العربي
الغاضب و حزب الله: عن تقهقر اليسار و انحسار الأفق – كارل شرو
بعد صمت طال، تحلى "العربي الغاضب" أسعد أبو
خليل ببعض الشجاعة و
تجرأ
على مقاربة طائفية حزب الله. أسعد لكنه لم يسعد أحدا...
بداية، لا بد من تهنئة أبا خليل على تطرقه إلى موضوع قد يستجلب له الكثير
من النقد من دون مردود مباشر بالمقابل. لكن بعد قراءة المقال يبدو أن جل ما
اكتشفه أبو خليل هو إن حزب الله شيعي! اختراق كبير لا شك للفكر اليساري
العربي. اكتشف أبو خليل إن حزب الله شيعي ينخرط في نظام سياسي يقوم على
الطائفية. في التحليل السياسي، التوقيت مهم جدا. يعيد أبو خليل اكتشاف ما
قلته قبل الانتخابات النيابية اللبنانية الأخيرة في مقال عنوانه
"حزب
الله قبل الانتخابات: الخوف من السلطة" والتي شرحت فيه عجز حزب الله عن
الاستئثار بالحكم كما كان يهول البعض آنذاك لأسباب هيكلية تتعلق بطبيعة
النظام اللبناني و طبيعة حزب الله نفسه. كان لهذا الكلام معنى عندها، لكن
ترداده ألان تجاوزته متطلبات المرحلة التي نعيشها.
ما لا يعيه أبو خليل هو أن نجاح حزب الله في مقاومة إسرائيل و فشله بالتحول
إلى حزب سياسي واسع لا طائفي ينبعان من مصدر واحد. ومهما حاول أبو خليل أن
يتحايل و يتخيل و يبتدع أفكار خلاقة لتحويل حزب الله إلى حزب ثوري واسع
فسيفشل. سيفشل لان مسعاه هذا ينبع من فشل اليسار و إحباطه لا من مقاربة
يسارية ثورية جدية للسياسة في لبنان. يريد أبو خليل لحزب الله أن يصبح أداة
للثورة رغم إن الحزب نفسه قد علق إلى اجل غير مسمى وثيقته التأسيسية
الثورية منذ زمن طويل و وجد لنفسه مكانا و دورا في التركيبة السياسية
الطائفية في لبنان. لا يمكننا لوم الحزب على انتهاج هذا الخيار الذي تمارسه
كل الأحزاب اللبنانية الفاعلة، لكن يمكننا لوم أبا خليل على هذه الانعطافة
الإيديولوجية التي تحاول استبدال فشل اليسار بنجاح حزب الله العسكري و
بناء مشروع تغيير خيالي على ركائز لا أساس لها في الواقع.
فشل اليسار في لبنان له أسباب عدة، بعضها يتعلق بالتركيز على أهداف خاطئة و
بعضها الأخر ينبع من أسباب هيكلية تتعلق بنشأة الفكر اليساري في لبنان و
طبيعته. في الشق الأول، يبرز الهدف الأهم الذي أعلاه اليسار اللبناني فوق
كل اعتبار و الذي لا يزال أبو خليل يراه الهدف المركزي ألا و هو تحرير
فلسطين. للتوضيح: تحرير فلسطين يمثل للفلسطينيين مسالة حياة أو موت، مسالة
وجود و تحقيق نفس و تحرير مجتمع و القضية المركزية بلا منازع. السياسة تنبع
من الواقع و ظروفه وهذا ما يمليه هذا الواقع على الفلسطينيين. لكن
المعادلة ليست نفسها لأهل لبنان. طبعا يجب مساندة الشعب الفلسطيني و
التضامن معه لكن الشعب الفلسطيني وحده هو الذي يقرر كيفية أدارة نضاله و
تحديد أولوياته و شروط قيام دولته العتيدة. لكن اعتبار القضية الفلسطينية
القضية المركزية في لبنان هو هروب من الواقع و انجذاب نحو وضوح القضية
الفلسطينية التي تختلف اشد الاختلاف عن ضبابية السياسة اللبنانية و
تقلباتها.
