عزيزة فريق العمـــــل *****
التوقيع :
عدد الرسائل : 1394
تاريخ التسجيل : 13/09/2010 وســــــــــام النشــــــــــــــاط : 4
| | لماذا نستطيع القراءة التجريدية؟ | |
لماذا نستطيع القراءة التجريدية؟ قراءتك لهذا الموضوع تعني ان دماغك يمارس شئ في نفس الوقت الذي تعايش انت فيه شيئا اخر مختلف تماما. الدماغ يتلقى، عن طريق البصر، صورا لخطوط ومنحنيات سوداء، بصرك يتابع انحناءات وتواتر الخطوط في حين تعايش انت مراحل تطور تاريخ اكثر الانجازات البشرية عمقا وتأثيرا، وهو انجاز ننظر اليه اليوم على انه " طبيعي" كالركض، على الرغم من ان عمره لايتجاوز البضعة الاف من السنوات، هذا الانجاز هو فن القراءة.
عند القراءة نرى كيف ان اسطر من الخطوط المجازية تتحول في ذهننا الى معايشات من القوة بحيث ان ردود افعالنا يمكن ان تكون بمستوى مثيلتها من المعايشة الحقيقية، وهذا الامر هو اكبر انجازات البشرية والتي وسمتها ببصماتها. وكما هو الامر دائما يوجد على الدوام من يقف ضد الجديد. الفيلسوف الاغريقي سقراط والذي عاش في القرن 400 قبل الميلاد كان يرى ان الكتابة ليست فقط اختراع غبي وانما ايضا حول الانسان الى مخلوق اكثر غباء من المعتاد. في محادثة Faidros يسمح بلاتون لسقراط ان ينقل الينا اخبار اللقاء بين الرب المصري Thot والملك تاموس Tamus. الرب ثوت يريد منح الملك احرف الكتابة ولكن الملك يعتذر ويقول: " ايها الرب، ان هذه المنحة التي تقدمها ستؤدي . الى اصابة الروح بالنسيان، لن يحتاج المرء بعدها ان يهتم بذاكرته ويحفظ فيها اسمك، تمجد اسمك، سيعتقدون ان بالامكان العودة الى النص ليتذكروك، حيث اسمك يأتي من الاحرف الغريبة وليس من داخل الانسان. اختراعك لايساعد على الحصول على ذاكرة قوية وانما يعوض الذاكرة السيئة. انت لاتحفظ ذكرك بذلك وانما تخلق الوهم. سيسمعون الكثير ولكنهم لن يتعلموا شيئا. سيرددون ويعتقدون انهم يعرفون الكثير ولكن على العموم سيكونون جاهلين. سيصبحون غير مناسبين لتبادل الفكر معهم عندما يصبحون غارقين في الاعتقاد انهم حكماء عوضا عن ان يكونوا حكماء".
وعلى الرغم من ان تخوفات سقراط تملك شيئا من الحقيقة ، نرى ذلك في العديد من الجماعات التي توقف تفكيرها عند مستوى ترديد النصوص القديمة، إلا ان للكتابة الفضل الرئيسي في تطور الحضارة البشرية على العموم. فن الكتابة نشأ قبل حوالي 5000 سنة فقط في حين يبدو أن ادمغتنا كانت جاهزة لتلقف هذا الفن وتطويره.
باحث الاعصاب الفرنسي ستانيسلاس ديهينه Stanislas Dehaene, وبمساعدة تكنيك بناء نموذج للدماغ ، تمكن من متابعة الاحداث الجارية في الدماغ اثناء عملية القراءة. من بين ماأكتشفه ان الدماغ يملك مايشبه " صندوق خاص للاحرف" وظيفته الوحيدة التعرف على الاحرف. "الصندوق" يقع في النصف الايسر من الدماغ في الجزء الاسفل من الفص الجانبي، Temporallob, في حين يتلقى معلوماته مباشرة من الفص الخلفي المجاور حيث توجد حاسة البصر التي تأتي منها الصورة. هذا الوضع متماثل عند جميع البشر بغض النظر إذا كنا نقرأ العربية او الصينية او الانكليزية.
في خلال جزء من الثانية يقوم " صندوق الاحرف" بالتعرف على الحرف المنظور وايجاده بين العشرات من الاحرف المتشابهة. بعد جزء اخر من الثانية يجري ارسال الكلمة الى منطقة اخرى من الدماغ لتعطى معنى من خلال تعريضها للمماثلة من بين 40 الف كلمة مخزونة، وتعطى التعليمات لكيفية النطق من منطقة اخرى في الدماغ.
