بقلم : . . توم بالمر
أساطير الفردانية
توم بالمر*
لقد تأكد مؤخراً أن مؤيدي مذهب الحرية، أو الليبراليين الكلاسيكيين،
يعتقدون بأن ”الأفراد يتشكلون او يُصنََّعون بشكل تام وأن تفضيلاتهم
القيمية تكون في موضع أولوية على أي مجتمع وخارج نطاقه.“ ”لقد تجاهلوا
الدليل العلمي القاطع حول التأثيرات السلبية للانعزال،“ والأكثر غرابة من
ذلك ”إنهم يعارضون بشدة فكرة ”القيم المشتركة“ أو فكرة ”المصلحة العامة.“"
إنني اقتبس هنا من الخطاب الرئاسي الذي ألقاه البروفسور أميتاي إتزيوني
عام 1995 في الجمعية الأمريكية السوسيولوجية (مجلة أمريكان سوسيولوجكال
رفيو، شباط 1996). حظي البروفسور إتزيوني، بوصفه ضيفاً دائماً في البرامج
الحوارية التلفازية ومحرراً لصحيفة ذي رسبونسف كوميونتي، بشهرة واسعة بين
أوساط الجماهير لكونه مروّجاً لحركة سياسية تدعى الاجتماعياتية.
وقلما كان إتزيوني يقوم بمفرده بمثل هذه الاتهامات. فقد جاءت من
اليمين ومن اليسار على حد سواء. فمن اليسار، ذهب السيد إي. جي. دونيه،
كاتب عمود صحفي في الواشنطن بوست في كتابه ”لماذا يكره الأمريكان
السياسة؟“إلى أن الشعبية المتزايدة للقضية الليبرالية اقترحت ان العديد من
الأمريكيين أقلعوا حتى عن إمكانية حصول ”المصلحة العامة“، وفي مقال حديث
في مجلة الواشنطن بوست ذكر ان ”التأكيد الليبرالي على الأفراد الأحرار
يبدو وكأنه يفترض ان الأفراد يأتون إلى هذا العالم وهم بالغون كاملون
ويمكن اعتبارهم مسؤولين عن تصرفاتهم منذ لحظة الميلاد.“ ومن اليمين، ادعى
الراحل راسل كيرك في مقال لاذع له تحت عنوان ”مؤيدي مذهب الحرية: سقسقة
الطائفيين“، بأن ”الليبراليين الخالدين، مثلهم مثل إبليس، لا يطيقون أية
سلطة، دنيوية كانت أم روحية.“ وبأن ”الليبرالي لا يقدس المعتقدات والأعراف
القديمة، أو العالم الطبيعي، أو وطنه أو الشعلة السرمدية الكامنة في ابناء
جلدته.“
وبأدب أكثر، شجب السيناتور دان كوتس (من انديانا) وديفيد بروكس من
مجلة ويكلي ستاندرد معتنقي الليبرالية على تجاهلهم المزعوم لقيمة المجتمع،
إذ كتب كوتس مدافعاً عن مقترحه باتباع المزيد من البرامج الفيدرالية
”لإعادة بناء“ المجتمع، أن ”مقترحه محافظ وواعٍ، ليس ليبرالياً صرفاً. وهو
يميز إسهامات المجموعات –ليس الأفراد فقط– في إعادة بناء البنى التحتية
الاجتماعية والأخلاقية لمناطق سكناهم.“
لم يتم تثبيت مثل هذه الاتهامات التي كثيراً ما كررها المعارضون للمثل
الليبرالية التقليدية من خلال اقتباسات من الليبراليين التقليديين، كما لم
يتم تقديم أي دليل ليثبت ان هؤلاء الذين يفضلون الحرية الفردية والحكومة
الدستورية المحدودة الصلاحيات، يعتقدون بما جاء في اتهامات إتزيوني
وأتباعه. إن الاتهامات غير المعقولة والتي غالباً ما تكون مصنعة مفبركة
وغير مثبتة يمكن أن يتم التسليم بها على أنها حقائق، لذلك من الضروري
محاسبة إتزيوني ونقاد أخرين من الاجتماعياتيين للحرية الفردية، على ما
تسببوا به من التشويهات والتحريفات.
