الخميس 24 نوفمبر من عام 1859 وزع مؤرخ الطبيعيات تشارلز داروين الطبعة الاولى من كتابه "مصادر الانواع" (The Origin of Species). الطبعة لم تكن تتجاوز 1250 نسخة وبيعت كاملة في اليوم نفسه، لتبدأ رحلة النقاشات والحوارات العميقة مع وضد الافكار الداروينية بالرغم من انه ، في حينه، قلة من فهمت معنى مصطلحه " الانتخاب الطبيعي".
الاساس لنظرية داروين جاء من ملاحظاته التي اجراها قبل حوالي 25 عاما عند رحلته الى مجموعة الجزر المسماة Galápagos حيث توقفت الباخرة في جزيرة Chatham. لحسن الحظ لم يرتاح داروين لصحبة كابتن الباخرة بالرغم من انه ابحر ليكون رفيق سفر للكابتن في رحلته الطويلة كما ان داروين لم يحب البحر. كل ذلك شكل سببا له للنزول الى الجزر والقيام بمراقباته وجمع النباتات والحيوانات ونماذج عن الصخور والمعادن. هذا السبب ايضا كان حافزا له للنزول الى الجزيرة التي افضت الى اكتشافاته . لقد زار اربعة جزر من جزر المجموعة واطلع على حيواناتها وطيورها المتيزة والغريبة عن مانعرف.
بالرغم من ان البعض يعتقد ان داروين توصل فورا الى نتائج ملاحظاته التي يترجمها مصطلح " الانتقاء الطبيعي" إلا ان الحقيقة ان داروين قد وصل الى هذا الاستنتاج بعد فترة طويلة، حسب ماتشير اليه مذكراته اليومية، بالرغم من انه سمع من الكابتن عن ظاهرة الاختلاف بين الطيور المتشابهة من جزيرة الى اخرى وبالرغم من انه شخصيا قد رأى اختلافات ظاهرة بين الطيور المنعزلة، ولم يفهم المغزى من هذه المعلومات إلا بعد زمن طويل. ومع ذلك يمكن القول ان زيارته الى هذه الجزر كانت حاسمة في ظهور النظرية التي تعتبر احد اهم نظريات العصر الحديث.
مجموعة الجزر Galápagos تشكلت بفعل نشاطات بركانية وكانت من امنيات داروين رؤية بركان نشيط ولكن البركان Chatham كان قد انطفئ منذ زمن طويل، وبالرغم ذلك سجل داروين ملاحظات عن تشير الى ان الجزيرة كانت سوداء بفعل المصهورات التي انطلقت من البركان عند نشاطه والتي تغطي سطح الجزيرة على شكل موجات جامدة. على الجزيرة التقى حيوانات وطيور جريئة للغاية لم يعهدها من قبل مثل طيور تسمى فينكار وسولور. لقد اثاره التنوع بالحيوانات والحياة الغنية بالانواع مثل السلاحف والسلامندرا البحرية والحرباء ،في جزر صغيرة تشبه الجنة الموعودة، حيث حيواناتها لاتخاف الانسان، إذ انها لم تلتقي بالانسان ابدا.
جزيرة Charles وتسمى ايضا جزيرة Santa Maria or Floreana كانت مركزا لقضاء المساطين فترة محكوميتهم تحت امرة البريطاني Nicholas Lawson. هذا البريطاني ذكر ان المرء يستطيع التفريق بين الجزر من خلال النظر الى شكل السلاحف التي على الجزيرة، إذ ان كل جزيرة تقطنها سلاحف ذات شكل مختلف عن الجزيرة الاخرى. مثلا في احدى الجزر كانت حافة الدرع عند الرقبة تشكل قوسا الى الاعلى بحيث ان السلحفاة تتمكن من الوصول الى الاغصان المرتفعة والآكل منها في حين في بقية الجزر كانت الحافة مستقيمة والسلاحف لم تكن تحتاج الى رفع رأسها للوصول الى الطعام، وبالتأكيد يوجد الكثير من الاختلافات الصغيرة الاخرى ايضا، والتي لم ينتبه اليها داروين في حينه ولم يفهم مغزاها.
في مذكراته التي نشرت عام 1845 اعترف داروين بأنه لم ينتبه لما تتضمنه الملاحظات التي صادفها وذلك لعدة اسباب من بينها انه لم يعقل ان تنعزل الانواع في جزر قريبة من بعضها بهذا الشكل ولم يخطر بباله درجة التنوع التي حصلت بين حيوانات الجزر. وعوضا عن ان يجمع اكثر، القى بما جمعه من دروع السلاحف من على ظهر الباخرة الى البحر.
وبالرغم ذلك كانت هناك مجموعة من الطيور اثارت انتباهه بشكل خاص كان لها ممثلين كنوع او كصنف على جميع مجموعة الجزر هذه الطيور تسمى الفينكار او Finches . من هذا النوع جلب العديد من النماذج الموثقة والتي تؤكد وجود العديد من الانواع منها والجزيرة التي ينتمي اليها كل نوع منها.
في لندن سلم مجموعته من الطيور الى العالم البيلوجي المشهور John Gould الذي اخبره بعد فترة من الدراسات ان المجموعة تعود لنوع واحد من الطيور ولكنه مختلف بالشكل الخارجي مما ادهش داروين. ولاعجب، فأن الانواع الاربعة عشر التي ينقسم اليها الطير المعروف بإسم فينكار يختلف اختلافا شديدا بين بعضه ومن الصعب رؤية انتمائه الى نوع واحد من مجرد رؤيته في الطبيعة.
قبل مغادرة الباخرة المعروفة بإسم Beagle والتي اقلت داروين في رحلته لجزر Galápagos توقفت عند جزيرة Albermale/ Isabela حيث درس داروين للسحلية البحرية وحيث ابحر على ظهر سلحفاة بحرية كبيرة.
بعد خمسة اسابيع غادروا الجزيرة. وبالرغم من انه رأى مالم يكن يخطر على باله من الحيوانات والتنوع في اشكالها إلا انه لم يصبح " تتطوري" بعد، بل اصبح اكثر غنى وتفتحا وخبرة الامور الضرورية التي هيئت لانفتاح بصيرته.
عند العودة ومعاينة النماذج من الطيور التي جمعها والملاحظات التي سجلها، توصل الى ان التعدد الكبير في انواع الطيور والاختلاف بينها لايمكن تفسيره بغير انه كل الوقت تنشأ انواعا جديدة ، من الانواع الام، وانها دائما تملك مؤهلات إضافية منسجمة مع البيئة المحيطة، كما هو الامر مع مجموعة طيور الفينكار.
لقد نضجت ونمت نظرية التتطور عند داروين ببطء ولكن بثبات، وظهر له ان طيور الفينكار الذين اثاروا حيرته في البدء هم افضل مثال على قابلية الطبيعة على التتطور والانسجام.
بعد عشرة سنوات على رحلته يكتب داروين عن دراسة نماذج الطيور التي جمعها " يظهر انها استطاعت ان تقربنا الى حل معضلة المعضلات عن مصدر ظهور الاشكال الجديدة للحياة على هذه الارض". بعد هذه الاسطر بدأت تتالى مقالاته ورحلاته الاستكشافية الواحدة بعد الاخرى مؤكدة كلماته التنبؤية الاولى. في كتابه المسمى عن اصلا الانسان "The Descent of Man" 1871, وضح مفهومه عن الاختيار الجنسي واشار الى ان الانسان والشمبانزي يملكون جدا مشتركا وان الانسانية جاءت اصلا من افريقيا.