بقلم : . . علا شيب الدين
الربيع العربي والثورة السورية .. ولادة جديدة للإنسان علا شيب الدين قد لا نجانب الصواب إذ نفكر بالربيع العربي كثورات "ولادة الإنسان" في
منطقة من العالم شهدت موتاً حقيقياً للإنسان واقعاً ومفهوماً كونه ظلّ
خارج التاريخ على مرّ عقود طويلة من استفحال نزوع غريزي إلى السيطرة
مارسته أنظمة قائمة على قهر الإنسان واستعباده، وما الاستبداد إلا شكل
مرير وبشع من أشكال الاستعباد فكراً ونهجاً وممارسة..!
إن الكلام عن ولادة الإنسان قد يرتبط بسؤال كالآتي: منذ إضرام الشاب
التونسي محمد البوعزيزي النار في جسده احتجاجاً على واقع ظالم واندلاع
الثورات بعد تلك الحادثة واحدة تلو الأخرى، من بلد عربي لآخر؛ هل نحن أمام
منعطف جديد في تاريخ المنطقة سيفرز أنماطاً جديدة من المتَّحدات
الاجتماعية عبر تغيّر جوهر هذه المتَّحدات، أي الإنسان؟. تبدو الإجابة على
السؤال أكثر حيوية ربما إذا قرأنا الربيع العربي قراءة علمية تستند إلى
القوانين الاجتماعية التي تشكّل نظاماً عاماً تسير وفقه حركة المجتمعات في
تغيّرها وتطوّرها. و بالرغم من تميز الثورات بعفوية يصعب معها الحديث عن
"قوانين" قد يحقّ لنا التفكر بالثورات الاجتماعية/الشعبية التي اندلعت مع
إطلالة العام الجاري 2011 م انطلاقاً من قوانين اجتماعية ربما تقترب من
قوانين الطبيعة وتحاكيها على اعتبار أن ثمة حياة اجتماعية وحياة طبيعية/
وطبيعة بشرية وطبيعة طبيعية؛ وكما تعمِّد الحياة الطبيعية الزلازل
والبراكين والعواصف والرعود والكسوف والخسوف والمد والجزر..إلخ ضمن نظام
كوني دقيق كآلة رياضية ميكانيكية بحسب التعبير الديكارتي؛ تمهر كذلك
الحياة الاجتماعية الثورات والتمرّدات وصيرورات عدم ووجود .. إلخ طالما أن
فحوى الحياة الاجتماعية هم البشر كجزء من الطبيعة تنطبق عليهم نواميسها
مثلما تنطبق على بقية الموجودات؛ وحيث أنّ الضغط يولد الانفجار فيزيائياً
فإن الذات الإنسانية المقموعة تحت ركام من القهر ستحين اللحظة التي تنبثق
فيها الذات مدوية معلنة عن سخط إيجابي فعّال، رادة لنفسها الاعتبار
والوجود. هكذا يمكن للعقل استيعاب غضب شعوب المنطقة العربية العارم الذي
اجتاحها على هيئة ثورات ..!