في الشق الأخر، من المفيد تحليل منحى اليسار اللبناني تاريخيا و مأزقه
الحالي. فاليسار في لبنان لم ينشا بشكل طبيعي و يأخذ شكلا محليا لمواجهة
احتكار السلطة الطبقي و الطائفي في لبنان بل كان منذ بداياته مرتبطا
بالستالينية و منتجا من منجاتها إلى حد ما. لم يتمكن اليسار اللبناني من
إنتاج تحليل حقيقي لواقع السياسة و المجتمع في لبنان و هذا ما منعه من
الانتشار في أوساط الطبقة العاملة المسيحية و أدى تدريجيا إلى انجرا ره إلى
خوض حرب طائفية إلى جانب أطراف طائفية بمواجهة إطراف طائفية أخرى. الولادة
المصطنعة لليسار اللبناني و رعايته من الستالينية السوفيتية و إطراف
إقليمية و محلية منعت اليسار من التحول إلى قوة سياسية فاعلة في لبنان.
وابرز دليل على ارتباك اليسار هو ذلك المزيج الغريب من القومية و العروبة و
الشعبوية التي طبعت خطابه و لا تزال تعبر عن نفسها حتى ألان. أتقن
اليساريون اللبنانيون استعمال المفردات و العبارات الماركسية التي تلقنوها
من الستالينيين لكنهم لم يفهموا ماركس أبدا و لم يطور أي منهم تحليلا
ماركسيا حقيقيا في الإطار اللبناني.
أسعد أبو خليل نموذج عن ذلك الضياع الإيديولوجي و مثال عن مزيج الأفكار
السالف الذكر. يقول أبو خليل في مقاله عن حزب الله: "إن خرق الحصار الطائفي
الذي أحاط بالحزب، لأسباب ذاتيّة وموضوعيّة إذا استعملنا التحليل الماركسي
الكلاسيكي، لا يتعلّق بمصلحة الحزب السياسيّة أو الوطنيّة فحسب. هناك ما
هو أهم. إن مشروع الصراع ضد إسرائيل، بأفق تحرير كل فلسطين، يستوجب على
المديين القصير والطويل إعداد أجيال عربيّة جديدة، وذلك من أجل تأسيس حركة
تتعدّى الحقبة الواحدة أو مرحلة الزعيم الواحد." الملاحظة الأولى إن
التحليل الماركسي لن يقول شيئا من هذا القبيل. التحليل الماركسي لن يؤكد
ضرورة الالتحاق بركاب حزب و إن كان ناجحا عسكريا لكنه لا يمتلك دينامكية
تغيير اجتماعي و سياسي بل يلعب دورا كبيرا في الدفاع عن و الحفاظ على
النظام اللبناني بصيغته السالفة و الحالية و إن كان يطالب من وقت لآخر ببعض
الشروط لتحسين نمط انضوائه في هذا النظام. التحليل الماركسي سيرفض ذلك،
لكن الانتهازية الستالينية سترحب به.
الملاحظة الثانية إن التحليل الماركسي لن يرضى بتأجيل النضال في القضايا
الملحة لحساب شعار طويل الأمد كتحرير فلسطين رفعته الأنظمة البورجوازية -
العسكرية العربية لعقود و لا تزال، و مارست عبره هيمنة قمعية على
مجتمعاتها. الفكر الماركسي ينحى نحو الخيارات الثورية و في غياب الظروف
الموضوعية الملائمة يسعى إلى بناء قواعد شعبية عريضة قادرة على تطوير
الخيار الثوري و تحقيق الأهداف المرحلية. الفكر الماركسي لا يستسيغ " إعداد
أجيال عربيّة جديدة" كي يضحى بها على نفس المنهاج الذي ساد لعقود. و هذا
قطعا ليس أسلوب "تأسيس حركة تتعدّى الحقبة الواحدة أو مرحلة الزعيم
الواحد"، فالزعيم الواحد هو نفسه الذي استخدم شعار تحرير فلسطين بنفس
الطريقة. العروبة هنا يراد بها تخطي عدم القدرة عن التعاطي مع خصائص كل بلد
و النضال في إطار ينبع من المجتمع و تركيبته لا من مجتمع عربي خيالي
طوباوي. كلما تعثر اليسار العربي و فشل عن التعاطي مع واقعه يهرب إلى
الأمام عبر استعادة حلم وحدة عربية تحل كل مشاكله في آن واحد.