الفردانية الذرية
دعونا نفحص الحجة الواهية ”للفردانية الذرية“ التي وضعها إتزيوني
وديون وكيرك وآخرون. لقد قام النقاد الاجتماعياتيون بالتأسيس للاتهامات
الموجهة ضد الليبرالية التقليدية، مثل الفيلسوف تشارلز تيلور والعالم
السياسي مايكل ساندل فوضعوا الأصول الفلسفية للاتهام وبدأوا به. على سبيل
المثال، يدّعي تيلور أنه بسبب إيمان مؤيدي مذهب الحرية بالحقوق الفردية
ومبادئ العدالة التجريدية، ”فإنهم يؤمنون بالاكتفاء الذاتي للإنسان، أو
الفرد – إن اعجبك ذلك.“ إن هذا تحديث للهجوم القديم على الليبرالية
التقليدية الفردية، الذي بموجبه افترض الليبراليون التقليديون أن ”الفرد
المجرد“ أساس لوجهات نظرهم حول العدالة.
ليست هذه الإدعاءات سوى محض ترهات لا معنى لها. فلا أحد يؤمن فعلياً
بوجود ”الفرد المجرد“، لأن جميع الأفراد يمتلكون بالضرورة وجوداً مادياً.
ولا يمكن ان يكون ”إكتفاء ذاتياً“ حقيقياً للأفراد، وهذا ما يدركه أي قارئ
لكتاب غنى الأمم. بالعكس، فإن الليبراليين التقليديين والمؤيدين لمبدأ
الحرية يذهبون الى أن نظام العدالة يجب أن يتجرد من الخصائص أو الصفات
المادية للأفراد. وعليه، فعندما يقف الفرد أمام المحكمة، فإن ارتفاعه
ولونه وثروته ومنزلته الاجتماعية وديانته ليس لها علاقة بقضية العدالة.
وهذا ما تعنيه المساواة أمام القانون، فهي لا تعني أن لا أحد يمتلك فعلاً
ارتفاعاً أو لون بشرة أو معتقدات دينية محددة. إن التجريدية هي عملية
عقلية نستخدمها عندما نحاول أن نميز ما هو ضروري أو ذا صلة بالمشكلة، وهي
لا تتطلب اعتقاد بالكيانات التجريدية.
إن السبب الدقيق وراء الحاجة إلى التعاون كضرورة لبقاء الإنسان
وازدهاره هو عدم قدرة الأفراد أو المجموعات الصغيرة على الاكتفاء الذاتي
بشكل كامل. ولأن هذا التعاون يحدث بين أفراد لا حصر لهم ولا يعرفون بعضهم
البعض، فان القوانين التي تحكم ذلك التفاعل هي تجريدية بطبيعتها. إن
القوانين التجريدية التي تحدد سابقاً ما يمكن أن نتوقعه من بعضنا البعض
تجعل التعاون ممكناً على نطاق واسع.
لا يمكن لشخص عاقل أن يعتقد بأن الأفراد قد يتشكلون بشكل كامل خارج
مجتمعهم وبمعزل عنه. فان اعتقد بذلك، فهذا يعني أن ليس بمقدور أحد أن يكون
له والدان أو أبناء عم أو أصدقاء أو مثل أعلى أو حتى جيران. فمن الواضح أن
كلاً منا متأثر بمن حوله. إن ما يؤكده مؤيدو مذهب الحرية هو أن الفروقات
بين البالغين الطبيعيين لا تقتضي وجود اختلاف في الحقوق الأساسية.
مصادر الالتزامات وحدودها
ليس مذهب الدفاع عن الحرية بالأساس نظرية تجريدية حول أولوية الأفراد
على حساب الأشياء المجردة أقل من كونه نظرية سطحية عن ”الأفراد المجردين“،
كما أنه ليس رفضاً أو شذوذاً عن التقاليد، كما اتهمه كيرك وبعض المحافظين.
