[email=]بقلم ابو النور [/email]
[b]
[/b]
المنشورات السرية للعصر
الاسلامي
الجزء الاول
لغة الموتى
مشكلة اللغة أن كلماتها لا تنقسم الى
صحيح و خطأ فقط, كما يقول النحاة , بل تنقسم
أيضا الى كلمة حية , و كلمة ميتة , و هو انقسام
حقيقي , و شامل , و فعّال جدا , لكن علم النحو ,
لا يستطيع أن يكشفه , لأنه لا يظهر في بناء
اللغة , بل يكمن وراء سلوك الناس .
علامة الكلمة الميتة , أنها مطوعة -
تاريخيا - لخدمة أغراض السحرة . فقد بدأت
مسيرة اللغة المكتوبة , بتعاظم الحاجة الى
تبرير نظرية الحكم الفردي , في اقطاعيات
الشرق القديم. و تطوع الكهنة لأداء هذه
المهمة المستحيلة , قبل أن يعرفوا أنها
مستحيلة حقا . فخلال وقت قصير , كان من الواضح
, أن مبدأ الحكم الفردي , فكرة غير طبيعية , لا
يمكن تبريرها الاّ بمنهج الأسطورة , و كان
الكهنة - الذين صار اسمهم (علماء) -مشغولين
بتوفير هذه الأسطورة تحريريا , على ألواح من
الطين المجفف.
أول لوح , صدر في سومر , عند مطلع الألف
الثالثة قبل الميلاد , و حمل تقريرا سياسيا
مؤدّاه أن ( الأله شمش الذي يعيش في العالم
الآخر , قد نزل ليلا الى هذا العالم , و وهب
مفاتيح الأقاليم الأربعة للملك جلجامش ). و
من قاموس هذه القصة الليلية , ولدت لغة
الأسطورة رسميا .
فكلمة (العالم الآخر) التي نحتها الكهنة
من لغة الناس , لم تكن كلمة , بل كانت (( عالما
آخر مجهولا بأكمله)) , له ثلاث صفات جديدة ,
مجهزة عمدا على مقاس السحرة :
الصفة الأولى ؛ أنه عالم غائب عن عيون
الناس , لا يعرف أسراره أحد, سوى الكاهن الذي
يتكهن بأسرار الغيب . و هي مغالطة شفوية
بحتة , لكنها ضمنت للكهنة , أن يحتكروا تفسير
الشرائع حتى الآن .
الصفة الثانية ؛ أنه عالم حيّ, لكن بوابته
الوحيدة, تقع وراء الموت , مما يعني عمليا , أن
مستقبل الناس الأحياء , يبدأ - فقط - بعد أن
يموتوا .
الصفة الثالثة ؛ أنه عالم خارج عن سنن
الطبيعة , تنطق فيه الأصنام , و ترتاده
التنانين المجنحة , لكنه هو العالم الحقيقي ,
لأنه أزلي و خالد . و هي صياغة تريد أن تقول -
فقط - أن عالم الناس الأحياء , ليس عالما
حقيقيا .
خلال قرن واحد من عمر سومر , كان
الكهنة قد ضمنوا لأنفسهم المقام الثاني في
أول دولة أقطاعية عرفها التاريخ , و كان أهل
سومر , قد خرجوا من الحياة الدنيا دون أن
يدروا , وذهبوا للحياة , في عالم آخر , و جديد ,
و غائب , و خرافي , و غير معقول الى ما لا نهاية
.
هذا العالم الآخر , لم يكتشفه الكهنة في
السماء , بل ابتدعوه - شفويا - في لغة الناس
على الأرض . انهم لم يخلقوا عالما غائبا , بل
خلقوا لغة غائبة , مسخرة للحديث عن عالم
أسطوري , لا يعرفه أحد من الأحياء على الأقل .
و في ظل هذه الخدعة الشفوية , كان بوسع الكاهن
, أن يقلب لغة الناس رأسا على عقب :
انه يذبح طفلا حيا , على قدمي صنم ميت .
لكن الناس لا يسمونه ( رجلا مجنونا ) بل
يسمونه ( حكيما عالما بأسرار الغيب ) , فهو لا
يذبح الطفل حقا , بل يرسله الى الحياة
الخالدة في عالم آخر . و ذبح الطفل ليس جريمة
دنيئة , بل شعائر دينية في قاموس العالم
الآخر. ان كل مايفعله الكاهن المميت , يمكن
تبريره للناس الأحياء , بلغتهم الحية , ما
دامت اللغة نفسها , لا تخاطب عالم الأحياء
أصلا .
لهذا السبب ...
و ردا على هذه الخدعة الشفوية بالذات ,
ولدت لغة الدين . و قد تميز ميلادها , بظهور
كتاب مقدس ( لم يكتبه الكهنة) , له لغة مقدسة (
غير لغة الكهنة ) , لا ينكر ألوهية الصنم فحسب
, بل ينكر عالمه الغائب من أساسه . و في نصّ
هذا الكتاب المقدس , تكلم الأله الحيّ و سكت
الصنم الميت , و بات العالم قابلا للتفسير
بلسان الأحياء فقط .
