ربما
نحن نقف اليوم أمام عتبة الحداثة السياسية. لكننا نقف عاجزين مترددين،
خائفين متوجسين، نتقدم بمقدار ونتردد أو نرتدّ بمقادير. لا نجرؤ على
الولوج ولا نستطيع الرّجوع. أمامنا عقبة كأداء تعيقنا وتمنعنا. نقصد، النص
الديني. أي، المصاحف السبعة (ناقص ستة)، إضافة إلى الصحاح الأربعة (زائد
خمسة).
حمل المسلمون النص الديني على كل الوجوه المحتملة، استنفدوا كلّ
الممكنات التفسيرية، وجرّبوا كل المستويات التأويلية، من مناهج الظاهر إلى
مدارج الباطن، لكن بلا جدوى. كما لو كانوا يحملون صخرة سيزيف.
هل وصل الإصلاح الديني واللاهوتي عند المسلمين إلى الباب المسدود، أم أننا عكس ذلك نحتاج إلى فرضيات تأسيسية جديدة؟
هذا بالضبط.
الرهان على مرجعية النص القرآني لتقويض سلطة النص السنّي، بمعنى نصوص
الحديث التي شهدت تضخماً تصاعدياً لا متناهيا، فقد كان هذا هو مشروع
المفكر العربي جورج طرابيشي، المتولد عن ملحمة نقد نقد العقل العربي،
بدءاً من نظرية العقل وانتهاء إلى من إسلام القرآن إلى إسلام الحديث. وفي
هذا يوافقه جلّ القرآنيين، أو نحسب الأمر كذلك.
لكن يبقى إجراء آخر، خطوة أخرى قبل ولوج عتبة الحداثة السياسية، أو
هكذا نظن. ذلك أن الانغلاق اللاهوتي الذي لا نزال نتخبط في عتمته إلى
اليوم، هو ثمرة انقلابين قديمين وليس مجرد انقلاب واحد. نعم، هناك "
انقلاب سنّي"، استعرضه جورج طرابيشي بإسهاب. وهو الانقلاب الذي حوّل
الرسول إلى أقنوم ثان يجاور الذات الإلهية بل ويجاوزها أحياناً، ما أفسد
مبدأ التوحيد الربوبي الذي هو القصد والغاية. لكن الحاصل أيضاً "انقلاب
قرآنيّ" بموجبه أصبح النص القرآني ذاته أقنوماً ثانيا أو ثالثاً. وتحديداً
نقول، تعرّض الإسلام الرّباني لانقلابين متتاليين أو متساوقين : انقلاب
سنّي وانقلاب قرآنيّ.
وفعلا، إذا كانت البشرية لا تزال في حاجة إلى فرضية الله؛ ليس بسبب
معضلة الموت والفناء ومسألة قوانين الكون وشاعرية الوجود وحسب، وإنما بسبب
أن الوجود نفسه هو نقص في الأصل ولغز بلا حل، فإن النصوص الدينية
"المقدّسة" لكافة الأديان –وضمنها الإسلام- تنتمي إلى السياق التواصلي
والثقافي والأخلاقي للعالم القديم والمتقادم. وهي ما عادت بأي حال من
أحوال التأويل تلبي حاجيات مجتمعات الحداثة السياسية والديمقراطية
والحريات الفردية وحقوق الإنسان.
سأحاول أن أبسط أربع فرضيات حول الوحي. وقبل ذلك، أودّ التذكير ابتداء
بمنهجية بالغة الأهمية : نستطيع أن نعتبر كل فرضية جديدة صالحة أو أكثر
صلاحا، حين يكون بوسعها أن تفسر عدداً أكبر من الظواهر وتحلّ عددا أكبر من
المشاكل. وعلى هذا النحو سنرى كيف أن فرضيتنا تستطيع بالفعل أن تفسر عدداً
أكبر من الظواهر وتحلّ عدداً أكبر من المشاكل. وعلى الأقل، فإنها تفعل ذلك
بنحو أكثر معقولية وانسجاماً.
