يتبين إذن
من خلال ما سبقأن ميشيل فوكو يقدم اللحظة الأولى من عمر التدبير السياسي والاجتماعي
للمرض، كلحظة عقابية، تحتوي على بنيات ومؤسسات طبية وقوانين صحية، لكنها
لا تتجه نحو ممارسة العلاج والإشفاء، بقدر ما تستعمل في الإقصاء الاجتماعي
وممارسة التعسف السياسي ضمن مقاربة لن نجد أحسن من تعبير ميشيل فوكو
لوصفها، أي ضمن مقاربة بوليسية.
لحظة الطب:أما أن يكون العصر الكلاسيكي قد اعتقل المريض "المجذوم، المجنون،
المريض جنسيا، الملحد، المتسول….الخ"، اعتقاداً منه، أن في اعتقاله خلاصاً
وتطهير للفضاء الاجتماعي، وحماية لقيم المجتمع ومؤسساته، فذلك ما لا يمكن
الشك فيه، وأما أن يكون الاعتقال والتعسف هو الحل الأخير الذي راهنت عليه
الدولة والمجتمع لتدبير المرض، فذلك ما يسهل رفضه ورده. ويرجع ذلك إلى
اتجاه العصر الكلاسيكي نحو وعي المرض"من خلال دراسة الجنون"، رغم كل ما
ميز هذه التجربة من غموض وعدم قدرة على تحديد ماهية الجنون وأسبابه
وأشكاله وحدوده، بل وعجز جعل من الجنون "معنى في حالة تشظي دائم"[1].
إن هذا الوعي الذي ميز العصر الكلاسيكي لم يتخذ شكلا واحداً، وإنما
اتخذ أنماطا مختلفة حددها فوكو في أربعة أساسية تشير كل واحدة منها إلى
ممارسة علمية محددة، ترتبط فيما بينها لأنها تحتاج إلى بعضها البعض، رغم
وجودها منفصلة، دون أن يستوعب بعضها البعض. فهناك أولا وعي نقدي خاصيته
الأولى أنه "ينخرط كلية في حكمه، قبل بلورة مفاهيمه، وعي لا يحدد بل
يدين"[2]، وهناك كذلك؛ وعي عملي للجنون، ميزته أنه "بقدر ماهو اجتماعي
ومعياري، ومدعوم بشكل جيد منذ البداية، فإنه وعي درامي"[3]، بالإضافة إلى
هذا يوجد وعي تلفظي بالجنون، ويتميز بـكونه "وعيا يمكن من القول، مباشرة
دونما اعتماد على المعرفة: هذا مجنون"[4]، أخيراً وليس آخر، يظهر الوعي
التحليلي للجنون "وليس الجنون داخله أكثر من كلية ظواهره… إن هذا الشكل من
الوعي هو الذي يؤسس إمكانية معرفة موضوعية للجنون"[5].
تعكس التجربة الطبية لحظة دخولها إلى حقل المرض، قطيعة جديدة وانفصالا
مهماً، حيث تم التحول من المرض المقصي إلى المرض الموضوعي، وبالتالي من
وعي عملي بالمرض إلى آخر نظري، وهي تجربة وجد الطب نفسها داخلها مع
الفلسفة جنباً إلى جنب. إن ميزة الوعي الطبي للجنون ومن خلاله للمرض، هو
"بحثه عن الجنون في الفضاء الطبيعي الذي يحتله، فالجنون مرض من بين أمراض
أخرى، اضطرابات في الجسم و الروح، فهو ظاهرة من الطبيعة، يتطور في الطبيعة
وضدها في الوقت دانه"[6].
لقد بدأ الوعي الطبي للجنون حسب فوكو مع فييسنس Viessens الإبن، في
إنتاج هذا النوع من التصورات حول الجنون باعتباره مرضاً " المركز البيضوي
في الدماغ هو: بؤرة وظائف الذهن، لأن الدم الشرياني يتخذ شكلا دقيقاً
ويتحول إلى ذهن حيواني، وبالتالي فإن صحة الذهن، في أبعادها المادية،
محكومة بانتظام وتساوي حرية سير الأذهان في تلك القنوات الصغيرة"[7]، وقد
استفاد الوعي بالجنون كثيراً من تطور المعرفة الطبية التي أضحت خلال القرن
الثامن عشر أبعد من أي وقت مضى عن الفهم الميتافيزيقي للمرض، القائم على
وجود جواهر موربيفية Morbifique وعلى مقولة عامة للمرض عقيمة. وهو ما يشير
إلى أن ابتعاد التصور الجديد للمرض عن المقولات الميتافيزيقية، يعني
الارتماء بين أحضان البراديغم التجريبي، الذي يعتبر الوجود الواقعي
للظواهر، وقابليتها للملاحظة، هو ما يمنحها صفة العلمية، ويوجه العلم
نحوها من أجل دراستها.