فكلمة ( عالم الغيب ) في لغة الأنسان
الحيّ تعني - حرفيا - عالم المستقبل , لأن
المستقبل, هو العالم الوحيد الغائب الذي
يعرفه الناس الأحياء , و يتوقنون بوجوده , دون
أن يروه , و يعلمون أنه آت , و يتحملون
مسؤوليته شرعا . و قد التزم الدين بهذا
التفسير الحي , و رفض كل تفسير سواه , و جعله
شريعة الهية , و سماه ( مقدسا ) لكي يميزه عن
تفسير السحرة , و نجح بذلك في استعادة اللغة
الغائبة في السماء , الى واقع الناس على
الأرض .ان العالم الذي قلبه الكهنة , يستعيد
توازنه فجأة , في ثلاثة مواقع رئيسية :
في الموقع الأول ؛ لم يعد علم الغيب , غائبا
عن عيون الناس , بل صار اسمه المستقبل , و صار
بوسع الناس أن يعرفوا مستقبلهم سلفا , بقليل
من المنطق و علم الحساب .
في الموقع الثاني ؛ لم يعد عالم الغيب
خارجا عن سنن الطبيعة , بل صار طبيعيا , و صار
قابلا للتفسير العلمي , حتى اذا نطقت فيه
الأصنام , و أرتادته التنانين المجنحة .
فمستقبل الأنسان عالم مدهش - مثل عالم السحرة
الغائب - لكنه لا يحتاج الى لغة الأساطير .
هذا التفسير الديني لكلمة ( عالم
الغيب ) , رفضه الكهنة في جميع العصور , بحجة
أنه تفسير ألحادي , قائم على أنكار البعث بعد
الموت . و هي تهمة مقلوبة مثل كل شيء في لغة
السحرة , لأن الدين لا يؤكد فكرة البعث فحسب ,
بل يفسرها باللغة الوحيدة التي يفهمها
الأحياء :
فالناس لا يرون الميت حيا في السماء ,
بل يرونه حيا في أعماله على الأرض . انهم لا
يحتاجون الى دليل على صحة البعث؛ لأن واقعهم
نفسه هو الدليل . و قد التزم الدين بما تراه
عيون الناس , فأعلن أن البعث رهن بلأعمال
وحدها , و أن (( من يعمل مثقال خير يره و من
يعمل مثقال ذرة شر يره )) هنا في واقع الناس
على الأرض , و في مستقبلهم معا . و هو تفسير لا
يقول أن الأنسان يفنى بعد الموت , بل يقول أنه
لا يستطيع أن يفنى - حتى اذا أراد - أنه يعيش
مع أعماله في لوح محفوظ .
ان الدين لا ينكر حق الحي في الحياة
الخالدة , لكنه لا يتحدث عن الموتى , و لا يكلم
الناس الحاضرين , عن عالم غير حاضر , بل يخاطب
الأحياء , بلغة الأحياء , و يقول انهم مسؤولون
شرعا عن الحاضر و المستقبل , لأنهم مسؤولون
حقا , و عمليا , و بالفعل , و بالمنطق , و بالعدل
, وبالحساب .
في كالديا - جارة سومر - افتتح النبي
ابراهيم مسيرة الدين , بدعوة معلنة الى تحطيم
الأصنام , و تحريم القربان البشري . و بدأت
بذلك معركة هائلة بين شريعتين , تتقاتلان
بالسيوف في لغة واحدة .
شريعة تعني فيها كلمة (( الرب )) صنما ميتا
, و شريعة تعني فيه الكلمة نفسها الها حيا .
احداهما تقول ان عالم الغيب غائب عن عيون
الناس , لا تراه سوى عين الكاهن . و الأخرى
تقول ان عالم الغيب , اسمه المستقبل , و ان
الناس يرون مستقبلهم جيدا , لأنه يولد في
حاضرهم , و يكون من صنع أيديهم . ان الفرق
الهائل بين هاتين الشريعتين , لا يظهر في
بناء اللغة , بل يظهر في بناء المواطن .
فشريعة السحرة , تتكلم بلسان الصنم
الغائب , و تخاطب مواطنا مغيبا عن حاضره,
علامة غيابه , انه ينكر ما تراه عيناه , و ينكر
ما يقوله عقله , حتى يسجد خاشعا في حضرة صنم .
و شريعة الدين , تتكلم بلسان الأله الحيّ
, و تخاطب مواطنا حاضرا في عالم الآحياء ,
علامة حضوره , انه مسؤول شخصيا عن واقعه و
مستقبله , لأنه لا يعول على ما يقوله الساحر .
بين هذين المواطنين ثمة فجوة واسعة ,
بقدر الفجوة بين رجل حيّ و جثة رجل . وهي فجوة
منظورة , و ظاهرة للعيان في وضح النهار , تعيش
مثل الناس الأحياء أنفسهم , و تتنفس في
مجتمعهم , و قوانينهم , و نظم حكمهم , كما تحل
الروح في الجسد . و في ضوء هذا المقياس العلني
, يكون التمييز سهلا - و علنيا - بين ما يدعى
باسم الصحوة الدينية و بين صحوة الدين نفسه .