بل إنه نظرية سياسية انبثقت استجابةً للنمو غير المحدود لسلطة الدولة.
يستمد مذهب الدفاع عن الحرية قوته من اندماج قوي للنظرية المعيارية
الأخلاقية والمصادر السياسية وحدود الالتزامات والنظرية الإيجابية الموضحة
لمصادر النظام. إن كل شخص له الحق في أن يكون حراً. والأشخاص الأحرار
يستطيعون أن ينتجوا النظام بتلقائية. من غير قوة آمرة عليهم.
وماذا عن وصف ”ديونيه“ اللامعقول لمبدأ الدفاع عن الحرية الذي ذكر
فيه: ”أن الأفراد يجيئون إلى هذا العالم كبالغين كاملين، ويعتبرون مسؤولين
عن أفعالهم منذ لحظة ولادتهم“؟ يميز الليبراليون الكلاسيكيون الفرق بين
البالغين والأطفال، وكذلك الفروقات بين البالغين العاقلين والبالغين
المجانين أو المعاقين أو المتخلفين عقلياً. إن وجود الأوصياء شيء ضروري
للأطفال وللبالغين غير الطبيعيين؛ لأنهم غير قادرين على اتخاذ قرارات
مسؤولة بأنفسهم. لكن لا يوجد هناك أي سبب واضح لجعل بعض البالغين العاقلين
يمتلكون سلطة اتخاذ القرارات بالنيابة عن بالغين عاقلين آخرين، كما يعتقد
اليساريون واليمينيون المؤيدون للسلطة الأبوية على حد سواء. يذهب
الليبراليون الكلاسيكيون إلى أنه ليس لأي بالغ عاقل الحق في فرض الخيارات
على بالغين عاقلين إلا في ظروف غير طبيعية، مثلما يحدث عندما يجد شخص ما
شخصاً فاقداً لوعيه فيقدم له المساعدة الطبية أو يتصل بسيارة الإسعاف.
إن ما يميز مذهب الليبرالية الكلاسيكية عن غيرها من وجهات النظر
الأخلاقية السياسية هو نظريتها في الالتزامات القابلة للفرض. فبعض
الالتزامات لا تفرض عادة بالقوة، مثل كتابة رسالة شكر للمضيف بعد حفلة
عشاء، لكن في بعض الحالات أخرى، كالالتزام بعدم توجيه لكمة في الوجه لناقد
غير مرغوب فيه، أو الالتزام بدفع ثمن زوج من الأحذية قبل ان تأخذها وتخرج
من المحل، فتعتبر الالتزامات واجبةً هنا. يمكن للالتزامات أن تكون عامة أو
خاصة. ان لدى الأفراد –مهما كانوا أو أينما كانوا، ما عدا في بعض الحالات
الاستثنائية – واجبات مفروضة عليهم تجاه الآخرين وهي: أن لا يسببوا لهم
الأذى في حياتهم أو حرياتهم أو صحتهم أو ممتلكاتهم. وعلى حد تعبير جون
لوك: ”لأن الناس جميعهم متساوون ومستقلون، لا يحق لأي كان أن يلحق الأذى
بحياة الآخرين أو صحتهم أو حريتهم أو ممتلكاتهم“. يتمتع كل الأفراد بحق
عدم التعرض للأذى من قبل الآخرين في تمتعهم بهذه الأشياء. إن هذه الحقوق
والواجبات مترابطة فيما بينها، ولأنها عامة و“سلبية“ في خصائصها، فإنها
تحت ظروف معينة تسمح بأن يتمتع بها الجميع وفي نفس الوقت. ان الأساس الذي
تستند اليه النظرة الليبرالية الكلاسيكية هي القاعدة العامة التي توصي
بحقوق الإنسان وعدم جواز قتلهم أو جرحهم أو سلبهم. ولا يجب افتراض وجود
”شخص مجرد“ لتأكيد ذلك الحق. إن السبب الذي يجعل الليبرالي الكلاسيكي
يدافع عن حقوق الفرد هو احترامه وليس ازدراؤه للـ“ شعلة المتقدة في ابناء