أن يكون الإنسان جزءاً من الطبيعة تنطبق عليه نواميسها انطباقها على
الكائنات الأخرى؛ معناه أن ثمة ما يدفع المرء إلى تأمل الحياة الاجتماعية
بنفس الآليات التي يفكر من خلالها بالحياة الطبيعية، كون ما يشكِّل الحياة
الاجتماعية هو اجتماع إنسان بإنسان، والإنسان كائن حيوي يشترك مع الكائنات
الأخرى في الكثير من السمات الوجودية. هذا من جهة، ولكن ميزة وجود الإنسان
- من جهة أخرى- تكمن في كونه وجوداً معنوياً وحراً مختاراً في هذا العالم،
وفي كونه ظاهرة ثقافية، لغوية منعتقة من الطبيعة المحضة. هو كائن يتأثر
بالطبيعة ويؤثر فيها، وتكيفه معها لا يشبه بحال من الأحوال ذلك التكيّف
الذي تخضع له بقية الكائنات خضوعاً غرائزيّاً، فتكيّفه نابع من صميم
العقل، حتى أن الإرادة الإنسانية تجعل من الإنسان بفضل العقل كائناً
متكيّفاً مع كلّ البيئات بخلاف بقيّة الكائنات التي لا يمكنها التكيّف إلا
مع بيئة واحدة، بيئتها، والإنسان بعقله تكيّف مع البحر والفضاء والغابة
والصحراء ومع ذلك القطب المتجمِّد من الأرض….إلخ، وحسبنا أن نرجع إلى أقدم
الحضارات البشرية كي نتحقق من أن الإنسان ومنذ القِدَم سعى كي يتكيّف مع
الطبيعة عبر شعوره بأنها "لغز" يستدعي الحل، وأن نفسه " أحجية" تتطلّب
التفسير، هكذا كان الذكاء الإنساني يتكيّفَ مع الطبيعة كي يتجاوزها، فهو
لم يسايرها أبداً؛ لأن تكيّف الإنسان ككائن عاقل ينطوي على رفض الواقعة
المحضة، ونبذ التّصديق السّاذج. وعلى هذا، تساعدنا خاصية الإنسان في رفض
الواقعة المحضة في محاولة تفسير الحدث من خلالها.. حدث الربيع العربي
المتوهج بثورات حرية وكرامة وعدالة، ونقول محاولة للتفسير ليس إلا، نظراً
لصعوبة التفسير المنطقي مع ثورات عفوية لا تنطلق من مقدمات معينة لنصل
عبرها إلى نتائج مساوقة لها، منسجمة وإياها، فهي باختصار ثورات شعبية طرح
فيها الشارع الحرية كفعل. إن رفض الواقعة المحضة يعني رفض الإنسان التكيف
مع واقع لا يحقق فيه إنسانيته؛ هكذا تمرّدت شعوب العالم العربي في ربيعها
على واقع سياسي/ اقتصادي مزرٍ ومهين، الواقع الذي طالما فُرِض عليها على
أنه واقع محض و"أبدي"، وما عاد تكيفها مع ذلك الواقع إلا ضرباً من
المستحيل تؤطّره الرغبة في اقتلاع الاستبداد من جذوره، توقاً إلى
الديمقراطية حكماً وثقافة، الديمقراطية التي تعيد من خلال تعدديتها
الكرامة الإنسانية المهدورة في عالم الاستبداد المظلم والظالم.
حقاً إن ثقافة الاستبداد قد لا تنطفئ كلياً ودفعة واحدة، ولكن ما هو
مؤكد أن الاستبداد لن يعود إلى الشكل المستفحل الذي كان عليه قبل الثورات.
وبالمقابل، الديمقراطية ليست مسألة ناجزة أو قالباً جاهزاً، بل هي طريق
ومسار، وبمعنى آخر هي ثقافة تُبنى على مر الزمن عبر التربية وعبر الجهد
الحثيث؛ لذا يخطيء من يظن أن الديمقراطية تتحقق بين ليلة وضحاها، وعلى هذا
يمكن للمرء أن يتفهّم أن تظلّ رواسب الاستبداد موجودة حتى بعد سقوط
الديكتاتور، وأن تظلّ الدول تشهد أعمال عنف أو فساد أو غير ذلك كما جرى في
المرحلة الانتقالية في تونس ومصر (مثلاً)، وحسبنا أن نعود للتاريخ لندرك
أن أوروبة مرَّت بفاصل وحشي بعد ثوراتها قبل أن تتحول إلى الديمقراطية،
وأن الثورة الفرنسية ظلت مستمرة عشر سنوات (1789-1799). كما أن العقل ربما
يقع في خطأ معرفي حين يظن أن عصر الرق قد ولى بمجرد تأجج ثورة (ربيع
الشعوب) 1848م؛ فالربيع العربي باشتعاله ليطفيء جذوة الاستبداد أكد
استمرار النضال الإنساني ضد العبودية التي مازالت موجودة بأشكال متعددة،
مثلما أكد أن الديمقراطية هي بالمحصلة مكابدة ومجاهدة .. سير شاق ولا يمكن
تحصيلها من الغير.