إن ما يميز الاشتغال الطبي على المرض هو حمله لرهانات مغايرة، لتقنيات
السلطة لحظة التفكير في المرض، فإذا كانت الثانية اتجهت بشكل عام نحو
اعتقال المرض وإبعاده وإخفائه، فإن ما سميناه بلحظة الطب، نحت اتجاه
"تحرير المرض"، تحريره أولا من النظرة الشمولية التي كانت تختزل في مفهوم
المرض فئات اجتماعية واسعة، لا يجمع بينها إلا شيء واحد وهو جمع السلطة
لها داخل قالب واحد. وتحريره كذلك من خلال إعادة تنظيم العالم الباتولوجي
وفق معايير جديدة، استوحاها الطب من عالم النبات، وكما يقول بول سيدنام
Paul Sydenham " علينا أن نجمع كل الأمراض في أنواع محددة بنفس حرص دقة
عالم النبات"[8] وهو الأمر نفسه الذي انتهى إليه كل من غوبيوس Gaubius
ودوسوفاج de sauvage …الخ، حيث تم تنظيم المرض وفق مقدمات جديدة، تختلف
جذرياً عن الطريقة التي فهم بها المرض في الماضي، أهم معاملها الاتجاه
التدريجي نحو علمنة المرض، أو بطريقة أصح إبعاد الطابع الديني عن الفهم
الإنساني للمرض، بعدما كان يعتقد قديما أن المرض عقاب إلهي[9]. وفي الأخير
يظهر الدور التحريري للطب داخل مساهمته في انفتاح الممارسة العلاجية من
التصور الوحيد للمرض، حيث بدأ الجنون مثلا "المرض" يفقد طابعه الموحد
لصالح، نماذج وأنواع جديدة وفق أعمال تصنيفية يقدم فوكو داخلها " بلاتر
Plater ، وجونستون jonston ، وبواسيي دو سوفاج boissier de sauvage و ليني
linné و فييكار weickheird" كنماذج متقدمة لفهم المرض وخاصة المرض العقلي.
بقي أن نشير إلى خاصية أخيرة أضافها الطب إلى حقل المرض أو حقل الصحة،
وهي الانتقال بالمرض من عالم الاعتقال إلى عالم الشفاء مع كل ما ميز هذا
الانتقال من خلق لمعايير وقيم ومبادئ ونماذج وآثار ومؤسسات…الخ، حولت
المجنون والمريض من مذنب إلى إنسان أو على الأقل إلى جسد يحتاج العلاج لا
العقاب، مع كل ما رافق هذا الانتقال من تحولات كبرى على مستوى الممارسة
النظرية للطب التي لم يكن لها دائم تأثير مباشر على فعل العلاج. بالإضافة
إلى المساهمة في تكون نظرة جديدة عن المرض مع علم النفس والتحليل النفسي.
1. لحظة الدولة: تدخلت الدولة تاريخا في تنظيم البؤس عبر تقنيات كثيرة، تجسدت في
مراسيم و ظهائر يصدرها الملك وقوانين وتشريعات يصدرها البرلمان، وتمثلت
ثانيا في إحداث دور للحجز و المستشفيات و "الإصلاحيات"، تتخذ شكل مؤسسات
للإبعاد والاعتقال و العلاج والإصلاح، وتشكلت كذلك من خلال ترتيب إجراءات
وتدابير يمكن أن نصفها بلغة معاصرة باسم سياسات صحية. ويمكن القول أن
الغاية الأساسية لهذا التدخل كان هو الوصول إلى دولنة الجسد و الصحة، من
خلال نزع الطابع الفردي أو العائلي عنها. بالإضافة إلى سعيها، في إطار
صراعها مع الكنيسة، إلى علمنة الصحة عن طريق نزع الطابع الديني عن
الممارسة العلاجية.