جلدته.“
تعتبر هذه الالتزامات عامة وشاملة ولكن ماذا عن الالتزامات ”الخاصة“؟
وانا أكتب هذه السطور، جالساً في مقهى وقد طلبت لتوّي فنجاناً آخراً من
القهوة. لقد قمت بملء حريتي بتحمل التزام معين لدفع ثمن القهوة: لقد نقلت
بعضاً من حق ملكيتي لمبلغ معين من المال لصاحبة المقهى، وقد نقلت هي
بدورها حقها في ملكية فنجان القهوة لي. يذهب الليبراليون الكلاسيكيون إلى
أن الالتزامات الخاصة، تحت الظروف الطبيعية على أقل تقدير، يجب أن تتم
بالموافقة أو القبول، ولا يمكن فرضها من جانب واحد عن طريق الآخرين. إن
المساواة في الحقوق تعني أنه لا يحق لبعض الناس فرض الالتزامات على
الآخرين بكل بساطة، لأنهم بذلك ينتهكون الأسس الأخلاقية كما ينتهكون حقوق
الآخرين أيضاً. من ناحية أخرى، يذهب الاجتماعياتيون إلى أننا نولد جميعاً
بالتزامات معينة كثيرة، مثل إعطاء هذا الكيان من الاشخاص -الذي يطلق عليه
الدولة أو بشكل أكثر غموضاً الأمة أو المجتمع أو الناس- الكثير من المال
والكثير من الطاعة أو حتى حياة المرء. و يذهب الاجتماعياتيون الى أن مثل
هذه الالتزامات يمكن ان تُفرض بالقوة. في الحقيقة، ووفقاً للاجتماعياتيين
أمثال تيلور وساندل، فإنني أُعتبر فرداً مُشَكّلاً ليس بواسطة حقائق نشأتي
وتجاربي فحسب، بل بواسطة مجموعة الالتزامات المعينة المفروضة عليّ.
أعود وأكرر، يدعي الاجتماعياتيون أننا كأشخاص مُشكلين من خلال
التزاماتنا المعينة، ولهذا لا يمكن لتلك الالتزامات أن تكون أمراً
اختيارياً. مع ذلك، فإن هذا محض تأكيد ولا يمكنه أن يكون بديلاً عن
مناقشةٍ او جدل يذهب الى أن الفرد مقيد بالتزامات نحو الآخرين؛ وهي ليست
تبريراً للقسر أو الإجبار. قد يتساءل المرء –وهو محقٌ في تساؤله- إذا ولد
الفرد مقيداً بالتزامات لإطاعة الأوامر، فمن هو الذي ولد ممتلكاً للحق في
إصدار الأوامر؟ إذا ما أراد أحد ما نظرية التزام مترابطة، فلا بد أن يكون
هناك أحد ما، فرد أو مجموعة أفراد، عليه او عليهم حق تنفيذ الالتزام. إذا
ما كنت فرداً مُشكّلاً بواسطة التزامي بالطاعة، إذاً فمن الذي يُشكَّل
كشخص له حق الطاعة؟ ان مثل هذه النظرية في الطاعة، يمكن أن تكون مرتبطة
بعصر الملوك-الآلهة، ولكنها تبدو بالأحرى في غير مكانها في نطاق العالم
الحديث. وخلاصة القول، لا يوجد شخص عاقل يمكنه تصديق فكرة وجود أفراد
مجردين، والخلاف الحقيقي ما بين الليبراليين الكلاسيكيين والاجتماعياتيين
هو ليس حول الفردانية بحد ذاتها، بل حول مصدر الالتزامات المعينة، إن كانت
إلزامية أو اختيارية.
المجموعات والمصالح العامة
إن نظرية الالتزام التي تركز على الأفراد، لا تعني بأنه لا يوجد ”شيء“
مثل المجتمع، أو أنه ليس بإمكاننا أن نتحدث عن مجموعات لها معنى. فحقيقة
وجود الأشجار المنفصلة لا تعني بأنه لا يمكننا التحدث عن وجود غابات.