وبالعودة إلى السؤال المطروح آنفاً حول إنتاج ثورات الربيع العربي
لأنماط جديدة من المتَّحدات، يمكن القول إن التحوّل في المجتمعات قد يكون
بطيئاً، تدريجياً، وقد يكون فجائياً "حدَثاً" كحَدَث الربيع العربي الذي
يشي بإنتاج أنماط جديدة من المجتمعات طالما أن من يشكّلها، أي الإنسان
باجتماعه مع الإنسان قد تغيَّر عبر ثورة هي ليست فقط على واقع موضوعي، بل
أيضاً على الذات، الذات التوّاقة إلى الانعتاق من الأصنام (السلطات)، ولعل
أكثر الأصنام مأساوية ورغبة في التحرر منها هو صنم "الخوف"، لذا يبدو
التقهقر، أي العودة إلى زمن ما قبل اندلاع الثورات، عودة تناقض قوانين
الحياة الاجتماعية والطبيعية التي خضنا فيها أعلاه. فالقوانين التي تحكم
المجتمعات البشرية تقتضي - كما قوانين الطبيعة- التطور والارتقاء الدائم
بحيث يكون البقاء للأصلح والأقوى بالمعنى الدارويني للعبارة، ومما لا شك
فيه، وما دلل ويدلل عليه الواقع أن الأصلح والأقوى في الصراع بين الشعوب
والديكتاتوريات العربية هو الشعوب الطامحة للارتقاء بإنسانيتها من خلال
ولوج عصر جديد، هو عصر الديمقراطية والمدنية واحترام حقوق الإنسان..
الإنسان المفتوح على ارتقاء لا متناه، فكل نهاية مرحلة مستعدة لتكون بداية
لأخرى، ويبدو هذا التحليل أقرب إلى المؤرخ وعالم الاجتماع ابن خلدون
(1332- 1406م) في قوله: "واتسع عالم الحيوان وتعددت أنواعه وانتهى في
تدريج التكوين إلى الإنسان". والمفارَقة هنا في تحليلنا، هي أن نزوع
الشعوب الثائرة إلى الارتقاء بإنسانيتها يقابله نكوص لدى أنظمة الحكم
باتجاه بدائية حيوانية غرائزية بحتة، تجلى هذا النكوص في الممارسات
الوحشية البربرية التي قامت بها الأنظمة ضد شعوبها..! إذن: لا نبالغ في
القول إن الربيع العربي يؤسِّس لأول أفق إنسان جديد وعصر جديد ومجتمع جديد
متصل بآخر أفق إنسان قديم وعصر قديم ومجتمع قديم كان يحمل بين تضاعيفه كل
بذور تحوِّله.
وكواحدة من ثورات الربيع نفسه اندلعت الثورة السورية ممهورة بالحرية
والكرامة والعدالة. ورغم التشابه الكبير الذي ضمَّ ثورات الربيع العربي في
باقة واحدة، من حيث هي ثورات على الاستبداد وغياب العدالة، ومن حيث أن كل
شعوب المنطقة العربية عانت من التهميش والإقصاء وكانت خارج التاريخ
والزمن، تبقى هناك اختلافات بين ثورة وأخرى في الحيثيات الخاصة بكل دولة
وبمكونات كل شعب، فسوريا مثلاً بلد متنوع الطوائف والقوميات ونسيجه
الاجتماعي متعدد الأشكال والألوان، كما أن الموقع الجغرافي لكل دولة أو
الشعارات والسياسات التي يتبناها النظام الحاكم في هذه الدولة أو تلك،
بالإضافة إلى التحالفات والارتباطات المصلحية لكل نظام إقليمياً ودولياً،
كل ذلك وأكثر جعل لكل ثورة خصوصيتها.
ولعل خصوصية الثورة السورية المتأجِّجة منذ أواسط الشهر الثالث من
العام الجاري، والتي كانت شرارتها مجموعة من الأطفال في محافظة درعا جنوب
سوريا كتبوا على جدران مدرستهم عبارات تحمل معاني التحرر من النظام
المستبد، فاعتقِلوا وعُذبوا واقتلِعَت أظفارهم، لعل خصوصية هذه الثورة
تتأتى من كونها ثورة محاطة بالأعداء من كل حدب وصوب، فقد مرت على الثورة
للآن تسعة أشهر تقريباً ومازال الشعب السوري وحيداً يواجه أعتى
الديكتاتوريات.