أن الدعوة التي ترتفع حاليا , تحت شعار ((
الصحوة الأسلامية )) , دعوة لا تتكلم لغة
الأسلام , لأنها لا تنادي بمسؤولية الأحياء
عن حاضرهم و مستقبلهم , بل تنادي بمسؤولية
الأئمة و المشايخ و رجال الدين . و هي
علامة معروفة في لغة الصنم يستحيل تمريرها
بوسائل الفصاحة , لأنها تنطق علنا في سلوك
الناس .
ففي ظل هذه الصحوة الأسلامية , يولد
الآن مجتمع أسلامي مغيّب , علامة غيابه أنه
ينكر ما تراه عيناه , و ينكر ما يقوله عقله , و
يفعل ذلك علنا , و رسميا , و باسم الأسلام نفسه
, لأنه يملك اسلاما شفويا قادرا على تبرير
الخطيئة بالكلام .
في هذا المجتمع الغائب , يحكم الصنم -
و عائلته - باسم الشرع , و يقاد المسلمون
بالعصي و الكلاب المدربة , كما تقاد الخرفان .
لكن الشريعة الشفوية , لا تسمي القطيع قطيعا ,
بل تسميه (( رعية )) في استعراض واضح لما
تستطيع اللغة أن تفعله على يد رجل بليغ .
في هذا المجتمع الغائب , تقضي المرأة
المسلمة عقوبة السجن المؤبد , في زنزانة
متنقلة , اسمها (( الحجاب)) . و تداهمها أمراض
السجناء علنا , من العمى المبكر , الى التخلف
العقلي , لكن الشريعة الشفوية , لا تسميها ((
امرأة سجينة )) بل تسميها (( سيدة مصون )) , بحذف
التاء من رأس النون , زيادة في طلب الفصاحة .
في هذا المجتمع الغائب , يولد الطفل
البريء , تحت اسم ( عفريت) . و يتولى معلمه حبسه
في القمقم , بضربه و ركله , و قرصه , و لعنه ,
لكن الشريعة الشفوية , لا تسمي التعذيب
تعذيبا , بل تسميه (( تهذيبا)) لأن الجناس و
الطباق أفضل من الصدق .
في هذا المجتمع الغائب , يعادي رجال الدين
الوقورون جسد الأنسان , و يسمون وجه المرأة ((
عورة )) , و هي اهانة لا يستحقها وجه الذئب
نفسه , لكن الشريعة الشفوية لا تفرق بين
الجوه .
في هذا المجتمع الغائب , يزدهر السحر في
ثياب الحكمة , و يتولى الوعّاظ الأميون ارشاد
الناس في شؤون الدنيا و الأخرة معا , من دون
معرفة أو تأهيل . لكن الشريعة الشفوية , لا
تسمي الواعظ الأمي ساحرا , بل تسميه (( رجل
الله العارف بالأسرار الخفية )), في فتوى لا
بد منها لتغطية رأس الجهل بطاقية الأخفاء .
في هذا المجتمع الغائب ,تسود قيم اخلاقية
اسمها (( حميدة )), و كل الناس يحمدون ربهم , تحت
ادارة تقر حكم الفرد , و تقر منطق القوة , و
تعترف بشرعية القتل , و تكذب علنا في جميع
وسائل اعلامها الرسمية , و في مناخ أجتماعي
من هذا النوع , تكون القيم الحميدة فعلا - و
المفيدة فعلا - هي الكذب و الغش و الخداع
والنفاق و القسوة والأغواء , و القدرة على
التعايش مع الظلم الى ما لا نهاية , لكن
الشريعة الشفوية , لا ترى حجم الفرق بين
مواطن يشرب من النهر , و مواطن يركض وراء
السراب
ان هذه (( الصحوة الأسلامية ))
التي تريد أن يستيقظ الأسلام , و ينام
المسلمون , دعوة ينقصها صوت الأله الحيَ, و
ليس بوسعها أن تعوض هذا النقص , بالفصاحة أو
بالشطارة , و ادعاء الغيرة على الدين , و ليس
بوسعها أن تجنّب المسلمين الخلود في النار ,
الاّ اذا اكتشفت الفجوة القائمة بين لغة
الأسلام و بين لغة الكهنة , و عادت من عالمها
الغائب في أقوال الأئمة و المشايخ , و ضمنت
مسؤولية المواطن الحيّ عن الحاضر و المستقبل
, في نظام اداري قادر على توفير الضمان .
من دون هذه الشروط , ينقطع الجسر القائم
بين المسلمين و بين الأسلام , و يدير كلاهما
ظهره للآخر في السرّ و العلن , على غرار ما
يحدث الآن , باسم (( الصحوة الأسلامية ))
فالدين لا يخاطب المواطن الحيّ , الاّ اذا
خاطب واقعه المعاش , و تكلم بلسانه , و أعاد
اليه صوته في شؤون الأدارة و الحكم . و هو شرط
لا يوفي به اسلام يقوم على سلطة الموتى , بل
اسلام يقوم على سلطة الأحياء .
الجزء الثاني