إن الحقيقة التي كشف عنها فوكو، ويمكن القول بنوع من الإحتراس، أن بعض
تجلياتها ما تزال حاضرة إلى اليوم، وهي أن: المؤسسات العلاجية بكل أصنافها
لا تقوم بأي وظيفة طبية، لأنها لا تتوفر على أي فكرة طبية. فمهمتها الأولى
سياسية أولا، شبيهة بتلك التي يقوم بها السجن، ضمن سياسة انضباطية عامة،
تقوم على " المراقبة و المعاقبة، للعناية والقمع، للمساعدة
والاعتقال، الشيء الذي يجعل هذه المؤسسات السياسية، " مؤسسات غريبة يصعب
أحياناً تحديد معناها ووضعها"[10].
إن السؤال الأساسي الذي اتجه فوكو نحو الكشف عنه من خلال الوقوف على
المظاهر الكبرى لتدبير المرض، هو ما هي المظاهر السياسية للمرض، وقبل ذلك
متى بدأ الجنون يأخذ معنى المرض العقلي؟.
لقد ساهم اهتمام فوكو بتاريخ الجنون، بشكل كبير في اتساع رقعة اهتمامه
بالجسد والصحة والطب، وهو ما بدا واضحاً في اتجاه فوكو نحو تفكيك بنيات
جديدة، في الممارسة العلاجية والبحث في تفاصيلها الصغيرة وفي شكل القطائع
و الهوامش التي تشكلت داخل بنية تكونها. وقد ارتبط هذا الاهتمام بسؤال
جديد وهو " كيف تشكلت النظرة العيادية داخل النظرة الطبية؟
2. العيادة، والتشكل العلمي للممارسة الطبية: غني عن التأكيد أن فوكو لم يحبس نفسه للتفكير في تاريخ المؤسسة
الطبية، كما قد يوحي بذلك عنوان ثاني كتبه " تاريخ العيادة"، إذ اتجه منذ
بداية مؤلفه تحديد مسارات والتي حددها في ثلاث مفاهيم أساسية تشكل في نظره
البنية الأولية لكل ممارسة طبية، يتعلق الأمر بمفهوم المجال ومجموع
النقاشات التي أحاطت بها داخل الممارسة الطبية من حيث القدرة أو عدمها على
توطين المرض، وهو نقاش يكشف ميشيل فوكو جزء منها داخل تاريخ الجنون،
بالإضافة إلى مفهومي اللغة و الموت و ما يرتبط بهما من ممارسات علمية،
تبدأ انطلاقاً مما يستعمله الطبيب من رموز في توصيف المرض وتقديمه، وصولا
إلى التشريح، باعتباره العلمية التي جعلت الطب يكرس نفسه كعلم للفرد.
إذا كان لابد من الإشارة أعلاه، فإن ما يهمنا في "ولادة العيادة" ليس
تقديم ما انتهى إليه فوكو من خلاصات نظرية كبرى بخصوص تطور النظرة الطبية
للمرض والجسد والموت، بقدر ما يشكل الحفر في المظاهر السوسيولوجية
للممارسة الطبية والمجال الصحي و التي يعتبر الكتاب غني بها، أول هدف
نتغيا الوصول، لاسيما وأن ميشيل فوكو، لم يلزم يوماً قراءه بنظرة واحدة
دون غيرها.
تستمد الممارسة الطبية كل مقوماتها في نظر ميشيل فوكو من العالم
المحيط بها، فهي أولا تتأثر بعالم الحياة الذي عملت على إعادة إنتاج
أطروحاته بخصوص طبيعة المرض وماهية الصحة " إن نظام المرض ليس إلا
انعكاساً لعالم الحياة، نفس البنيات تسود هنا وهناك، ونفس أشكال التوزيع
ونفس الانتظام، إن عقلانية الحياة تشبه مايهددها"[11]، كما أنها تأثرت
وبشكل كبير بعالم السياسة، من حيث وجود أوغياب البنيات الصحية، فإذا كانت
الثورة الفرنسية مثلا قد حملت فكرة إلغاء المستشفيات وجمعيات الأطباء
Corporation، فإن هذا الفراغ المؤسساتي وتحول المستشفى إلى مجال جديد
يتقاطع فيه التعليم و التعلم، المراقبة و الممارسة الطبية، وبكلمة أعم
الخطاب التربوي والتدخل العلاجي.
