إنّ
الاعتقاد العربي القديم بالجنّ، هؤلاء المخلوقات الظليلة، الأرواح الخفية،
الذين يشابهون البشر، بكونهم منهم الخيّرون ومنهم الأشرار، تمّ تأكيده في
الأجزاء المكّية من القرآن، حيث يرد اصطلاح الجنّ ومشتقاته المتصلة به نحو
ثمانية وأربعين مرة. وقد ورد اصطلاح «الجنّ والإنس» وأيضاً «الجِنّة
والناس(22)» وسياقات أخرى قليلة يرد فيها ذكر المجموعتين سوياً، نحو عشرين
مرة؛ أما مفهوم «استحواذ الجنّ» الذي يتخلله اصطلاح «مجنون» والتعبير
المرادف «به جِنّةٌ» فقد ورد ستة عشر مرة. وإضافة إلى هذين الاستخدامين
الأساسين والسياقات التي نوقشت أعلاه، حيث قيل فيها عن آلهة عربية محددة
أنها «جنّ» ([سبأ34: 40-42] و[الصافات37: 158-166] و[الأنعام6: 100])/
فإنّ الجنّ ورد ذكرهم في السياقات التالية:
- (1) في سورة [الحجر15: 27] و[الرحمن55: 15] التي ذكر فيهما أنّهم قد خلقوا من نار.
- (2) في سورة [الكهف18: 50] التي ذكر فيها إبليس بأنه واحد من الجن.
- (3) في سورتي [الأحقاف46: 29] و[الجن72: 1] اللتين أشارتا إلى أنّ بعضاً من الجنّ تحوّلوا إلى مؤمنين بعد سماعهم تلاوة القرآن.
- (4) في سورتي [النمل27: 39] و[سبأ34: 12-14] حيث يعمل هنا الجنّ كـ عبيد أو خدم لسليمان.
وبالرغم
أنّ الكلام عن الجنّ في سورة [الجن72: 8 وما بعدها] حيث لا يرد فيها
اصطلاح الجنّ، فإنها تقرّر أنهم شركاء في رؤية «أسطورة الشهاب» (يشير ولش
إلى الآيتين: «وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاءَ فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ
حَرَسًا شَدِيدًا وَشُهُبًا/ وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ
لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآَنَ يَجِدْ لَهُ شِهَابًا
رَصَدًا»[الجن72: 8-9].م). وطبقاً للتأريخ الإسلامي التراثي وأيضاً لـ
مدرسة نولدكه وفايل وبلاشير، كل الآيات الثمانية والأربعين تنتمي إلى
السياقات المكية، في حين أنّ بل (ريتشارد.م) يعتبر أنّ [سبأ34: أية 41]
(نوقشت أعلاه) و[الأنعام6: آية 112] أنهما من المحتمل من الآيات المدنية
الأوائل. وبغضّ النظر عن الترتيب التأريخ/ المتبع، فإنّه من الواضح منذ
فترة تغيير القبلة ومعركة بدر، أنّ اصطلاح الجنّ قد توقّف وروده في وحي
القرآن اللاحق. لماذا؟ إنّ مصير الجن وأدوارهم المختلفة في القرآن إضافة
إلى أهميتهم المقصودة في اعتقاد المسلم، يمكن فهم ذلك ربما فقط في ضوء
التأكيدات القرآنية حول أطراف ومخلوقات العالم الروحيّ.
وبحسب
مصيرهم وأدوارهم في القرآن، فإنّ الجنّ يتصلون بنحو شديد الشياطين.
والاصطلاح الأخير (جمع شيطان) الذي يعني «Satan» حينما يرد مع أداة تعريف،
فإنه ورد في القرآن ثمانية عشر مرة:
- (1) في سورتي [الأنبياء21: 82] و[ص38: 37]، حيث تعمل الشياطين كخدم وعبيد لسليمان.
- (2) في سورة [الملك67: 5] (الشهاب الثاقب).
- (3) في سورة [الأنعام6: 71] كـ تفسير للجنون.
-
(4) في سورتي [المؤمنون23: 97] و[الشعراء26: 210 وآية 221] بخصوص العلاقة
مع وحي محمد (والآيتان الأخيرتان هما ردّ على اتهامات أعداء محمد بأنه
يتلقى الوحي من الشياطين).