وأيضاً، قبل أن أبسط تلك الفرضيات، أرى لزاماً أن أثير اعترافاً
صريحاً، من باب الأمانة العلمية على الأقل : عندما أطلعتُ صديقي الباحث
السوري حسان جمالي على هذه الفرضية، بَعث لي شريطاً في موقع اليوتوب
للمفكّر "عالم الدين" العراقي أحمد القبانجي، والذي لم أكن أعرفه إلاّ من
خلال ترجماته لبعض مؤلفات المفكر الإيراني عبد الكريم سروش. وفي ذلك
الشريط صادفت ما يشبه فرضيتـ(ي) الأساسية. ثم أفادني أحد أعزّ أصدقائي،
الحسن الشباني، بما لديه من مكتبة ضخمة، في الاطلاع على أحد أهم مصادر هذا
التصوّر عند عبد الكريم سروش نفسه، لا سيما كتابه الذي ترجمه أحمد
القبانجي نفسه، بسط التجربة النبوية، والذي لم أكن قد اطلعت عليه من قبل.
ملخص ما قاله عبد الكريم سروش، وشرحه أحمد القبانجي، هو أنّ الوحي
القرآني –يقول القبانجي- وحي إلهيّ فعلا وربّاني بالفعل لكنه ليس من عند
الله أبداً. ولذلك، فإنّ الوحي تابع لشخصية الرسول –يقول شروس- وليس
العكس. ميزة سروش أنه يقول ذلك وهو يحمل صفة رجل دين. ميزة القبانجي أنه
يستطيع أن يقول ذلك الكلام وهو يرتدي جبّة علماء الدين. أما أنا فلست أحظى
بهذا الامتياز. لكني ربما كنت أيضاً دون جبّة أذهب غير مذهبهما العرفاني،
وربما أبعد من ذلك قليلا.
المقصود، أنّنا وعلى سبيل التوضيح، نستطيع أن نقول : ليس الله هو الذي
قال ( ويل لكلّ همزة لمزة) كما وردت في القرآن ! لكن، مثل هذا الأسلوب
يظلّ الصياغة التي عبّر بها الرسول عن الوحي الرباني الذي تلقاه في شكل
إشارات غامضة فاضت عن الغيب. أما ما نسميه بالوحي فليس سوى نور إلهي –يقول
القبانجي- يغمر قلب الرسول.
الفرضية الأولى : الوحي كتخييلما يعتبره القبانجي نورا إلهيا يغمر قلب الرسول، هو مجرد تعبير قد لا
يخلو من غموض، عمّا يسمّيه الفارابي وابن سينا وصدر الدين الشيرازي وابن
عربي وسبينوزا بالقوة التخييلية للأنبياء والرّسل.
فرضية القوة التخييلية تجعل الوحي ليس ثمرة جدل نازل كما تصور بعض
فلاسفة نظرية الفيض في الإسلام، وإنما هو محصلة جدل صاعد ينطلق من ذات
الإنسان ليحاول الاتصال مع الغيب الذي تفيض عنه إشارات وعلامات يلتقط
بعضها بعض الناس في ظروف ثقافية دقيقة. سوى أن طريق الصعود هذه المرة ليس
العقل (الرياضي) وإنما الخيال (الصوفي). لذلك ليس غريبا أن يقول محمد
إقبال عن النبوة "إنها ضرب من الوعي الصوفي"[1].
عادة ما كان الرسول يعمد إلى تنشيط قدراته التخييلية عبر ثلاث طرق وأساليب رئيسية :
أوّلا، كان يختار فترات معينة للعزلة والاعتكاف حيث كان ينعزل في غار حراء على سبيل المثال، مدة شهر في العام ولعدة سنوات.
ثانيا، كان يختار فترات الليل للاعتكاف الروحي والتعبدي. ولا شك أن سكون الليل يساهم في تنشيط قدرة الإنسان على الخيال.
ثالثاً، كان يلجأ إلى الصوم ويمتنع عن الأكل والشرب والجنس لفترات
معينة. وهي التجربة التي تساعد على تنشيط روح الخيال من باب التعويض عن
"الحرمان" المادي والجسدي.
في توضيحه لهذه المعطيات التحليلية، كتب تيودور نولدكه في مؤلفه
الضخم تاريخ القرآن : " ولا يجوز أن نغفل عن أن معظم الوحي حدث ليلا كما
يبدو، حين تكون النفس أكثر قابلية لاستقبال التخيلات والانطباعات النفسية
عما هي عليه في وضح النهار. ونحن نعلم بالتأكيد أن محمداً كثيرا ما قضى
الليل متهجداً وأنه كثيراً ما صام. وتشتدّ بالصيام القدرة على مشاهدة
الرؤى كما اكتشفت الفيزيولوجيا الحديثة مؤخرا"[2].