من جهة ثانية لم يفت ميشيل فوكو البحث في البعد العلائقي للظاهرة
الصحية من خلال تفكيكه لبنية العلاقة التي تجمع الطبيب بمريضه، وبالتالي
الطب بالمريض، وهو ما يجرنا إلى القول إن ميشيل فوكو لم يكن
إبيستمولوجيا في ولادة العيادة فقط، وإنما كان سوسيولوجيا كذلك.
تنبني علاقة المريض و الطبيب في نظر ميشيل فوكو على العنف والإقصاء،
لأن معرفة المرض و الوصول إلى حقيقة الظاهرة الباثولوجية، لا تقوم داخل
وجهة النظر الطبية إلا عندما يقوم الطبيب بتجريد المرض، وبالتالي إقصاء
المريض من حلقة العلاج، فالطب" لا يتجه نحو الجسد الملموس، نحو هذا الكل
المرئي، نحو هذا الامتلاء الوضعي الذي يوجد أمامه، وإنه يتجه نحو فواصل
طبيعية، نحو هفوات ومسافات تظهر سلبية، إنها العلامات التي تميز كل مريض
عن آخر"[12].
يقوم وصف ميشيل فوكو لعلاقة الطبيب بالمريض بالعنيفة، على كثير من
المقدمات السوسيولوجية الكبرى، أولها أن الطبيب لا يشتغل على المرض إلا من
موقع واحد، داخل ثنائية تقليدية، تتأسس على الجهل و المعرفة، فالطبيب يتخذ
موقع العالم الذي لا يحتاج إلى ما يقوله المريض من أجل معرفة المرض، لأن
المريض لا يمثل إلا تمظهراً خارجياً بالنسبة لما يعانيه، لذلك فإن القراءة
الطبية لا تأخذ بعين الاعتبار ما يقوله المريض عن مرضه، إلا لكي تضعه بين
مزدوجتين، لان ما يهم الطبيب يوجد في البنية الداخلية لأجسادنا لا فيما
نقوله. ورغم ذلك، أي رغم إقصاء الطبيب للمريض، ورفض الثاني للصورة التي
يتخذها تدخل الأول، فإنها ملزمان بالتعايش مع بعضهما البعض، إنها يتعايشان
كما يقول فوكو كتشويش لا مجال لتجنبه.
غني عن التوضيح أن ميشيل فوكو أولى اهتماماً خاصاً بالتاريخ السياسي
للمؤسسات الصحية وما رفق نشأتها و غيابها من نقاشات سياسية كبرى داخل
المجتمع الفرنسي، انتهى من خلاله إلى أن " المستشفى مثله مثل الحضارة،
مجال اصطناعي يهدد داخله المرض بفقدان صورته الأساسية"[13]، وهي ملاحظة ما
تزال تجلياتها موجودة داخل المجتمع المعاصر، ذلك أن معرفة الناس بأمراضهم
وعلاقتهم مع هذه الأمراض غالباً ما تجد معنى آخر ووجوداً مغايراً داخل
المستشفى.
وإذا كانت المستشفى مؤسسة اصطناعية، يفقد فيها المرض صورته الأصلية،
فإن الأسرة هي المجال الطبيعي للمرض، بما هي مجال طبيعي للحياة، حيث رقة
العلاجات العفوية وقوة الارتباط، وحيث وجود رغبة جماعية في العلاج، من
خلال تعبئة جماعية لمساعدة المريض على تجاوز مرضه. وهو الأمر بطبيعة الحال
الذي لا يوجد داخل المستشفى.
