والأحكام الذاتية وغيرها. ومع ذلك إذا ما كان للتعليم المتعدد
الثقافات في أن ينجح في تحقيق أهدافه، إلا أنه لا يمكن أن يكون مجرد
برنامج مخصص للتنفيذ في المراحل الحاسمة من الصراع في محاولة عرجاء لتسوية
الخلافات بين الفئات الاجتماعية المتضاربة، ولكن ينبغي أن يكون هناك مشروع
طويل الأجل يتناول التعليم متعدد الثقافات مباشرة مع الحفاظ على الهوية.
وكما أن التربية من أجل السلام كانت رد فعل لسياسات الحرب الباردة، فينبغي
أن ينظر للتعليم المتعدد الثقافات بوصفه أداة أساسية وضعت للحد من الصراع
العرقي، وهو أداة مهمة في تعزيز التعايش من خلال التعليم و المناهج
الدراسية. ففي نهاية القرن 20 كان قد تم الاتفاق على أن تكون المناهج
المعترف بها عالمية، وينبغي أن تكون مفتوحة ونشطة ومرنة ومتعددة الثقافات.
لكن ترجمة هذه المثل العليا إلى حقيقة واقعية وذات مغزى في المدارس
والفصول الدراسية يشكل تحدياً هائلاً في جميع البلدان. فالمناهج الدراسية
الأساسية تحتاج إلى التكييف مع الظروف الداخلية وتأخذ في الاعتبار الهويات
المحلية، كما أن ذلك يتطلب وجود نهج تشاركي لتطوير المناهج الدراسية،
فأصحاب المصلحة يجب أن يتم توسيعهم إلى ما هو أبعد من واضعي السياسات في
وزارات التربية والتعليم، بل ويجب إشراك العاملين في مجال التعليم المتخصص
والآباء والمعلمين وقادة المجتمع والزعماء الدينيين والطلاب أنفسهم.
* الحاجة إلى وجود تحول في السياسة
الصراع
موجود على جميع مستويات السلوك البشري ولكن هذا لا ينعكس دائماً كعامل
محدد في صنع السياسات، فتضارب وجهات النظر يؤكد على ضرورة شرعية حقيقة
وجود الحاجة إلى وسائل العيش المشترك، والذي لا بد من إيجادها على الرغم
من هذه الخلافات. ففي حين ينخرط العديد من الناس في عمل التعايش، فإنه ليس
بالضرورة أن تنعكس هذه المبادرات دائماً على مستوى السياسة العامة. الساسة
والحكومات وقادة الرأي يجب أن يقبلوا بأن يكون التعايش هدفاً مشروعاً.
وهناك اقتراح لإقامة إدارة أو وزارة خاصة للتعايش في جميع البلدان كوزارات
البيئة التي أنشئت في 1970.
إن تعلم العيش المشترك لا يسقط من
الفضاء، ومن الواضح أن التعايش هو سلوك مكتسب، وهو ما يتطلب عملية مستمرة
من التعلم في المدرسة وعلى حد سواء داخل المجتمع ككل. وهذا يتطلب الهياكل
والمؤسسات التي تدعم وتعزز التعايش من خلال العديد من المشاريع والبرامج.
وعلاوة على ذلك، فإنه يتطلب تمويل هذه الجهود والالتزام من قبل الحكومة
المركزية. والمثال الممتاز على هذه الجهود هو عمل مجلس العلاقات المجتمعية
في إيرلندا الشمالية، والتي التزمت فيه الحكومة بموارد للمجلس لتعزيز
التعايش الاجتماعي، ومثل هذا النموذج يجب أن يتكرر في بلدان أخرى، كما يجب
أن يكون هناك التزام حكومي بالموارد المقدمة للمجلس لكي يكون فعالاً.
شكل
آخر من أشكال الشرعية، هو ما يمكن عمله من خلال البلديات والهيئات
الحكومية المحلية، ولأن هذه المؤسسات هي في الخط الأمامي للعمل من أجل
التعايش، كما أنها تقع في الأماكن التي يعيش العديد من المجتمعات المحلية
فيها معاً، وهناك ما يتعين وما يمكن للكثير القيام به لتطوير الفهم من
خلال مجموعة من الخطط والبرامج، والتي يمكن أن تتراوح بين توفير الموارد
لدعم المراكز الاجتماعية حيث يمكن أن تأتي جميع الطوائف للتعلم واللعب،
ويمكن أن تكون في تقديم الألعاب وتشجيع الرياضة بين مختلف الطوائف، كما
يمكن أن تكون هناك برامج لتعلم اللغات الأخرى، وتشجيع اللقاءات بين
الطوائف، لمعرفة تاريخ الآخرين، كما يجب على البلديات والهيئات الحكومية
المحلية والهيئات المنتخبة ديمقراطيًّا أيضاً، والتي لديها السلطة
والموارد اللازمة، بأن تسعى لتقديم الدعم الفني للعمل في بناء التعايش
المجتمعي.
* استنتاج
تعزيز التعايش الإيجابي بين الدول وبين
الشعوب يشكل تحدياً رئيسيًّا للقرن 21. ولحسن الحظ هناك اليوم مجموعة من
الحركات الاجتماعية قد بدأت في التعامل مع هذه القضايا، سواء على الصعيد
الدولي أو الوطني أو على المستوى السياسي ومستوى المجتمع المحلي. وما يجب
أن نقوله: هو أن التعايش السياسي لكي يكون ناجحاً يتطلب الاستثمار في
التعايش على مستوى المجتمع المحلي. نحن بحاجة لجمع من الخبرات والطاقات من
مجموعة متنوعة من مواطن الحركة الأساسية، وبناء نهج متعدد الأوجه لهذه
المسائل. الحركات الاجتماعية تعمل بالضرورة على جوانب التعايش، وحينها
سيكون الأثر التراكمي لهذه التحركات، والذي من شأنه أن يخلق مساحة
للتعايش.
إن عمود مبدأ التعايش هو نظام التعليم، ونظام التعليم يتطلب
تحولاً كبيراً في التركيز، حيث العيش المشترك ضمن التنوع والذي يجب أن
يصبح قيمة مبدئية في تعليم الطفل. فنحن بحاجة إلى الاستثمار بكثافة في
أطفالنا، وهذا يعني أن مواقفنا تجاه التعليم تتطلب إعادة تقييم أساسية،
حيث حضور التعليم الذي ينبغي أن يكون تفاعليًّا بين المجتمع والمدرسة
والطفل، وهذه هي العلاقة التي يمكن أن تخلق فضاءً للتسامح وقبولاً للتنوع.
كما أن الاستثمارات في تعليم الأطفال هي في صلب عملية الاستثمار في ضمان
عالم آمن للاختلاف