في كل الأحوال، فإن أهم ميزة تميز الرّسل، بحسب تأكيد ابن عربي وتوضيح
سبينوزا، ليست العلم أو المعرفة، وإنما هي ملكة الخيال، والتي هي وسيلة
الاتصال مع الصور التي تفيض عن العقل الكلي. يقول سبينوزا عن آيات الوحي
بأنها نظراً إلى أن مقصودها لم يكن سوى إقناع الأنبياء "فقد كانت هذه
الآيات تتفاوت تبعاً لآراء الأنبياء وقدراتهم، بحيث لا يمكن للآية التي
تعطي اليقين لهذا النبي أن تقنع آخر مشبعا بآراء مختلفة. لذلك، اختلفت
الآيات باختلاف الأنبياء وكذلك اختلف الوحي عند كل نبي طبقاً لمزاجه على
النحو التالي : إذا كان النبي ذا مزاج مرح توحى إليه الحوادث التي تعطي
الناس الفرح مثل الانتصارات والسلام، وبالفعل نجد أن من لهم هذا المزاج قد
اعتادوا أن يتخيلوا أموراً كهذه. وعلى العكس من ذلك، إذا كان النبي ذا
مزاج حزين توحى إليه الشرور كالحرب والعذاب، وإذا كان النبي رحيما ألوفا
غضوبا قاسيا… كان قادراً على تلقي هذا الوحي أو ذاك. كذلك فإن فوارق
الخيال تكون على النحو الآتي : إذا كان النبي مرهفاً فإنه يدرك فكر الله
ويعبر عنه بأسلوب مرهف أيضا. وإذا كان مهوشا أدركه مهوشاً. ومثل هذا يصدق
على الوحي الذي يتمثل بالصورة المجازية : فإذا كان النبي من أهل الريف
كانت صورة الوحي متضمنة للأبقار والجاموس، وإذا كان جنديا تكون صورة قواد
وجيش، وأخيرا إذا كان رجل بلاط، تمثل له عرش ملك وما شابه ذلك"[3].
على ضوء هذه الأطروحة التي تخلص الدين من الرؤية السحرية للعالم،
بوسعنا أن نلاحظ بأن الوحي عند خاتم الأنبياء والرسل، قد جاء شاملا لكل
هذا التنوع في الخيال والمزاج والمشاعر والانفعالات، وذلك بسبب الحساسية
النفسية المفرطة التي ميزت النبي محمد وجعلته ينفعل ويتفاعل بحدة مع مختلف
الظواهر الاجتماعية التي عاصرها أو عايشها. وكثيرا ما كان يدخل في صراع
نفسي مع رغباته. وكثيراً ما وبّخه وأنّبه الوحي القرآني نفسه في إطار
الصراع النفسي الذي كان يعيشه.
تلك التوترات "الإنسانية" انعكست بدورها على المزاج العام للآيات
القرآنية، والتي جاء بعضها حاداً وعنيفاً، وبعضها الآخر جاء مرناً
ومتسامحاً، وبعضها يكاد بضرب بعضها الآخر، وهكذا دواليك.
الفرضية الثانية : الوحي كتأويلآيات القرآن –والتي هي في الأصل آيات وليست نصاً نازلا من السماء- هي
مجرد ترجمة وتأويل قام بهما الرسول للإشارات الإلهية التي تلقاها عبر قوته
التخييلية.
وفي ذلك، ثلاث سمات طبعت مخيلة الرسول أثناء التقاط الإشارات ومحاولة ترجمتها إلى عبارات :
1- انها لم تكن دائماً على نفس المرتبة من القوة والإتقان. وهذا ما
يفسر ظاهرة وجود آيات محكمات وآيات متشابهات. وهو ما تعبر عنه الآية : (هو
الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخرٌ متشابهات) آل
عمران، 7.
2- انها ليست دائما على نفس المستوى من القيمة والأفضلية، وأن هناك
آيات "خير" من آيات أخرى، بحسب ما تعبّر عنه الآية (ما ننسخ من آية أو
نُنسِها نأت بخير منها أو مثلها) البقرة- 106. وهناك آيات "أحسن" من آيات
أخرى، بحسب ما تؤكده الآية (واتبعوا أحسن ما أنزل إليكم من ربكم) الزمر-
55.