يعني وجود مجالين للمرض، وعجز المريض عن القيام بأدواره الاقتصادية،
خلال القرن الثامن عشر، ظهور نقاش جديد حول صلاحية وجود المستشفى داخل
المجتمع، حيث دعى أصحاب هذا السؤال إلى ضرورة استثمار الخيرات التي توجه
نحو بناء المستشفيات إلى إعانة مباشرة للأسرة، التي سيصبح آنذاك من مهمتها
مساعدة المريض على تجاوز مرضه، وهنا تكون الدولة قد قامت بإجراءين، مساعدة
المريض على المرض، ومساعدة أسرته على البؤس والفقر. غير أن هذا النقاش
انتهى لصالح توجه آخر يرى في بقاء المؤسسات الصحية ووجود هيئات لمراقبة
الصحة العامة ومراقبة عمل الأطباء، بالإضافة إلى تنظيم الحقل الطبي من
خلال إصدار تشريعات تقنن الممارسة الطبية، وتعاقب كل ممارسة لمهنة الطب لا
يحمل تفويضاً مؤسساتياً لممارسة الطب، إما بغرامة أو بالسجن في حالة
العود، لكن أهم توصية حملها دعاة هذا الاتجاه الذي اختارته الدولة هو
مجانية العلاج، بحيث تقدم الخدمة الطبية للجميع، وتتكفل الدولة بتعويض
الطبيب، ثم إلزامية العلاج، حيث لم يعد مسموحاً أم يترك أي مريض لحال
سبيله.
لم يكن ميشيل فوكو في خضم بحثه التاريخي عن المظاهر السياسية للصحة
داخل المجتمعات الغربية، مستغرباً من الوصول إلى حقيقة سوسيولوجية
وتاريخية أخرى تهم المرض، يتعلق الأمر بالطابع التاريخي والاجتماعي للمرض
" فالأمراض تتنوع حسب الحقب والأماكن، ففي العصور الوسطى مثلا حيث الحروب
والمجاعات. ارتبطت الأمراض بالخوف والإنهاك " سكتات دماغية، حمى الدق" لكن
خلال القرن السابع عشر بدأت تضعف القيم الوطنية وكل ما يرتبط بها من
التزامات، حيث انطوت الإنسانية على ذاتها، مقابل انتشار النهم والشبق "
أمراض الزهري، الأمراض المعوية والدموية، وخلال القرن الثامن أدى البحث عن
المنفعة من خلال الخيال، إلى الاهتمام بالمسرح و الرواية والحماس إلى
نقاشات طويلة، يسهر الأفراد في الليل وينامون بالنهار، الشيء الذي أدى إلى
الهستيريا والوسواس المرضي والأمراض العصبية"[14].
تركيب:إذا كان إميل دوركايم قد أسس للبعد الاجتماعي للصحة والمرض، وكشف عن
ملامح تدخل المجتمع في ترتيب المرض وتدبير الصحة، فإن ميشيل فوكو استطاع
من خلال مشروع الأركيولوجي والجينيالوجي أن يبين الجانب السياسي والتاريخي
للصحة والطب، من خلال أبحاثه التي استطاع من خلالها الكشف عن الجانب
التاريخي والسياسي للمرض والطب والمؤسسات الطبية، فإما الجانب التاريخي
فيبدو في ارتباط المرض بالتاريخ، بما هو وضع اجتماعي وسياسي وثقافي، إذ أن
لكل فترة تاريخية أمراضها التي ترتبط بها، وهي خاصية يشترك مع فوكو في
تأكيدها مختلف السوسيولوجيين والأنتربولوجيين الباحثين في الصحة بدءاً
بمارك أوجي وروجي باستيد وكلودين هيرزليتش وصولا إلا رايمون ماسي ومارك
ترومبلاي و ستودلر…الخ. أما البعد السياسي للصحة، فيبدو في نظر فوكو في
تحول السلطة الحيوية القديمة، بما هي سلطة على الإماتة والإحياء والقتل
والإبعاد والنفي، إلى الدولة الحديثة التي أنشأت المؤسسات الطبية للعقاب
أولا وللإصلاح بعد ذلك، رغبة منها في الاستفادة من أرواح الناس وأجسادهم
في العمل الإنتاجي.
إن قيمة العمل الفوكوني المرتبطة بالصحة والمرض والمؤسسات الصحية، يجد
تجلياته اليوم ليس داخل الكتابات التي تحتفي بما أنجزه فوكو فقط، وإنما
يستمد مشروعيته كذلك من داخل الأسئلة التي طرحها فوكو، وما تزال إلى اليوم
راهنة في سياقها الأم وفي سياقات اجتماعية مغايرة