- (5) سور [الأعراف7: 27 وأية 30] و[الأعراف17: 27] و[مريم19: 68 وآية 83] التي تتعلق في الإغواء والعقاب على الذنوب.
- (6) سورة الصافات [الصافات37: 65] التي يرد فيها اسم الشيطان كاستخدام اصطلاحي.
- (7) في سورة [البقرة2: 14 وآية 102] (مرتين) وسورة [الأنعام6: 112 وآية 121] اللتين تشيران إلى «أعداء محمد البشريين».
وكما
يظهر من الأصناف الأولى الأربعة للشياطين، فإنّ طبيعتهم ودورهم، متماثل مع
الجن التي ترد في سياقات متوازية أو متصلة في القرآن. بينما في الصنف
الخامس يمكن اعتبارهم أيضاً جنّا، أي كـ «جنّ عدوّ/ جنّ شرّير» الذي يرد
في [الأنعام6: 112]، حيث الشيطان هنا ينطبق صراحة على البشر والجنّ:
«وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الإنْسِ
وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا
وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ».
إنّ
العلاقة بين اصطلاحي الجنّ والشيطان في القرآن علاقة واضحة وجلية.
فالسياقات التي ترد فيها هذه الأرواح العفريتية بكونها عدوّة، ومؤذية أو
كافرة، فإنّ الاصطلاحين مترادفان ومتبادلا الأدوار(23). ومع ذلك، ثمة
اختلافات مهمة في الاستخدام القرآني للاصطلاحين: «الشيطان» دائماً يحمل في
القرآن دلالة العداء والشر والكفر؛ وفي استخدامه اللاحق، في السياق المدني
المبكر، فإنه يشير بوضوح إلى أعداء محمد البشريين، وعلى الأرجح اليهود؛
بينما اصطلاح «الجن» من جهة ثانية، فإنه يرد بعض الأحيان بكونهم مؤمنون،
ولم يطبق هذا الاصطلاح أبداً في القرآن على أعداء محمد من البشر. التماثل
الفاقع للاصطلاحين في استخدام القرآن لهما، أنهما أسقطا من القرآن أو توقف
ذكرهما في الوحي اللاحق بنفس الوقت، ما بين الهجرة (هجرة محمد إلى يثرب.م)
وما بين معركة بدر.
وفي هذه الفترة أيضاً حدث
تطور مساوٍ (رغم أنه مغاير تماماً) في تصوير القرآن لطبيعة ودور الملائكة،
وخاصة في علاقتهم مع البشر. من المهم تسجيل أنّ المخلوقات الإلهية، التي
دُعيت في أحيان خاصة بـ «الملائكة»، وفي أحيان أخرى بمصطلحات أخرى، لم ترد
في بدايات الوحي القرآني. أما في الأجزاء الأخيرة من الفترة المكية وأوائل
الفترة المدنية جداً حيث بدأت تظهر لفظة الملائكة بنحو واضح، وذلك، كما هو
في السياقات التالية:
- (1) في المشاهد العلويّة حيث يحيطون
بعرش الله، أو يحملونه، وهم يسبحون بحمده؛ وفي سياق قرآني «يطلبون العفو
لمن هم على الأرض /وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الأرْضِ» ([الشورى42: 5]
وأيضاً [الزمر39: 75] و[الحاقة69: 17] و[الأعراف7: 206] و[الأنبياء21: 19
وما بعدها] و[الصافات37: 164-166] وسورة [غافر40: 7] التي لا يرد فيها
اصطلاح الملائكة).
- (2) في مشهد يوم الحساب الأخير حيث يسائل
الملائكةٌ الناسَ، أو يشهدون ضد المذنبين، ومن ثم يقودون المؤمنين إلى
الجنة والمسيئين إلى النار ([الفرقان25: 22-26] و[فصلت41: 30] و[الحاقة69:
17] و[النبأ78: 38] وسورة [النحل16: 27-33] التي تحوي في سياقها إضافات
لاحقة).
- (3) في القصة التي روي فيها أنّ الملائكة أُمروا
بالسجود لآدم: «فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ إلا
إبليس..» ([الجحر15: 30] و[ص38: 73] مع اختلاف في سورة [البقرة2: 34]
و[الأعراف7: 11] و[الإسراء17: 61] و[الكهف18: 50] و[طه20: 116]).
