عاد إلى الكوفة وهو أشد الحاجة إلى الاستقرار
إلا أنه لم يستطع الإقامة فيها طويلا، فذهب إلى بغداد حيث مجلس المهلبي
الذي يجتمع فيه جماعة من الشعراء والأدباء، وكان المهلبي يطمع بمدح أبي
الطيب فلم يحصل إلا على زيارة الشاعر لمجلسه.
أزور أبو الطيب من جو الخلاعة والمجون الذي يحيط
بالمهلبي ويظهر لي أنه كان منذ نزوله الكوفة كان يفكر في صديقه الحمداني
وبأسباب الصلة به. فالشاعر لم يرد أن يتورط بمدح المهلبي والبويهيين في
بغداد لكي يحافظ على العلاقة بينه وبين سيف الدولة لما كان بين سلطة بغداد
وحلب من عداء.
ثم أن أبا الطيب في هذه المرحلة التي ينال فيها
من الشهرة والمجد لم يجد ما يحققه من مدحه للمهلبي، بل كان يراه أقل منه
شأنا وأدبا . . وظل صامتا حتى عن رد الشعراء الذين حرضهم المهلبي عليه
فهجوه أقذع الهجاء، فلم يجبهم، وكذلك حرض الحاتمي عليه فكانت تلك المناظرة
الحاقدة التي سجلها الحاتمي في رسالته الموضحة. فكان أبو الطيب وقورا حينا
وحادا أحيانا، ويغضي عن كل ذلك أوانا، وكان مكتفيا في لقاء محبي شعره
وطالبي أدبه في دار صديقه علي بن حمزة البصري الذي كان قد نزل فيها.
عاد إلى الكوفة بعد أن أقام في بغداد سبعة أشهر،
ويظهر أنه أراد أن يبتعد عن هذا الجو الصاخب فيها ليستقر في مكان يفكر فيه
بعقد أسباب الصلة بأمير حلب. وفعلا وصلت إليه هداياه وأرسل إليه شعرا ولم
يطق الإقامة في الكوفة لما كان فيها من الحوادث الدموية بسبب هجوم
القرامطة عليها، واشترك المتنبي في الدفاع عنها. وعاودته الرغبة إلى
الرحيل إذ كان يجد فيه متنفسا عن قلقه ولما جاءته رغبة ابن العميد من
أرجان في زيارته رحل إليه ومنه إلى عضد الدولة في شيراز. وكأن رحلته هذه
كانت لقتل الفراغ الذي أحس به بعد طول معاناة ولامتصاص التمزق الذي كان
يعانيه، وربما كان في نفسه غرض آخر هو تقوية صلته بعضد الدولة وذوي الجاه
كابن العميد ليقوى مركزه في بغداد بل ليكون أقوى من صاحب الوزارة فيها
الذي حرض من لديه من الشعراء على هجائه. وكان عضد الدولة يقيم بشيراز
ويتطلع لخلافة أبيه للحكم في بغداد، وبحاجة لشاعر كبير يقدمه للناس
ويعرفهم بخصاله. وفي طريق عودته إلى بغداد كان مقتله قريبا من دير العاقول
354 هـ وكان مع المتنبي جماعة من أصحابه وابنه محسد وغلامه مفلح اللذان
قتلا معه على يد فاتك بن أبي جهل الأسدي وجماعته.