3- انها ليست معصومة عن الخطأ، وذلك سواء بسبب الصراع النفسي الذي عانى
منه الرسول أو جراء ظروف إملاء وكتابة المصاحف قبل ظهور قواعد جامعة للغة
العربية. وهذان الاعتباران يفسران ظاهرتين اثنتين : أولاهما، تسرب بعض
الآيات الشيطانية قبل نسخها، فيما تبرره الآية ( ما أرسلنا من قبلك من
رسول ولا نبي إلا إذا تمنّى ألقى الشيطان في أمنيته فنسخ الله ما يلقي
الشيطان ثم يحكم الله آياته والله عليم حكيم ) الحج، 52؛ ثانيهما، تسرب
بعض الهنات أو الالتباسات النحوية إلى النسخة المكتوبة للمصحف. سنعود
إليها في موضوع لاحق.
الفرضية الثالثة : كمال النبوّة لا يعني كمال الوحي
والآن، كيف كان الرسول يحول الإشارات إلى عبارات؟
لا جواب في التراث.
سنعول على المقاربة التحليلية.
على سبيل التقريب، لقد تمثل الوجود الكلي للرسول في صورة فهمها
واستوعبها بما هو متاح له وقتها من ألفاظ وعبارات وأساليب تعبيرية. ثم
ترجمها إلى عبارات بسيطة تصف الله بأنه (هو الأول والآخر والظاهر والباطن)
الحديد- 3.
وأيضا، لقد تمثل له الوجود الكلي في شكل صورة أو صور توحي بمبدأ
الصيرورة الكونية الجارفة، والتي أدركها الحكيم هيراقليطس، لكن الرسول، لم
يجد ضمن المتاح اللغوي والثقافي العربي وقتها ما يعبر به عن تلك الصورة
سوى عبارة تصف الله، والذي هو الوجود الكلي، بأنه (كل يوم هو في شأن)
الرحمان- 29.
وكثيراً ما تمثل له مقام الربوبية في شكل يبعث على الإحساس بمقام ملك
عظيم جالس على عرشه، أو هكذا رآه. غير أنه لم يجد في مخزون اللغة العربية،
والتي كانت لا تزال في طور البناء والتشكل، ما يعبر به عن مثل هذا المقام
سوى أن يكتفي بتوصيف حسّيّ يقول : (ثم استوى على العرش) الأعراف- 54، أو
الرحمان على العرش استوى) طه- 5.
بل، ليست اللغة مجرد أداة للتعبير عن الصور التي يتلقاها العقل أو
المخيلة. وإنما هي الوعاء الذي يمنح للتمثلات شكلها. ولذلك، فإن اللغة
العربية ساهمت في تحديد شكل الوحي الإسلامي.
وبما أن اللغة كانت لا تزال في طور التشكل وتفتقد إلى القواعد النحوية والمفاهيم النظرية، فقد جاء الوحي بهذا المعنى "ناقصا".
ولا يظننّ أحد أن نقص الوحي يعني انتقاصا من الذات الإلهية. أبدا، فهو
فقط دليل على نقص اللغة البشرية وعوز العقل الإنساني، ودليل على انفراد
الله بمطلق الكمال.
لقد فهم المسلمون مفهوم ختم النبوة بنحو خاطئ؛ إذ ظنوا أن ختم النبوة
رديف لاكتمال وكمال الوحي، ومن ثمة ضرورة الاعتماد عليه إلى أبد الآبدين.
إلا أن كمال النبوة لا يعني كمال الوحي.
ولربما كان محمد إقبال أول من تنبه إلى خطأ الخلط بين كمال النبوة
وكمال الوحي. كتب يقول : "إن النبوة في الإسلام لتبلغ كمالها في إدراكها
الحاجة إلى إلغاء النبوة نفسها. وهو أمر ينطوي على إدراكها العميق
لاستحالة بقاء الوجود معتمدا إلى الأبد على مقود يقاد منه، وأن الإنسان،
لكي يحصل كمال معرفته لنفسه، ينبغي أن يُترك ليعتمد في النهاية على رسائله
أو وسائله هو"[4].