-
(4) في الورود القرآني الوحيد عن القصة الذي يخبر بأن الملائكة قد أُعلموا
بشأن خلق الإنسان رغم أنهم لم يستشاروا حقيقة بخصوص هذا الخلق؛ ثم تم
تحدّيهم بخصوص مجاراة علم أو معرفة آدم (البقرة2: 30-33)(24).
في
سياقات مكية أخرى، والتي ادعي أنّ أرواحاً ماورائية، ظُنّ بأنها Angels،
رغم أنهم لم يُسموا بـ «أنهم ملائكة»، يردون في سياق أدوار أخرى:
-
(1) كـ «أمناء» أو «حافظين»، الذين يسجلون أعمال البشر (حافظون
[الانفطار82: 9- 12]، وكذلك سُموا بـ «حفظة» في [الأنعام6: 61 وما
بعدها])، أشير إليهم بـ «المعقّبات» في [الرعد13: 10]، وبـ الـ «رُسُل» في
[يونس10: 21] و[الزخرف43: 80 وما بعدها].
- (2) كـ «رسل» أو
«سفراء» الله، الذين زاروا إبراهيم ليبشروا بولادة ولد له، ولإنذاره
بالتدمير الوشيك لمدينة «قوم لوط» (دُعوا بـ «الرسل» في [هود11: 69]
و[العنكبوت29: 31]…الخ؛ ودعوا: «المرسلون» في [الحجر15: 57] و[الذاريات51:
31]…الخ؛ وأشير إليهم أيضاً بكونهم «ضيوف» إبراهيم في [الحجر15: 51]
و[الذارايات51: 24]).
- (3) كـ «رسول» يظهر لمريم، ومن ثم يبشر بولادة يسوع ([مريم19: 19]).
- (4) كـ «رُسُل» الله الذين «يتوفون» الناس في فترة الموت ([الأنعام6: 61] و[الأعراف7: 37]).
ربما
لا يمكن فهم هذه السياقات وطبيعة ودور الملائكة كما صُوّروا، إلا فقط
عندما يُقارنوا بالسياقات المدنية اللاحقة، والتي حدثت فيها تطورات مهمّة
بخصوص التصوير القرآني للملائكة.
يمكن تأريخ
نقطة التحول بنحو دقيق إلى حدّ ما، في فترة ما بين تغيير القبلة ومعركة
بدر. وثمة ثلاثة نصوص تنتمي لهذه الفترة تطالب بالإيمان بالملائكة
([البقرة2: 177 وآية 285] وفي [النساء4: 136] وجميع هذه النصوص قد نوقشت
أسفله في القسم التالي). ومن ثم بعد معركة بدر، تظهر الملائكة في السياقات
القرآنية، تحديداً بكونهم "ملائكة"، ولها أدوار جديدة:
- (1) كـ «داعمي» المؤمنين في المعركة ([آل عمران3: 123-125] و[الأنفال8: 9 وآية 12]).
- (2) كـ «داعمي» النبي محمد في النزاعات العائلية ([التحريم66: 4-5]).
-
(3) كـ «حاملي» الأخبار الجيدة، والتي سلموها مرة إلى زكريا ومريم بخصوص
الولادة الوشيكة لـ يوحنا (المعمداني) ويسوع ([آل عمران3: 38-47])(25).
-
(4) كـ «وكلاء» للموت الذين «يتوفون» الناس ([النساء4: 97] و[الأنفال8:
49-51] و[النحل16: 28 وآية32 وأشير إلى الآية سابقاً] و[محمد47: 27]).
