وفي مصر واجه بيئة جديدة، ومجتمعا آخر، وظروفا
اضطرته إلى أن يتنازل في أول الأمر عما لم يتنازل عنه، وهو عند سيف الدولة
. . ثم هو عند ملك لا يحبه، ولم يجد فيه البديل الأفضل من سيف الدولة إلا
أنه قصده آملا، ووطن نفسه على مدحه راضيا لما كان يربطه في مدحه من أمل
الولاية، وظل صابرا محتملا كل ذلك. وأخذ يخطط إلى أمله الذي دفعه للمجيء
إلى هنا، ويهدأ كلما لاح بريق السعادة في الحصول على أمله، وهو حين يراوده
نقيض لما يراه من دهاء هذا الممدوح الجديد ومكره تنعصر نفسه، ويحس بالحسرة
على فراقه صديقه القديم. وفي هذه البيئة الجديدة أخذ الشعور بالغربة يقوى
في نفسه بل أخذ يشعر بغربتين غربته عن الأهل والأحبة وعما كان يساوره من
الحنين إلى الأمير العربي سيف الدولة، ويزداد ألمه حين يرى نفسه بين يدي
أسود غير عربي إلا أنه حين يتذكر جرح كبريائه يعقد لسانه ويسكت . . وغربته
الروحية عمن حوله والتي كان يحس بها في داخله إحساسا يشعره بالتمزق في
كثير من الأحيان . . وظل على هذا الحال لا تسكته الجائزة، ولا يرضيه
العطاء، وظل يدأب لتحقيق ما في ذهنه ويتصور أنه لو حصل عليها لحقق طموحه
في مجلس كمجلس سيف الدولة تجتمع فيه الشعراء لمدحه فيستمع لمديحه وإكباره
على لسان الشعراء بدلا من أن يؤكد كبرياءه هو على لسانه، ولربما كان يريد
إطفاء غروره بهذا إلا أن سلوكه غير المداري وعفويته التي رأيناها بابا
سهلا لدخول الحساد والكائدين بينه وبين الحاكم الممدوح، ثم حدته وسرعة
غضبه وعدم السيطرة على لسانه. كان كل ذلك يوقعه في مواقف تؤول عليه بصور
مختلفة وفق تصورات حساده ومنافسيه . . وأكاد أعتقد أنه كان مستعدا للتنازل
عن كل جوائزه وهباته لمن كان يتصور أنه كان يريد أن يتربع على عرش الشعر
من أجل جائزة كافور وعطائه، ثم يصوره بصورة تشوه إحساسه وتزور مشاعره . .
وذلك هو الذي يغيظه ويغضبه ويدفعه إلى التهور أحيانا وإلى المواقف الحادة
. . كل ذلك يأخذ طابعا في ذهن الحاكم مغايرا لما في ذهن الشاعر . .
هكذا بدأت المسافة تتسع بينه وبين كافور . .
وكلما اتسعت المسافة كثر في مجالها الحاسدون والواشون، وكلما أحس الشاعر،
ولو وهما، بأزورار كافور عنه تيقظت لديه آفاق جديدة لغربته، وثارت نفسه
وأحس بالمرارة إحساسا حادا . . لقد كان هو يحس بالحق، وبأنه لم يطلب فوق
حقه، ولم يتصرف بما هو خطأ لأنه لم يصدر منه تجاوز على حق أحد إلا أنه هذا
التصور البريء في ذهن الشاعر بعيد عن واقع الصورة التي في ذهن حاشية
كافور، وما يصل إلى كافور من أقوال عن الشاعر وعادة المتملقين من الوجهاء
يتوصلون إلى الحاكم بواسطة حاشيته وإغراء بعض أفرادها بأن يكونوا جسورا
بينهم وبين سيدهم . . هذه الجسور قد تقطع عند الحاجة بين الحاكم وبين
خصومهم . . . أما أبو الطيب فلم يكن يحسن هذا اللون من التظاهر ولم يكن
يفكر بهذا اللون من التصور، وإنما كان صريحا بكل شيء في رضاه وسخطه صريحا
بما يرغب دون احتيال ولا محاورة، فما دام يشعر بالحق طالب به دون تأجيل.
هذه الصراحة كثيرا ما أوقعته في مواقف حرجة، عند
سيف الدولة، وهنا أيضا عند كافور، لذا صارت للمتنبي صورة الغول في نفس
كافور، وبأنه المخيف الذي سينزو على ملكه إذا أعطاه ما يمكنه من ذلك،
وهكذا ظل الشاعر يرغب، ويلح في رغبته، وظل كافور يداوره ويحاوره، وهو لون
من الصراع الدرامي بين حاكم يحسن الاحتيال والمداورة وشاعر صريح لا يحسن
من ذلك شيئا حتى وصل الشاعر إلى حالة لم يستطع بعدها أن يبقى صامتا، وشعر
كافور برغبته في مغادرته فظن أن تشديد الرقابة عليه وإغلاق الحدود دونه
سيخيفه ويمنعه من عزمه، ويخضعه كما يفعل مع غيره من الشعراء بالترهيب حينا
والذهب حينا آخر . . إلا أن أبا الطيب لم يعقه ذلك كله عن تنفيذ ما عزم
عليه بعد أن أحس باليأس من كافور، ولذعه الندم على ما فعل بنفسه في قصده
إياه . .
وعاودته ضجراته التي أحس بها وهو عند أكثر
أصدقائه إخلاصا وحبا وظل يخطط إلى الهرب، ويصر على تحدي كافور ولو بركوب
المخاطر حتى وجد فرصته في عيد الأضحى، وخرج من مصر، وهجا كافورا بأهاجيه
المرة الساخرة .
الاضطراب واليأس :
إن تحدي أبي الطيب لسلطة كافور في هروبه وركوبه كل المخاطر، ثم هذه الطاقة
المتفجرة من السخط والغضب في هجائه، كل ذلك يدل على مبلغ اليأس والندم في
نفسه، ويبدو لي أنه كان حائرا حين فارق سيف الدولة، وحاول أن يمنع نفسه من
التوجه إلى كافور إلا أنه رجح أمر توجهه إلى مصر بعد إطالة فكر . . .
ويبدو أنه كان قد فكر بهذه النتيجة اليائسة من ملك مصر لذا نراه وكأنه
أراد أن يتقدم من نفسه على ارتكابه خطيئة التوجه إليه واحتمالها مدحه،
والتقيد بأوامره حينا. فهو حاول بأي وجه أن يشعر بالانتصار على هذه
السلطة، نجده تحداه في هروبه، ثم نقرأ هذا الفخر بالشجاعة والفروسية في
اقتحام المخاطر في طريقه إلى الكوفة في مقصورته :
ضربت بها التيه ضرب القمار |
| إمــا لهـذا وإمــا لـذا |
إذا فزعت قدمتـها الجيــاد |
| وبيض السيوف وسمر القنا |
فلمـا انحنـا ركزنـا الرماح |
| فـوق مكــارمننا والعمل |
وبتنــا نقبـــل أسيافنــا |
| ونمسحها من دماء العــدى |
لتـــعلم مصر ومن بالعراق |
| ومن بالعواصم أني الفتــى |