وباستثناء البعض من شرفاء الجيش العربي السوري الذين
لم يوافقوا على قتل الشعب الأعزل فانشقوا عن الجيش العقائدي الموالي لسلطة
البعث الحاكمة منذ أكثر من أربعين عاماً، باستثناء هؤلاء (الجيش الحر)،
خاض الجيش العربي السوري ويخوض حرباً حقيقية ضد الشعب الثائر المطالب
بمطالب محقّة ومشروعة؛ فيما وقف الجيش الوطني في مصر (مثلاً) على الحياد،
لا بل قام بحماية الثورة - بغض النظر عن المشكلات التي واجهها الشعب
المصري مع المجلس العسكري الذي تولى قيادة المرحلة الانتقالية بعد سقوط
محمد حسني مبارك -. وحيث أن نظام القذافي في ليبيا شهد استقالات كبيرة
ومهمة لسفراء و وزراء حين اندلعت الثورة الليبية، فإن النظام في سوريا
يبدو أنه مركَّب بطريقة لا تسمح بمثل هذا النوع من الاستقالات كونه سلسلة
محكمة الترابط بخيط واحد - إن جاز التعبير- وإذا اختفت حلقة واحدة في هذه
السلسلة انفرط العقد.. العقد الذي أجاد صنعه سيّد البلاد السابق، الراحل
حافظ الأسد بحيث تنتهي كل تفاصيل الدولة عنده، وعنده فقط. وهذا هو النظام
الذي ظل معمولاً به بعد وفاته حين ورث الحكم ابنه بشار الأسد بعد أن
عُدِّل الدستور خلال خمس دقائق ليناسب عمره.
وكان غياب الإعلام الحر المستقل هو ما يعمّق من خصوصية الثورة السورية
ويجعلها أكثر مشقّة، ما دفع الشعب الثائر إلى توثيق ثورته بنفسه وإيصالها
للعالم، فكان صانعاً مبدعاً لإعلامه الخاص، وفي كل فيديو يُحمَّل على النت
كان الناشطون لا يكشفون عبر هاتف نقال صغير وربما ضئيل الجودة، لا يكشفون
فقط جرائم وفظائع ومجازر يومية ممنهجة ترقى إلى جرائم ضد الإنسانية
يرتكبها النظام من خلال الجيش والأمن وميليشيات حكومية (الشبيحة) ضد
المتظاهرين السلميين والنشطاء السياسيين؛ بل كانوا أيضاً عبر هذا العمل
الإعلامي الإبداعي الجبّار يكشفون وجه ثورة تعمِّدها كرنفالات الرقص
والغناء والطبول وأغصان الزيتون وطيور الحمام، كما تجللها شعارات الأخوّة
والمحبة والتسامح ونبذ العنف والطائفية عبر مظاهرات أسّها الأطفال والنساء
والشباب والشيوخ أيضاً. وفي هذا الشّقّ الإعلامي يبرز جليّاً إبداع الشعب
السوري المناضل من أجل الحرية والكرامة، فحتى في اليمن ذلك البلد الفقير
المنكوب والمحكوم أيضاً منذ ثلاثين عاماً بنظام شمولي، نظام علي عبد الله
صالح المستبد، حتى في ذلك البلد يوجد إعلام حر يصور وينقل للعالم ما يجري
في الثورة اليمنية، بينما في سوريا لا يوجد سوى إعلام موال للسلطة جملة
وتفصيلاً، ولا يكفّ منذ اليوم الأول لاندلاع الثورة عن تشويهها بروايات عن
"مؤامرات خارجية" و"إرهابيين أوصوليين" و"عصابات مسلحة" تهدّد أمن
واستقرار بلد "الصمود والتصدي، والمقاومة والممانعة"، البلد المحكوم بقبضة
أمنية حديدية تمسك بكل مفاصله؛ والحق أقول إنه لو لم يكن بين أيدي الثوار
تكنولوجيا حديثة لما استمرت الثورة..! فنحن - مثلاً- للآن لا نعرف بالضبط
ما الذي جرى في الثمانينات من القرن المنصرم حين وقعت مجزرة حماة نتيجة
للتعتيم الإعلامي آنذاك. إن الفضح الإعلامي الذي مارسه الثوار يومياً من
دون كلل أو ملل كـ"صحفيين" ميدانيين ساهم في هزِّ الضمير العالمي، أو لنكن
أكثر دقة ساهم في كسب تعاطف كل (شعوب) العالم، والغريب العجيب هو اجتماع
متناقضين لا يمكن أن يجتمعا، أي التقاء كل من إيران وإسرائيل عند نقطة
بقاء النظام السوري، النظام الممانع لإسرائيل من فوق الطاولة الضامن
لاستقرارها من تحتها..إلخ .