لقد
حدث حقيقة التغيّر الدراماتيكي في تصوير القرآن سواء لطبيعة أو دور
الملائكة بعد معركة بدر. وقد كان أعداء محمد قبل بدر قد طالبوا بإرسال
ملائكة كـ دليل مرئي على حقيقة رسالة محمد، كما هو في: [الحجر15: 6 وما
بعدها] «وَقَالُوا يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ
إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ/ لَوْ مَا تَأْتِينَا بالملائكة إِنْ كُنْتَ مِنَ
الصَّادِقِينَ». يعكس هذا الافتراض [التصويري.م] بخصوص ظهور الملائكة
للناس بنحو مرئي أو حتى بشكل بشري، النظرة التي في الروايات المكية لقصص
الرسل الملائكيين الذين أرسلوا إلى إبراهيم ومريم. إنّ الصيغة البشرية
للرسل الملائكيين في سورتي [هود11: 69 وما بعدها] و[الذاريات51: 24 وما
بعدها] مظهر أساسي للقصة، ذلك أن الرواية فيها تُظهر أنّ إبراهيم كان
يمتلك وجبة طعام مجهزة لضيوفه، ولم يكتشف هويتهم الحقيقية، وأصبح خائفاً،
إلا فقط عندما رفضوا الأكل، وبالتالي كُشف بعدها طبيعتهم الإلهية أو
الملائكية. إنّ الخوف من الرسل الملائكيين الذين يظهرون بصيغ بشرية، قد
أُكد عليه أيضاً في الرواية المكية في البشارة في [مريم19: 16 وما بعدها]
التي يقول فيها رب مريم: «فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ
لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا/ قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ
إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا/ قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ
لَكِ غُلَامًا زَكِيًّا».
خلال الفترة المكية
كلها وحتى معركة بدر، لم يرسل، على أية حال، إلى محمد ملائكة، والرد
الوحيد على تحدّي معارضي محمد من قبل القرآن (في سورة [الحجر15: 6 وما
بعدها]) هو ما قرره في: [الحجر15: 8]: «مَا نُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ إلا
بِالْحَقِّ [هنا على ما يبدو في مشهد الحساب] وَمَا كَانُوا إِذًا
مُنْظَرِينَ»(26).
وبعد معركة بدر أعلن القرآن أنّ نصر المسلمين
فيها على الجيش الكبير المكي الذي يفوق جيش المسلمين بكثير، هو نصر معجزة،
دلالة مرئية على سيادة الله وعلى حقيقة رسالة محمد: «وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ
اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ… إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ
أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بثلاثة آلاف مِنَ
الملائكة مُنْزَلِينَ/ بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ
مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلاف مِنَ
الملائكة مُسَوِّمِينَ» [آل عمران3: 123-125]. وهذا كان في الحقيقة، ردٌّ
على مطلب إرسال الملائكة كـ علامة/ دليل، لكن مع اختلاف فاقع: الملائكة
الذين شاركوا في معركة بدر، كما قيل، كانوا محجوبين غير مرئيين، ذلك أنه
من الواضح أنّ الذين شاركوا في قتال بدر لم يكونوا مدركين لوجودهم. وهذه
النظرة القرآنية- ما بعد معركة بدر للملائكة أيضاً يمكن قراءتها في
الرواية المدنية لإعلان ولادة يوحنا (المعمداني) ويسوع في سورة [آل
عمران3: 38-47] والتي تبدأ: «هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ
رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ
الدُّعَاءِ/ فَنَادَتْهُ الملائكة وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي
الْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ
مِنَ اللَّهِ وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ/ قَالَ
رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غلام وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي
عَاقِرٌ قَالَ كَذَلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ». زكريا هنا لوحده
في المحراب يؤدي صلاته إلى الله وحتى بعد الرسالة يقال أنه تسلمها من قبل
الملائكة(27). النتيجة نفسها للأحداث أيضاً تظهر في [آل عمران3: 42 وما
بعدها] التي يحضر فيها الملائكة المخفيين إلى مريم مرتين؛ وفي المرة
الثانية [آل عمران3: 45 وما بعدها] التي تبدأ: «إِذْ قَالَتِ
الْمَلائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ
اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ…»؛ ثم تجيب على ذلك: «قَالَتْ
رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ». مريم هنا
غير مدركة لوجود الملائكة، ولا الملائكة تكلموا معها، ذلك أنها، مثل
زكريا، أجابت بالكلام بنحو مباشر إلى الله.
