على ضوء تطورات الربيع العربي , وفوز
الاسلاميين في الانتخابات التشريعية التي جرت في كل من تونس ومصر , وصعود
الحركات الاسلامية وبروز خطابهم وشخصياتهم , كل هذه التحولات النوعية
المتسارعة , تثير الكثير من الاسئلة وعلامات الاستفهام , التي تطال جوهر
حركة الربيع العربي
على
ضوء تطورات الربيع العربي , وفوز الاسلاميين في الانتخابات التشريعية التي
جرت في كل من تونس ومصر , وصعود الحركات الاسلامية وبروز خطابهم وشخصياتهم
, كل هذه التحولات النوعية المتسارعة , تثير الكثير من الاسئلة وعلامات
الاستفهام , التي تطال جوهر حركة الربيع العربي , وهل سيقود تصدر الحركة
الاسلامية المشهد السياسي في دول الربيع العربي , الى تحولات فكرية
وسياسية على ضوء هذا الفوز المتوقع الذي حققه الاسلاميون في اكثر من
مناسبةوبلد عربي .وقبل قراءة هذه التحولات , من الضروري القول : أن
التعامل الإقصائي مع الحركات الإسلامية ، وتبني سياسات وخيارات النبذ
والصدام ، يضر بالأمن والاستقرار ، ولا يفضي إلى نتائج إيجابية بل على
العكس من ذلك يقود إلى متواليات وتأثيرات سلبية على مختلف الصعد
والمستويات . لذلك فإننا نعتقد وبشكل جازم أن التعامل الإيجابي
والاستيعابي مع ظاهرة الإسلام السياسي ، هو أسلم الحلول وأضمنها تأثيرا
على الأمن والاستقرار القوميين . وإننا نعتقد أن دخول الحركة الاسلامية في
المشهد السياسي من موقع المشاركة في السلطة والحكم وتحملها مسؤولياتها على
هذا الصعيد هو أفضل الحلول لتجاوز أزمة السلطة والمعارضة معا في الواقع
العربي . لهذا فإننا نعتقد وانطلاقا من طبيعة المتغيرات الاستراتيجية
والسياسية التي سيحدثها موضوع وصول الاسلام السياسي إلى السلطة واحكم في
دول الربيع العربي إلى ضرورة أن تعاود كل الحكومات العربية والإسلامية من
سياساتها وخياراتها تجاه ظاهرة الإسلام السياسي . فهذه الظاهرة تمتلك من
الفعالية والدينامية التي تجعل من سياسات الحصار والنبذ مضرة لكل الأطراف
في المشهد السياسي العربي . وإننا نرى أن الخيار السياسي السليم الذي يجعل
الدول العربية تستفيد من فعاليات هذه الظاهرة وتفاعلها المستديم مع
المجتمع عبر أنشطة ومؤسسات مختلفة لتعزيز خيار الأمن والاستقرار في
المنطقة .
فالاستقرار السياسي وصيانة الأمن القومي بحاجة إلى رؤية
سياسة جديدة في التعامل مع ظاهرة الإسلام السياسي . وقوام هذه الرؤية هو
العمل على استيعاب هذه الظاهرة سياسيا وثقافيا ، والعمل على مد الجسور بين
هذه الظاهرة وبقية مكونات المجتمع العربي. فسياسات القمع والحصار تزيد من
فرص حضور هذه الظاهرة في المجتمعات العربية ، كما أنها تضر بشكل عميق
بمتطلبات الأمن والاستقرار . لذلك ومن أجل تعزيز الأمن القومي العربي ،
وتجاوز العديد من المشاكل والأزمات ، فإننا أحوج ما نكون اليوم إلى صياغة
رؤية وبناء تصور متكامل من أجل تعامل إيجابي وسياسي واستيعابي مع ظاهرة
الإسلام السياسي في كل البلدان العربية والإسلامية .
وانطلاقا من هذا
الحدث السياسي الهام والنوعي ، نحن بحاجة إلى المزيد من القراءات المتعمقة
حوله ، وذلك من أجل معرفة ميكانيزمات الفعل المجتمعي ، وما هي الدروس
والعبر التي نستفيدها نحن في الفضاء العربي من هذا التحول السياسي الهام
في الوضع العربي .