ولأول مرة في تاريخه المعاصر يجد السوري نفسه ذلك الكائن المدني
السياسي بالطبع الذي تحدث عنه أرسطو قديماً. فـ(التنسيقيات) الميدانية
التي ولدتها الثورة هي بمثابة نواة مجتمع مدني "حقيقي" على الأرض، وستكون
له فاعلية كبرى ربما، أي المجتمع المدني، في سوريا الجديدة نظراً لتطلّع
السوريين الذين ثاروا على دولة البعث البوليسية الأمنية التي تحتقر
الإنسان، إلى دولة مدنية ديمقراطية تعددية تتعاطى مع "الإنسان" طفلاً
وامرأة ورجلاً كأولوية، وتنتعش فيها مؤسسات ونقابات المجتمع المدني فكراً
وعملاً.
إن غياب الإعلام الحر المستقل رافقه غياب المنظمات الحقوقية الدولية
للوقوف عند ما يجري على الأرض، ورغم كل المناشدات وكل الجهود والمبادرات
الرّامية إلى حث السلطة السورية على السماح بدخول إعلام حر ومراقبين
حقوقيين وصحفيين؛ منعت السلطة دخول أي نوع من أنواع الرقابة أو الإعلام
الحر إلى سوريا، واستمرت في أعمال العنف الوحشية مستفردة بالشعب الأعزل
قتلاً وتنكيلاً واعتقالاً ونهباً..، مصرِّة على إجهاض ثورته والعودة
بالبلاد إلى زمن لا يعود. في حين أن دولة كالبحرين على سبيل المثال، سمحت
- رغم كل ما جرى فيها من أحداث دموية ومظاهرات شعبية تم التعاطي معها بعنف
مفرط- سمحت بدخول لجان دولية حقوقية كشفت عن انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان
ووثقتها، وقد احترم ملك البحرين ما خلصت إليه اللجان وتوعّد بمحاسبة
الجناة.
إن العقل ليقف حائراً مندهشاً أمام استمرار وتجذر ثورة شعبية سلمية لا
يقمعها جيش كامل العدة والعتاد فحسب، ولا أجهزة أمنية متعددة وميليشيات
حكومية (شبيحة) فحسب، بل تشارك في قمعها أيضاً عناصر مستقدَمة من الحرس
الثوري الإيراني، وعناصر تابعة لمقتدى الصدر في العراق، وأخرى تابعة لحزب
الله في لبنان (وذلك بحسب روايات شهود عيان، وهو ما تحدث عنه معارضون
ووثقه ناشطون). فأي إرادة وإيمان عظيم بالحرية ذلك الذي يلهم السوريين
الصبر والثبات؟!
وبالإضافة إلى كل ما سبق ذكره كان تشرذم (المعارضة التقليدية) أفراداً
وأحزاباً وتشتتها، وعدم تمكنها خلال شهور طويلة من اندلاع الثورة من وضع
برنامج سياسي موحد يقود الثورة ويساعدها على النجاح، كان كل ذلك يمنح
للثورة السورية خصوصية مذهلة وفرادة تجعلها الأهم بين ثورات العالم العربي
وأكثرها دموية ومأساوية، وبنفس التوقيت أعظمها إبداعاً فالحاجة على ما
يبدو هي أم الاختراع بالفعل..! وحاجة السوريين إلى كل شيء بدءاً من تعطشهم
للحرية وليس انتهاء بتوقهم للخلاص من بطش نظام مرعب؛ جعلتهم مبدعين
لمفاهيم عدل وتسامح تستحق الدراسات الجدية عنها والأبحاث المطولة ليس فقط
كونها ثورة محددة تاريخياً وجغرافياً؛ بل أيضاً كونها ثورة تنبثق عنها
مفاهيم حضارية وأخلاقية على صعيد إنساني عالمي، حتى أنه يمكن القول إن روح
الربيع العربي، وبالأخص الثورة السورية قد طالت العالم أجمع، مشجعة شعوب
العالم كي تحتج بالكلمة في شوارع دولها حين يكون لديها مطالب عادلة، وحين
تريد تغيير أي نظام، فشعار "الشعب يريد إسقاط النظام" الذي أبدعته الشعوب
في ربيعها العربي ردده محتجون من قلب "نيويورك". تستحق الثورة السورية
الانحناء الإنساني أمامها فقد أفشلت كل محاولات النظام لجرّها للاقتتال
الطائفي أو الأهلي، أو لجرّها للعنف والتسلّح، وبغض النظر عن الحوادث
الفردية هنا وهناك التي تم فيها استخدام السلاح دفاعاً عن النفس؛ ظلت
الناس تواجه الدبابة والمدفع والرشاش بالكلمة الثائرة، ولا شيء غير الكلمة
الثائرة ..!