فما عساها تكون تلك الرسائل أو الوسائل، إن لم تكن مستمدة من داخل الخطاب الفلسفي هذه المرة؟
لقد استطاع فلاسفة الإسلام بنحو كبير أن يوسعوا من الوعاء المفاهيمي
لكي يصير أكثر قدرة على استيعاب تصور أكثر "معقولية" للذات الإلهية، يقوم
على مفاهيم الوحدة والقدم والامتداد البسيط واللامتناهي، وعدم احتلال أي
حيز في الزمان والمكان. ولذلك، فحتى الفقهاء الذين اضطروا إلى البحث عن
"معقولية" ما للذات الإلهية، لم يجدوا بدا من الاعتماد على نصوص الفلاسفة
في هذا المضمار.
غير أن الفلاسفة الذين طوروا الخطاب اللاهوتي، تمردوا في المقابل على
"سلطة" النص الديني. وهذا ما لم يغفره لهم الفقهاء، لا سيما منهم الذين
يتبعهم الغافلون.
الفرضية الرابعة : الآيات كعلاماتإذا كان الوحي آيات، فإن الآيات وفق التحديد القرآني، ليست نصا مغلقا
أو نصوصا مقدسة ولا هي مدونة أحكام وأوامر، وإنما هي علامات وإشارات
ربانية يفيض بها الكون. كما أن الوحي نفسه وفق التوصيف القرآني وبحسب رؤية
محمد إقبال، هو "صفة عامة من صفات الوجود"[5].
( ومن آياته الليل والنهار والشمس والقمر) فصلت– 37.
( ومن آياته خلق السماوات والأرض واختلاف ألسنتكم وألوانكم) الروم- 32.
( ان في اختلاف الليل والنهار وما خلق الله في السماوات والأرض لآيات لقوم يتقون) يونس-6.
بعض تلك الآيات والعلامات والإشارات الربانية، منظور ومرئي للجميع، وأما بعضها الآخر فلا يُدرك إلا من خلال أعلى مراتب المخيلة.
ولذلك لا غرابة أن يرى النبي محمد نفسه مخاطباً وحيداً أو رئيسيا في
الكثير من آيات القرآن المكي؛ طالما أنه كان الشخص الأقدر على تمثل أفق
التوحيد الربوبي للإسلام الخالص :
- قل هو الله أحد… (الإخلاص1)
- قل أعوذ برب… (الناس1 والفلق1)
- قل يا أيها الكافرون… (الكافرون1)
- قل أوحي إليّ أنه استمع… قل إني لا أملك لكم ضرا ولا رشدا. قل إني لن يجيرني من الله أحد… (الجن 1 و21 و22).
- يا أيها الزمل قم الليل… إنا سنلقي عليك قولا ثقيلا… واصبر على ما يقولون… (المزمل1… و4 … و9…).
- يا أيها المدثر. قم فأنذر. وربك فكبر… (المدثر1 و2 و3…)
- ألم نشرح لك صدرك… (الشرح 1)
- ألم تر كيف فعل ربك… (الفيل1 والفجر 6)
- أرأيت الذي يكذب بالدين… (الماعون1)
- اقرأ باسم ربك… (العلق1)
- إنا أعطيناك الكوثر .. فصلِّ لربك وانحر… (الكوثر1 و2)
- … ما ودعك ربك وما قلى… ولسوف يعطيك ربك فترضى… وأما بنعمة ربك فحدث (الضحى 1 و5 و11).
…
مجمل القول، إن الوحي مجموعة من الصور والعلامات والأصوات الغامضة
والمتناثرة والفائضة عن الغيب، والتي قد تفلح مخيلة الرسول في التقاط
بعضها، بعد جهد ذاتي جهيد وإصرار عنيد، قبل أن تحاول ترجمتها إلى لغة
بشرية. وهذا داخل سياق ثقافي وتاريخي مستنفر أصلا نحو أفق انتظار النبوة.
وإن كانت مدارج البيان تتفاوت تبعاً لتفاوت قوة المخيلة بين لحظة
وأخرى، فقد انعكس ذلك التفاوت في الأخير على أسلوب القرآن نفسه، والذي يظل
في كل أحواله أسلوباً بشرياً وتراثياً، بل وقدامياً أيضاً. إن القرآن هو
في آخر التحليل، كلام يعكس ثقافة الرسول ومخيلته ولغته وعصره