إنّ مقارنة بين
الرؤى المكية والرؤى ما بعد معركة بدر لقصص إرسال رسل ملائكيين يزورون
إبراهيم ولوط وزكريا ومريم، تظهر تغيراً أو تطوراً متناغماً في تصوير
القرآن للملائكة: لم يُدع أبداً الرسل الملائكيون في النصوص المكية بنحو
خاص بـ «الملائكة» الذين يظهرون بصيغة بشرية؛ بينما في الفترة ما بعد بدر،
وفي نفس القصص، الرسل يدعون بـ «الملائكة»، وهم غير مرئيين، كما أنّ الذين
يتكلمون معهم غير واعين أو مدركين لوجودهم. وهذه النظرة الأخيرة للملائكة
متناغمة مع تجربة المسلمين الذين قاتلوا في معركة بدر. وثمة تطور مماثل
يرد فيه ذكر اصطلاحي «الرسل» (الاصطلاح العام) والاصطلاح الخاص «ملائكة»،
هو –أي التطور- في فترة ما قبل بدر وما بعدها بخصوص نصوص الموت «توفّى»:
ففي الوقت الذي دُعي فيه وكلاء الموت بـ «الرسل» في فترة ما قبل بدر، نجد
أنه في النصوص اللاحقة، ما بعد بدر، دُعوا دائماً بـ «الملائكة». إنّ نصوص
الموت هذه، تزود حتى بإضاءة أوضح للتطور القرآني في تصوير الله نفسه
والمخلوقات الأخرى الماورائية، وخاصة أنّ معظم السياقات المكية تقرّ أنّ
الله نفسه هو الذي «يتوفى» الناس في وقت الموت (انظر: [يونس10: 46 وآية
104] و[الرعد13: 40] و[النحل16: 70] و[غافر40: 77]… الخ)(28). وهكذا، فإن
الوظيفة المعزية إلى الله و«رسله» في السياقات المكية، قد أعزيت بنحو خاص
ومتناغم إلى «الملائكة» في سياقات ما بعد بدر. النمط نفسه في هذا التحول
في الوظيفة أيضاً يمكن قراءته في حالة «وكلاء الوحي»: في السياقات المكية
الموحي هو الله نفسه (وأحياناً الروح التي تُسلم الرسالة إلى محمد)، بينما
في سياق مدني واحد [البقرة2: 97]، وكيل الوحي هو بنحو محدد جبريل.
وبالتالي،
إنّ الأهمية والدلالة القصوى للملائكة في وحي ما بعد بدر، يندرج فيهما
دورهم وطبيعتهم وعلاقتهم مع الله والإنسان. لقد كان دورهم الرئيس في
سياقات ما قبل بدر هو في خدمة أو عبادة الله في مختلف الأمور الإلهية، في
اليوم الآخر، وأحداث جهنم؛ بينما في سياقات ما بعد بدر، فإنّ أدوارهم
الرئيسة هي في العلاقة أو مساعدة الإنسان في سياقه الحاضر والحوادث
التاريخية. وهكذا، فإنّ الملائكة اقتربت أكثر من الناس.
ومن
الأهمية بمكان، أنّ التطور هذا قد حدث في الوقت نفسه الذي توقف فيه ذكر
الجن والشياطين وإبليس وجنوده في القرآن اللاحق، والذي حدث فيه (في الوقت
هذا) أنّ التأكيد على «واحديّة» الله وإنكار وجود آلهة أخرى، قد وصل تطوره
إلى قمته بشأن التعامل مع المواضيع الرئيسية في الوحي. وهكذا، فإن القرآن
يصور في الوحي المكي المتأخر والمدني الباكر الاستقطابَ المتزايد للقوى
الماورائية للشر والخير بالنسبة لحياة الناس. وبينما يظهر الإسراف في
القوى الماورائية في الوحي المكي بهويتهم وعلاقاتهم بشكل غير واضح، ففي
أقسام الوحي المدني (أو إذا شئنا الدقة ما بعد بدر) للقرآن كل القوى
الماورائية، لكن غير الإلهية، بالنسبة للخير، تركزت في الملائكة؛ وكل
القوى الماورائية، لكن غير الإلهية، بالنسبة للشر، تركزت في مخلوق واحد هو
الشيطان. وكما لاحظنا في تناول الملائكة في القرآن، الشيطان أيضاً اجتاز
تحولاً تدريجياً من الحقل الأسطوري إلى الدنيوي. إنّ الشخصيات/التشخصات
القوية لإبليس وسقوط الملائكة والشيطان، والمغوي الماكر الذي يصور شخصيات
الأفعى في قصة سقوط آدم..كلها قد ذابت في مخلوق واحد، في فترة الرواية
الأخيرة للقرآن للقصتين في آيات [البقرة: 34- 38](29).