على سبيل المثال، فان قضية تحقيق مواطنة كاملة لسكان المخيمات الفلسطينيين
في لبنان هي قضية أكثر إلحاحا من مشروع وهمي لتحرير فلسطين يراد من خلاله
تخطي حق الشعب الفلسطيني بتقرير مصيره كما يشاء و إعطاء هذا الحق للهاربين
من قضاياهم الداخلية. كما ناقشت سابقا، بعبع التوطين الذي يهول به باستمرار
من قبل زعماء الطوائف اللبنانية كافة يجب التصدي له و الدفاع عن حق
الفلسطينيين في لبنان بنيل حقوقهم المدنية الكاملة عبر نيل الجنسية
اللبنانية و الانخراط في المجتمع اللبناني. القائلون بان هذا يعني التخلي
عن حق العودة يعبرون فقط عن ازدرائهم للشعب الفلسطيني، كأن حق العودة هو
فقط نتيجة الظروف السيئة التي يعيشها الفلسطينيون في المخيمات. هناك معركة
حقوق مدنية يجب خوضها في لبنان ضد تهويل الطوائف و ضد فكرة الحفاظ على
التوازن الطائفي التي ليست أساسا جيدا لبناء الأوطان.
حزب الله له حساباته و أفكاره، يتوهم أبو خليل عندما يتصور انه بإمكانه
إعادة إنتاج حزب الله بشكل يتلاءم أكثر مع قناعته الشخصية و ما يتصوره
تفكيرا سياسيا. الأولى بأبي خليل أن يفكر في كيفية تنظيم اليسار لا أن يضيع
وقتا و جهدا بإعادة تنظيم أحزاب لا تبغي هكذا اهتمام. ما يجذب أبو خليل
إلى حزب الله هو فعاليته العسكرية التي يظنها ضربا من السحر. لكن الحقيقة
هي إن مقاتلي حزب الله نجحوا لأنهم يدافعون عن أرضهم لا عن قضية متجردة لا
تمت إليهم بصلُة. و هذا ليس سرا في النضال و السياسة، فالعبرة الانطلاق من
الواقع و الخبرة و الظروف و الطموحات لا من الأوهام و التخيلات كما يفعل
أبو خليل لعجزه عن التفاعل مع مجتمع أقصى بنفسه عنه بملء إرادته ليتمركز في
إحدى أكثر قلاع الأكاديميا الأمريكية نخبوية و انعزالا عن مجتمعها.
العربي الغاضب رمز لتعثر اليسار العربي يٌحتفي به في الإعلام العربي و
الغربي تحديدا بسبب عدم فعالية أفكاره و عدم تمثيلها لأي خطر أو تهديد
للأفكار السائدة. يٌروج لفكر جرى ترويضه و تطويعه منذ زمن مهمته انتحال
الراديكالية للإيحاء بان أبواب العمل السياسي و النضالي مغلقة و التعويض عن
عدم فعاليته عبر رفع النبرة الخطابية الجوفاء. هو اقرب ما يكون لمايكل مور
العرب: نجم إعلامي رصيده الغوغائية و الشعبوية السطحية. لمن المضحك حقا أن
يحاول أبو خليل تلقين حزب الله دروسا في السياسة و من المثير للشفقة
محاولته تصوير انخراط حزب الله في النظام الطائفي اللبناني على انه تفصيل
صغير لكي يبرر دعمه غير المنطقي عقائديا له. لا يبنى اليسار على هذه
العقلية الانهزامية