هذه القدرة على تحويل الاشارات المجازية الى معاني ومشاعر وصوت يجدها الباحث الفرنسي مملؤة بالمفارقات. كيف يمكن لدماغنا ان يملك هذا التنوع في التلقي وردة الفعل على عملية نشأت قبل 5000 سنة فقط؟ بمعنى كيف يمكن للحاء الدماغي الذي تتطور عبر الملايين من السنوات الخالية من اللغة المكتوبة فجأة يظهر مقدرة على ان يكون ماكينة لغوية رائعة؟ كيف حدث ان مسيارات الدماغ فجأة تظهر متخصصة في القراءة كما تبرهن الدراسات عليه؟
القدرة نتجت بسبب تطور منظومة تفاعلية مع المحيط على مدى مليون سنة، في نهايتها اصبحت مناسبة حتى للقراءة. ديهينه اطلق عليها " الاستخدام الثاني للعصبيات". ذلك يعني ان منظومة تطورت لتحقيق مهمة معينة قامت وظيفة اخرى ، اكثر حداثة، بالاستيلاء عليها. هذا النوع من التطور يمكن ان يكون الشكل الثقافي لمااشار اليه داروين بتعبير "exaptation", والذي يستخدم لتوضيح التغييرات في إطار نظرية التطور. ذلك يعني ان ميكانيزم بيلوجي غاية في القدم يتحول ويأخذ مع الوقت، بفضل التطور، وظيفة جديدة. تحول الوظائف امر ليس نادر في عملية التطور. مجموعة من الباحثين السويديين من جامعة اوبسالا عرضوا عام 2010، براهينهم على ان اجداد الحيوانات اللبونة تطورت لديهم الاذان، في البداية لغرض التنفس . عندما اصبح السمع ضرورة تجلى ذلك عندما انغلقت القناة الوسطى فنشأت طبلة الاذن، واظهر الاختيار الطبيعي حيوية التحول.
على خلاف التجولات البيلوجية البطيئة يمكن للتحول الثقافي ان يحدث بسرعة اكبر ، حسب ديهية، على الرغم من ان انتشاره بين اوساط المجموعة يتطلب وقتا اطول. السبب يعود الى ان تطور ثقافي لايحتاج الى طفرة جينية وانما يقوم بالبناء على منظومات جاهزة في الدماغ هي منظومة انجبتها حاجة التعلم من تجارب الحياة.
على هذه الخلفية نجد انه لامفارقة على الاطلاق، صحيح اننا لم نولد ونحن نملك حاسة كتابة وقراءة ولكن ولدنا ونحن نملك دماغ ذو قدرات تطورت لمعالجة المعطيات البصرية الى درجة اصبحت مناسبة لاستخدامها من قبل وظيفة القراءة والكتابة بفضل الاستخدام الثاني. سبب سهولة تعلم الاطفال للقراءة، حيث الطفل يتعلم القراءة قبل ان يتمكن من ربط شريط حذائه، ليس لان دماغه لازال صفحة غير مكتوبة تقوم بتشرب جميع المعلومات بسهولة، إذ لو استخدمت معلمة الصف الاول نظام fractal (نظام قائم على بنية متواترة تختلف حلقاتها بالحجم فقط وتشكل منظور هرمي) لتعليم الكتابة عوضا عن نظام الالف باء لما تعلمنا الكتابة ابدا. وليس لاننا نملك دماغا، بالمقارنة مع الحيوان، مصمم لتعلم القراءة.
السبب الاكثر اهمية لقدرتنا على القراءة هو امتلاكنا لاسس منظومة القراءة قبل ان نتعلم القراءة بل وحتى قبل ان نخترع الحرف. من اجل معرفة طريقة استخدامنا لدماغنا الثقافي قبل نشوء الكتابة قام الباحثون بدراسة منظومة القرود البصرية. المنطقة الدماغية التي تستخدم في دماغ الانسان كصندوق لحفظ الاحرف نجد انها لدى قرود المكاكا (على سبيل المثال) لها وظيفة اشعار وتحفيز بصري. بمعنى ان اقسام من الخلايا العصبية يتحدد عملها بالقيام برد فعل على رؤية وجه او شكل اكثر تجريدية مثل اختيار اداة مستقيمة عوضا عن منحنية.
لقد ظهر ان القرود تستخدم الف باء ذات اشكال مضلعة تشبه لغتنا المكتوبة، حيث ظهر ان خلايا عصبية خاصة تقوم بالتعرف على الاحرف على شكل T, L, Y, S, I, O, V وبقية الاشكال. هدف القدرة على التعرف وتمييز هذه الاشكال نمت وتطورت في معرض الحاجة الى الالمام بالبيئة والقدرة على قراءة بياناتها.