الإيمان بالملائكة والشيطان ورموز القوة الإلهية:تحتوي
الأجزاء المكية المتأخرة والمدنية سلسلة من التقارير العقائدية، غالباً في
سياقات تطالب بالقيام بطقوس دينية محددة مثل الصلاة والزكاة. وتعكس هذه
التقارير بنحو واضح الاهتمامات والمواضيع التي سيطرت على الوحي في مختلف
أوقات هذه الفترة. وتركز السياقات المكية والمدنية الباكرة جداً على
الإيمان بـ «آيات signs» رب محمد كما هو في [المؤمنون23: 58](30) ،
والإيمان بالآخرة كما في [النمل27: 4](31) والإيمان بالقرآن (الجمع
الشفاهي للتلاوات التي وجدت قبل البدء بكتابة الوحي في صيغة كتاب) كما في
[يونس10: 37-40]. إنه فقط في السياقات المدنية التي طُلب فيها الإيمان
بالله خاصة كما في [الطلاق65: 11]، بينما أصبح الإيمان بالقرآن إيماناً بـ
«الكتاب» كما في [البقرة2: 177] (سيأتي ذكرها)، وغالباً ما أشير إليه بكل
بساطة «بِمَا نَزَّلْنَا» [آَمِنُوا بِمَا نَزَّلْنَا] في [النساء4:
47]…الخ؛ وأصبح الإيمان بالآخرة، إيماناً بـ «اليوم الآخر» كما في
[البقرة2: 62] «مَنْ آَمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَعَمِلَ
صَالِحًا….». لقد أشير إلى الإيمان «بالله واليوم الآخر» في سياقات مدنية
كثيرة(32) كما هو الحال «بالله ورسوله» في [النور24: 62]: «إِنَّمَا
الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آَمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ»(33)، أو
الإيمان «بالله ورسله» كما في [آل عمران3: 179] «فَآَمِنُوا بِاللَّهِ
وَرُسُلِهِ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ»(34).
إنّ
النص القرآني المبكر الذي يطالب صراحة بالإيمان بالملائكة هو [البقرة2:
177] الذي يعود تأريخه إلى فترة تغيير القبلة: «لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ
تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ
الْبِرَّ مَنْ آَمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَالْمَلائِكَةِ
وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ(35) وَآَتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي
الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ
وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآَتَى
الزَّكَاةَ». إن الإيمان بالملائكة مؤكد عليه صراحة في نصين آخرين، إلى حد
ما لاحقين، في [البقرة2: 285] و[النساء4: 136]، والصيغة القرآنية الأخيرة
[نص النساء.م] لعقيدة المسلم يعود تاريخها إلى فترة معركة بدر تقريباً:
«يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا آَمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ
وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي
أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ
وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضلالاً
بَعِيدًا». هنا، غدا الإيمان «بالملائكة» إيماناً «بملائكته»، بينما
«الكتاب» أصبح «كتبه»(36)، و«الأنبياء» أصبحوا «رسله». وهذه هي الصيغة
الأخيرة ضمن سلسلة التقارير القرآنية العقائدية الطويلة، والتي تطورت
تزامناً مع عملية استقطاب القوى الإلهية في الوحي المكي الأخير والمدني
المبكر. وليس صدفة بالتأكيد أن هاتين العمليتين وصلا أوجهما (قمة
تطورهما.م) في الوقت نفسه، وذلك تقريباً في فترة معركة بدر.
وهكذا،
فإنّ «الموقف القرآني الأخير» بخصوص الله والمخلوقات الإلهية الأخرى، لا
تتوضح بنحو ثابت إلا في سياقات فترة معركة بدر وما بعدها، حيث نرى تضاريس
الله واضحة في كل قوته وعظمته مع صفاته الكثيرة الوصفية؛ ومعه فقط تكون
الملائكة والشيطان. كما أنّ استقطاب القوى الإلهية، مع التأكيد على قوة
الله المطلقة قد تموضع في التحول في طبيعة، إذا لم نقل في وجود، الملائكة
والشياطين. لقد غدت الملائكة ليست أكثر من رموز وامتدادات في القوة
الإلهية كما ظهر معنا في النص التبشيري في سورة [آل عمران3] الذي نوقش في
القسم السابق، وأيضاً في السياقات التي تتحدث عن الملائكة كـ شواهد أو
داعمين لمحمد، مثل [التحريم:66: 4] «إِنْ تَتُوبَا(37) إِلَى اللَّهِ
فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ
هُوَ مَوْلَاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلَائِكَةُ
بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ»، و[آل عمران3: 18] «شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا
إِلَهَ إلا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا
بِالْقِسْطِ لا إِلَهَ إلا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ» و[النساء4: 166] «
لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ
وَالْمَلَائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا».