ولئن كان الطريق إلى سوريا العدالة والكرامة معبداً بالدم والأشلاء؛
فإنه من الأهمية بمكان أن تكون المرحلة الانتقالية بعد سقوط نظام البعث
مرحلة "كنس وتنظيف" ومصالحة، أي أن لا يكون تكريم قتلى الحرية والكرامة
فقط عبر إطلاق صفة "الشهادة" عليهم، فهم لهم حقوق أيضاً، وهذه الحقوق
تتجلى في إنصاف عائلات الشهداء والأسر المنكوبة بتعويضهم مادياً ومعنوياً.
هذا بالإضافة إلى أن المصالحة لن تكون مصالحة حقيقية تكرّس التسامح في
المجتمع السوري الجديد وتمنع حدوث عمليات انتقامية من دون تحقق العدالة،
أي المحاكمة القانونية العادلة لكل من تلوثت يداه بالدماء، ومحاسبة
الفاسدين الذين نهبوا المال العام وعاثوا فساداً في الأرض السورية. أظن أن
مثل هذه التفاصيل وغيرها من تفاصيل المرحلة الانتقالية تكون أهم ما يجب
الاشتغال عليه قبل البدء في خط دستور جديد للبلاد وإجراء انتخابات حرة
ونزيهة وما إلى ذلك. كما أنه لا بد من الاستعداد لكل الاحتمالات، وخصوصاً
احتمالات اختطاف الثورة وتحويل مسارها باتجاه مغاير للاتجاه المدني
الديمقراطي الذي اندلعت لأجله، كأن يُمارَس الإقصاء عن السياسة كشأن عام
مجدداً، فسقوط البنيان البوليسي الأمني الاستخباراتي واقعاً؛ لا يعني
بالضرورة سقوطه ذهناً. فالذهنية المتجذّرة تحتاج إلى فترة أطول كي تنجلي.
هناك الكثير من الاحتمالات التي قد تواجه السوريين في مرحلتهم
الانتقالية، ولكن بعيداً عن منطقي التشاؤم والتفاؤل تبقى الثقة بوعي الشعب
السوري الذي أثبت في ثورته أنه محبّ عظيم للحياة والسلام ، ومناضل من أجل
دولة الحقوق، حيث التداول السلمي للسلطة، وحيث اللاتهميش واللاتمييز
والمساواة بين الناس في الحقوق والواجبات، وإطلاق الحريات واحترام الرأي
والتشجيع على التعبير، وسواد القانون ولا شيء غير القانون، تبقى الثقة
بهذا الشعب في مواجهة كل الاحتمالات هي الأهم، الشعب الذي ما انفكّ منذ
اليوم الأول لاندلاع احتجاجاته السلمية يردد (الموت ولا المذلة، والشعب
السوري ما بينذل)؛ وما الثورة السورية إلا ثورة ولادة إنسان سوري جديد..
إنسان حر رافض للعبودية والاستعباد.
*كاتبة سوريّة
أعلى النموذج
علا شيب الدينملاحظة
: هذه المادة مرسلة إلى المجلة منذ شهرين أو أكثر، ولم يكن النظام السوري
قد سمح بعد للمراقبين العرب بالدخول إلى سوريا. لماذا أشير إلى هذه
الملاحظة؟ سيعرف الأصدقاء ذلك أثناء القراءة
المصدر : . . مجلة المشكاة