كل شئ حوالينا يمكن تبسيطه الى شكل بدائي ، مثلا الشجرة او الحية او الحجر. يمكن للدماغ قرائته بسرعة واعطاء جواب حيوي عليه عند الخطر او من اجل السير بدون التعثر. هذه الاحرف القديمة، او مشروع الاحرف، موجودة حتى عند الانسان. الاشكال الاساسية تقدم اساس بصري غير مرتبط بالشئ في ذاته وانما يركز على الهيكل الثابت، الذي يمكن فيما بعد ربطه بشئ خاص. هذا الامر مفيد بشكل خاص للذاكرة التي لاتملك القدرة على التقاط وتخزين كل شئ تراه اعيننا وانما تقوم بتحقيق هيكل عام يصبح مرجع قياسي. وهذا التكنيك يقوم على التركيز على الزوايا والاضلاع.
نموذج اخر يمكن استخدامه كدليل عكسي على ان منظومتنا البصرية تقوم بوظائفها انطلاقا من هذه الاسس هو الاشكال اللامنطقية. إذا قامت منظومتنا البصرية بتلقي الشكل بكامله على الفور فإن التأثير السحري لن يتحقق، لاننا سنرى على الفور ان الاضلاع لاتقوم ببناء شكل ثلاثي الابعاد وسيسقط الانفعال. ولكن لكوننا نركز على الانحناءات والزوايا والظل لايتمكن بصرنا من تجنب الخداع، على الرغم من معرفتنا ان العملية بكاملها جرى تنظيمها لخداع البصر.
بذلك يكون من الواضح ان الانسان تمكن من تنظيم احرف تتطابق مع قدرات المنظومة البصرية الموجودة مسبقا في الدماغ، وبالذات امكن ذلك بفضل محدودية قدرات الدماغ على الاستيعاب. والاحرف التي كانت تتشابه اكثر مع الاحرف الهيكلية البدائية في المنظومة البصرية هي التي ملكت افضلية على البقاء في حين ان الاحرف الاخرى ضاعت في النسيان. كما ان وجود خلايا عصبية متخصصة في رد الفعل على اشكال مثل ت او آ لربما تبدو غريبة، الا انه توجد امثلة اكثر غرابة. احدى فرق البحث الانكليزية تمكنت من العثور ، عند شخص مصاب بمرض الصرع، على خلية عصبية رد فعلها مقصور فقط على اسم الممثلة جينيفر انيستون او صورتها. بمعنى ان خلية تخصصت بإسم الممثلة السينمائية تماما كما توجد خلية متخصصة برموز أسد خطير.
وكلما كانت الرموز الاولى متطابقة مع عمل المنظومة البصرية للدماغ كلما كان الحرف اسهل ترسخا. لذلك نجد ان الاحرف الهيروغليفية المتطورة والتي كان يتقنها النخبة فقط بدأت تتخلى عن مكانها لاحرف اكثر تجريدية واقل تصويرية واسهل تسمح بالانتشار لنخلق بالتتدريج مانسميه اليوم الالف باء. باحثيين امريكان على رأسهم Marc Changizi, تمكنوا من البرهنة على ان جميع اللغات المكتوبة تملك احرفها خواص بصرية مشتركة: حواف واضحة، في المتوسط ثلاثة خطوط للحرف الواحد، وشكل متواتر. هذا الامر نجده في جميع اللغات بما فيها المنحدرة عن ثقافات لايوجد مايجمعها مثل العربية والصينية والسويدية. ومع ذلك فإن الجميع يملكون اشكال جرى انتاجها لتتطابق مع المنظومة البصرية الاساسية للدماغ.
وكلما كان الحرف اقرب للشكل الطبيعي البدائي كلما كان استخدامه اكثر سيوعا. وهذا الامر يمكن تجربته شخصيا من خلال ملاحظة اكثر الازرار استخداما، والتي تكون عادة ممسوحة من كثرة الاستخدام. في اللغة الانكليزية يكون الحرف A هو الاكثر استخداما، وله تاريخ معروف يوضح لنا الطريق من الاستخدام الطبيعي الى الاستخدام التجريدي. في البدء كان عبارة عن صورة ثور ويسمى Alef, وكان يرسم رأس ثور. مع الزمن فقد عيونه ثم انقلب رأسا على عقب وبعد ذلك حوله الفينيقيون الى الفا الاغريقية ليصبح حرف A كبير. لذلك القول ان الانسان اكتشف الكتابة امر ليس دقيق، والصحيح اننا اعدنا اكتشافه. طريقة التلقي في الدماغ هي التي قررت شكل الاحرف وحافظت على مايروقها منهم وتحكمت بشكل الالف باء. بذلك نكون مسيرين من طبيعتنا البيلوجية التي نتجت في مسيرة الصراع من اجل البقاء، ونشوء القراءة والكتابة مثال على هذا التطور.
| |
|