وبما
أنّ المكيين وجيرانهم قد استمروا في عبادة اللات والعزى ومناة حتى تمّ
تدمير معابدهم الثلاثة في السنتين الثامنة والتاسعة بعد الهجرة (ابن اسحق:
565 و 615 وما بعدها. وات 1956: 69 و103)، فإن وجود هذه الأصنام استمر في
تأثيره على التطور الفكري للقرآن. وفي السنوات المكية المبكرة، لم تعد هذه
الآلهة تُعرّف كـ ملائكة، ذلك أنّ هذه الرموز للقوة الإلهية لا تستطيع فعل
أيّ شيء، بعكس إرادة الله؛ ولا حتى كذلك الجن، لكون هذه الأرواح لم تعد
تذكر في القرآن، ولم يعد لها من مكان كما هو مفترض في اعتقاد ونظرة المسلم
التي تأسست حديثاً. وهكذا، فإن القيام بطقس الصلاة في [النساء4: 117-119]
لتلك الآلهة، سيغدو الآن صلاة لـ «الشيطان المريد»، وسيغدو كذلك القيام
بالطقوس الدينية المتصلة بهذه الآلهة أوامر من قبل الشيطان: « إِنْ
يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إلا إِنَاثًا وَإِنْ يَدْعُونَ إلا شَيْطَانًا
مَرِيدًا/ لَعَنَهُ اللَّهُ وَقَالَ لأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ
نَصِيبًا مَفْرُوضًا/ لأضلنّهم ولأمنّيهم وَلَآَمُرَنَّهُمْ
فَلَيُبَتِّكُنَّ آَذَانَ الأنعام ولآمرنّهم فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ
اللَّهِ وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللَّهِ
فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُبِينًا/ يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا
يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا». الشيطان في سياق فترة ما بعد
بدر، أثناء التطور الموازي للملائكة، يظهر ليس أكثر من رمز، خال من
الشخصية الفاعلة، كما هو الحال في النصوص المبكرة. لقد أصبح الشيطان رمزاً
للشر والكفر والوثنية: «إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِنْهُ
وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً(38) لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ
وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ
وَيُثَبِّتَ بِهِ الأقْدَامَ» [الأنفال8: 11] وفي نص مدني لاحق: «يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ والأنصاب
والأزلام رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ
تُفْلِحُونَ» [المائدة8: 90].
خاتمة:لقد
أظهرت هذه الدراسة أنّ «الله» لم يظهر في القرآن إلا فقط بنحو تدريجي.
وإضافة إلى التوازي الذي أخذه تصوير الله التدريجي فيه، فهناك أيضاً
التطورات التي لحقت بالآلهة والمخلوقات الماورائية الأخرى. لقد دُعي ربّ
محمد بعد حضوره الأول غير المسمى في القرآن، دُعي لفترة بـ «الرحمن»، ومن
ثم عُرّف مع «الآلهة العربية العليا» بـ الله؛ وأخيراً اعترف به كـ إله
اليهود والمسيحيين. لقد حددت هذه التعريفات في هوية الله مهمة محمد
الرئيسية، ورسمت له ضرورة مسلكه بخصوص رسالته. ففي البداية، كان عليه أنْ
يفصل الله عن الآلهة العربية الأخرى في عقول الناس، ومن ثم ليقنعهم كلهم،
بمن فيهم اليهود والمسيحيون، بأنّ الله وحده هو فقط يستحق العبادة، وهو
غير متداخل على الإطلاق مع كل المخلوقات الأخرى -الآلهة، والأنبياء
والملائكة…الخ- والتي «ارتبطت» به (سابقاً.م). ومن المعلوم أنّ هذه المهمة
الكبيرة لن تنجز بنحو مباشر، بل على مراحل عديدة. ففي البداية، أشار
القرآن لمظاهر محددة حول اعتقادات أو نظرة الناس، في نفس الوقت الذي هاجم
فيه اعتقادات أخرى؛ ومن ثمّ، مرحلة مرحلة، استبدلت الاعتقادات العربية
القديمة، واللاحقة، اليهودية والمسيحية، بعناصر مختلفة من الإيمان
الإسلامي الآخذ في النمو. وكما رأينا، فقد تم في هذه الدراسة تناول مظهر
واحد لهذه الشبكة الواسعة من الأفكار، وهو العلاقة بين رب محمد والآلهة
الأخرى والمخلوقات الماورائية «الأدنى مرتبة».