المجتمع ليس مجرد مجموعة من الأفراد، ولا هو شيء ”أكبر أو أحسن“ منفصلاً
عنهم. وكما ان المبنى ليس مجرد مجموعة من الطابوق، بل هو طابوق وعلاقات
فيما بين طابوقة واخرى، كذلك المجتمع فهو ليس عبارة عن فرد مع حقوقه، بل
العديد من الأفراد مع مجموعة من العلاقات المعقدة فيما بينهم.
من شأن لحظة من التفكير أن توضح بأن ادعاءات الليبراليين الكلاسيكيين
يرفضون ”القيم المشتركة“ و“المصلحة العامة“ على أنها ادعاءات غير مترابطة.
إذا ما تقاسم الليبراليون الكلاسيكيون قيمة الحرية (في الحد الأدنى) فإنهم
لن يستطيعوا ”معارضة فكرة القيم المشتركة“، وإذا آمنوا بأننا جميعاً سنكون
في حال افضل إذا ما تمتعنا بالحرية، عندها لا يمكن أن يكونوا قد ”تخلّوا
عن إمكانية تحقق المصلحة العامة“، لأن الجزء الرئيسي من جهودهم ينصب على
التأكيد على معنى المصلحة العامة! ورداً على إدعاء كيرك بأن الليبراليين
الكلاسيكيين يعارضون العرف، دعوني أشير إلى أن الليبراليين الكلاسيكيين
يدافعون عن أعراف الحرية، والتي تعتبر ثمرة تاريخ إنساني يمتد إلى آلاف
السنين. إضافة إلى ذلك، فان التقليدية الصرفة ليست متماسكة، لأن التقاليد
أو الأعراف لا يمكن أن تصطدم ببعضها البعض، وبعد ذاك لن يكون للفرد ثمة
مرشد للأداء الصحيح. وعموماً، إن القول الذي يدّعي بأن الليبراليين
الكلاسيكيين ”يعارضون التقاليد“ يعد قولاً غير معقول ومنافٍ للذوق. إذ أن
الليبراليين الكلاسيكيين يتبعون التقاليد الدينية، والعادات العائلية،
والتقاليد العرقية، والتقاليد الاجتماعية كالمجاملات واحترام الآخرين،
وغيرها من الامور التي لا أخالها تندرج ضمن التقاليد من منظار كيرك بكل
تأكيد.
إن قضية الليبراليين الكلاسيكيين للدفاع عن الحرية الشخصية، والتي
شوهها النقّاد الاجتماعياتيين، هي قضية بسيطة ومعقولة. من الواضح أن
الأفراد المختلفين يحتاجون إلى أشياء مختلفة ليعيشوا بسلامة وصحة وفضيلة.
وعلى الرغم من طبيعتهم المشتركة، إلا أن الناس يتميزون ويختلفون عددياً
ومادياً، فلدينا احتياجات مختلفة، إذن، إلى أي حد يمكن للمصلحة العامة أن
تتسع؟
أكد كارل ماركس، وهو ناقد اجتماعياتي لاذع لمذهب الليبراليين
الكلاسيكيين، بأن المجتمع المدني مُرتكز على ”تفكك الإنسان“ بحيث أن ذلك
الإنسان ”بجوهره لم يعد في المجتمع بل في اختلاف“، وعلى العكس من ذلك،
فحسب الاشتراكية، يمكن للفرد أن يتعرف على طبيعته ”كنوع احيائي“. ونتيجة
لذلك، يؤمن الاشتراكيون بأن التدبير الجمعي لكل شيء امر مناسب، ففي الحالة
الاشتراكية الحقيقية، يمكننا أن نستمتع بنفس المصلحة العامة، ولا يمكن
للصراع أن يتواجد. أما الاجتماعياتيون فهم أكثر حذراً، ولكن بالرغم من
كثرة كلامهم، نادراً ما أخبرونا عن ماهية مصلحتنا العامة. فالفيلسوف
الاجتماعياتي ألاسدير ماكينتاير، على سبيل المثال، أصر في 219 صفحة في
كتابه المؤثر ”ما بعد الفضيلة“، أن هناك ”حياة جيدة للإنسان“ يجب أن تكون
مطلوبة جماعياً، بعدها وعلى نحو هزيل، ختم قائلاً بأن ”الحياة الجيدة
للإنسان هي الحياة المُستغلة في البحث عن حياة جيدة للإنسان.“
هناك إدعاء مألوف بأن توفير ضمان التقاعد من خلال الدولة يعتبر عنصراً
للمصلحة العامة، فهذا ”يجمعنا جميعاً سوية“. ولكن من هو المشمول ”جميعاً
سوية“؟ تشير الإحصائيات التأمينية على أن الذكور الامريكيين من أصول
إفريقية (الامريكيون السود) والذين قاموا بدفع نفس الضرائب لنظام الضمان
الاجتماعي كما دفعها الذكور البيض من خلال حياتهم المهنية يحصلون بالنهاية
ما يعادل النصف. إضافةً إلى ذلك، يموت ذكور سود أكثر من البيض قبل أن
يستلموا قرشاً واحداً، وهذا يعني بأن كل نقودهم قد صُرفت من أجل منفعة
الآخرين وأن شيئاً من استثماراتهم لن ينفق على أهاليهم. وبصيغة أخرى، تعرض
السود للسرقة من أجل نفع المتقاعدين غير السود. هل يعتبر الذكور السود
جزءاً ”منا جميعاً“ ويستمتعون بالمصلحة العامة، أم إنهم ضحايا المصلحة
العامة من الآخرين؟ (وعلى القراء أن يعلموا أنه سينتفع الجميع في ظل خصخصة
النظام التقاعدي، وهذا ما يدفع مؤيدي الحرية إلى التأكيد على المصلحة
العامة من خلال حرية الاختيار ما بين انظمة التقاعد وليس تلك المفروضة من
الدولة). وما الادعاءات حول “ المصلحة العامة“ إلا أغطية لمحاولات أنانية
للحصول على مصالح خاصة، كما ذكر الليبرالي الكلاسيكي، الروائي النمساوي
روبرت موزيل في عمله الرائع ”الرجل بلا خصائص“: ”في هذه الأيام المجرمون
فقط يجرؤن على إيذاء الآخرين من دون فلسفة.“
وقد لاحظ الليبراليون الكلاسيكيون التعددية المحتومة للعالم الحديث
ولهذا السبب فهم يؤكدون على أن الحرية الفردية هي جزء من المصلحة العامة
على الأقل. وهم يفهمون أيضاً الحاجة القصوى للتعاون من أجل بلوغ مراد
المرء، فلا يمكن لإنسان منعزلٍ أن يكون ”مكتفٍ ذاتياً“، وهذا هو السبب
بالضبط وراء الحاجة للقوانين التي تحكم الملكية والعقود، على سبيل المثال،
لأجل ان نجعل التعاون المسالم ممكناً ولمأسسة الحكومة لفرض تلك القوانين.
ان المصلحة العامة هي نظام عدالة يسمح للجميع العيش معاً بتوافق وسلام،
وهي الأكثر شمولاً مما تميل الى أن تكون، وليست مصلحة عامةً ”لجميعنا“، بل
لبعض منا على حساب الآخرين (هنالك معنى آخر، مفهوم من قبل كل الآباء،
لمصطلح ”الاكتفاء الذاتي .“ اذ يرغب الآباء بأن يعتمد أطفالهم على أنفسهم
وليس على غيرهم مثل السارقين أو المتسولين والمتسكعين أو الطفيليات. تلك
هي حالة مهمة لاحترام الذات، وكثيراً ما يخلط تايلور ونقاد آخرون لمذهب
الليبرالية الكلاسيكية بين ميزة اكتفاء الذات وحالة عدم الاعتماد على
الآخرين المستحيلة).