لقد
أظهر القرآن لفترة في أجزائه المكية وجود الجن، والعفاريت وإبليس
و«ملَئِه» والآلهة الأخرى «غير الله» كمخلوقات مستقلة لها تأثيرها الكامن
على حياة الناس. لكن لاحقاً، صُورت الآلهة الأخرى غير الله بكونها
«موجودة» لكن «عاجزة»؛ ومن ثمّ، تمّ إنكار وجودها بنحو شديد، وجودها
كواقع، كمخلوقات مستقلة…لقد تم إنكار ذلك. تطوّرٌ مماثل حدث، فبدلاً من
الإنكار القاطع لوجودهم (الجن، والعفاريت، و«ملأ إبليس»)، توقف القرآن بكل
بساطة عن ذكرهم في وحي ما بعد بدر. الملائكة فقط هي التي تمتعت بمكانة
عالية في الوحي المدني، وحتى لوضُمنت في النصوص العقائدية حوالي فترة
معركة بدر. لكن، وأخيراً، لقد غدوا ليس أكثر من رموز لدعم المؤمنين
والامتداد في القوة الإلهية، كما هو الحال مع الشيطان، بعد حصول الفصل
الأصلي لشخصيات إبليس، لقد أصبح الشيطان كذلك رمزاً للشر والكفر. وفي
النهاية غدت الملائكة بنحو شديد مرتبطة بإرادة الله وأفعاله؛ والأمر نفسه
ينطبق على الشيطان، الذي سيلازم إرادة الكافرين وأفعالهم. وفي كلا
الحالتين، بالكاد اعترف بوجودهم كمخلوقات مستقلة.
وبينما تبدو
الخطوط العامة هذه لتطور القرآن واضحة، فإنه من الملح بنحو شديد موضعة
برنامج أو بيان عن المعلومات تبين أنّ القرآن يُظهر بنحو واضح مراحل
تأريخية في تطور هذه المفاهيم. وبدلاً من ذلك، فما يظهر هو سلسلة من
التطورات التدريجية المتداخلة لا يمكننا تأريخها بنحو دقيق. وإحدى أهم
المراحل التاريخية الدقيقة والواضحة جداً (من جهة الدقة التاريخية.م)،
وأوضح من غيرها، هي مرحلة تغيير القبلة ومعركة بدر، وهذه المرحلة هي نقطة
تحول مهمة في تطور هذه المفاهيم؛ وأهميتها أكثر حتى من حدث الهجرة؛ لهذا،
فإن التمييز بين سياقات ما قبل وما بعد بدر، يغدو مهماً جداً أكثر من
التمييز بين الأجزاء المكية وبين المدنية من القرآن.
وأخيراً،
إنه من الواضح أنّ القرآن يزوّد بصورة متساوقة وجلية عن الله والكائنات
الماورائية الأخرى؛ لكن هذا، لا يمكن رؤيته إلا فقط حينما تتم قراءة
النصوص القرآنية العديدة التي تناولتهم على ضوء الظروف التاريخية للذين
سمعوه لأول مرة. وبهذه الطريقة، يغدو القرآن استجابة أساسية وملحّة
للمشاكل التي واجهت محمداً أثناء رسالته في تأسيسه إيمان المسلم وطقوسه.
وفي نفس الوقت يغدو القرآن كلمة الله الحيّة، قادراً لأن يُفسر بواسطة
المؤمن، وبالتالي لمواجهة الاحتياجات المعاصرة للمسلمين في جميع أنحاء
المعمورة.