إن قضية المصلحة العامة مرتبطة باعتقادات الاجتماعياتيين فيما يتعلق
بالشخصية أو الوجود المستقل للجماعات. فكلاهما جزء لايتجزأ من وجهة نظرة
مبدئية وغير علمية ولا عقلانية للسياسة، وجهة نظر تميل إلى شخصنة المؤسسات
والمجموعات، كالدولة أو الأمة أو المجتمع. وبدلاً من إثراء العلوم
السياسية وتجنب ادعاءات الاجتماعياتيين التي تزعم سذاجة الفردانية التي
ينادي بها الليبراليون الكلاسيكيون، وعلى أية حال، فان فرضية التشخيصية
تعتم القضايا وتمنعنا من طرح الأسئلة الممتعة التي يبدأ معها البحث
العلمي. ولم يقم أحد أبداً بوضع القضايا بشكل افضل مما فعل المؤرخ
الليبرالي التقليدي باركر ت. موون من جامعة كولومبيا في دراسته
للإمبريالية الأوروبية في القرن التاسع عشر، الموسومة ”الإمبريالية
والسياسة العالمية“ اذ ذكر فيها:
”إن اللغة في الغالب تشوش الحقيقة. وقد أعميت أبصارنا، اكثر مما
نتوقع، ازاء حقائق العلاقات العامة بواسطة خدع اللسان. فعندما يستخدم
المرء كلمة (فرنسا) البسيطة ذات المقطع الواحد، فانه سيفكر بفرنسا كوحدة،
كينونة. عندما نريد تجنب التكرار المربك، فاننا نستخدم ضمائر شخصية ترمز
إلى الوطن… على سبيل المثال عندما نقول (أرسلت فرنسا قواتها المسلحة لفتح
تونس).. نحن لا ننسب القوات الى وحدة البلد، بل إلى الشخصية أيضاً.
الكلمات ذاتها تخفي الحقائق وتجعل من العلاقات الدولية دراما ساخرة تكون
الأمم المشخصة هي الممثلين، وبكل سهولة ننسى الرجال والنساء وهم الممثلون
الحقيقيون. كم سيكون الأمر مختلفاً إذا لم نكن نمتلك كلمة كـ فرنسا.. كان
علينا حينها ان نقول بدلاً عن تلك الكلمة: الثلاثة وثمانين مليون رجل
وامرأة وطفل ذوي الاهتمامات والمعتقدات والمقيمين في منطقة 218,000 ميلاً
مربعا من البلاد! حينها يجب علينا أن نصف بشكل أدق حملة تونس على هذا
النحو: (بعض من هؤلاء الثلاثة والثمانين مليون شخص أرسلوا ثلاثين ألفاً
آخرين لفتح تونس). هذه الطريقة في وضع الحقائق بشكل مباشر تطرح سؤالاً، أو
على الأصح سلسلة من الأسئلة. من هم (البعض)؟ لماذا أرسلوا الثلاثين ألفاً
إلى تونس؟ ولماذا هؤلاء يطيعون؟“
إن التشخيصات الجماعية تضفي غموضاً، بدلاً من أن توضح، الكثير من
القضايا السياسية المهمة. هذه الأسئلة، التي تتمركز تقريباً حول تفسير
الظواهر السياسية المعقدة والمسؤولية الأخلاقية، لا يمكن لها ببساطة أن
تُفسَّر داخل حدود تشخيص المجموعة والتي تسدل عباءة من الغرائبية على
أفعال صنّاع السياسة، وبهذا تسمح للبعض باستخدام ”الفلسفة“ أو –الفلسفة
الصوفية– لإلحاق الأذى بالآخرين.
ينفصل الليبراليون الكلاسيكيون عن الاجتماعياتيين من خلال اختلافاتهم
في القضايا المهمة، ولا سيما فيما يتعلق بكون القسر أو الإكراه ضرورياً
لصيانة المجتمع، والتكافل، والصداقة، والحب، والأشياء الأخرى التي تجعل
الحياة تستحق العيش، ويمكن التمتع بها مع الأخرين وبشكل مشترك فقط. لا
يمكن إزالة تلك الفروقات بكل بداهة، لأن حلولها لا تستند الى التشويه
المخزي، أو التصورات غير المعقولة، أو بإطلاق الاسماء الوضيعة.
*زميل أقدم في معهد كيتو بواشنطن، ورئيس جامعة كيتو