ثمة داء مازال يستفحل ويتضخم في حياتنا العربية
والإسلامية ، ويأخذ أبعادا متعددة ومتنوعة وهو داء الاختزالية . إذ إننا
مهووسون جميعا باختزال حياتنا بثرائها المتعدد ، ضمن أطر ضيقة ، قد لا
تتعدى في بعض الأحيان شخصا واحدا ، يمسك بجميع عناصر الحياة .
ففي حياتنا الاجتماعية ، نختزل الأسرة كمؤسسة اجتماعية في شخص رب الأسرة وهو الرجل ، وكأن الأسرة مؤسسة ذكورية .
وفي
حياتنا الثقافية والفكرية ، يتضح داء الاختزال في دفع الساحة الثقافية
والفكرية باعتبارها مجموعة من الرموز الفكرية ، فاختزلنا حياتنا الثقافية
في أشخاص وفي المجال السياسي ، ألغينا من واقعنا كل فرص التعدد والتنوع ،
ودفعنا الأمور نحو القسر والنفي واستخدام القوة الغاشمة لإنجاز الرؤية
الآحادية ، التي ساهمت في تصحير المجال السياسي بكل مفرداته وعناصره ..
وهكذا بقية جوانب حياتنا .
حيث أن داء الاختزال ، يلتهم كل عناصر التنوع والثروة المتوفرة في حياتنا العربية والإسلامية .
ويبرز
هذا الداء بشكل واضح في واقعنا العربي والإسلامي ، من غياب كل مظاهر
المؤسسة والعمل المؤسسي في حقول حياتنا . ونظرة واحدة إلى الكثير من
المؤسسات العربية الجماعية ونكتشف هذه الحقيقة بسهولة . حيث أن أغلب
مؤسساتنا العربية ، تعاني من مشكلات عديدة ، حولتها إلى جثث هامدة ، لا
تستطيع الحراك والممارسة الإيجابية في مسيرة العمل العربي المشترك .
فالاختزالية
كنمط تفكير وسلوك وممارسة في أبعاد الحياة المختلفة ، تعد الداء العميق
والمزمن الذي يعاني منه الواقع العربي ، إذ أن تجذر هذا الداء في العقلية
العربية ، هو الذي يفشل الكثير من المشاريع ، ويحول العديد من الطموحات
والتطلعات إلى أمنيات لا أمل حقيقي في تحقيقها في الواقع الخارجي . وإن
إحتكار المجال السياسي ، وممارسة أقسى أنواع وأشكال التهميش والإقصاء ضد
حقائق المجتمع والتاريخ والسياسة ، يعد من الأسباب الجوهرية التي ساهمت
وتساهم في خلق التوترات ، وتنمية البؤر المجتمعية التي تهدد الأمن بكل
أشكاله وحقوله . لذلك فإننا نعتقد أن الخطوة الأولى في إطار مشروع إعادة
صوغ نظرية للأمن القومي ، هو فتح المجال السياسي ، وأعتباره من الحقوق
العامة التي يستطيع كل مواطن أن ينشط فيه ويمارس مسئوولياته في إطاره .
وفتح
المجال السياسي " قوامه النظر إلى ميدان السياسة بوصفه مجالا عموميا
للمجتمع لا ملكية خاصة لفريق دون سواه . وليس من شك في أن معنى السياسة
هذا معنى حديث لا من حيث الزمن فحسب ، بل من حيث المضمون ، ونعني به جملة
القيم الفكرية والأخلاقية التي يحملها ، ذلك أن اعتبار ميدان السياسة
مجالا عاما يعيد تعريف معنى السياسة من الأساس من حيث هي ( حق عام ) .
وغني عن البيان أنها حيث تكتسب هذا المعنى تتحول إلى ممارسة طبيعية يضمنها
القانون وتحاط بالحماية الرسمية ، الأمر الذي ينجم عنه أن تأخذ سلطة
الدولة نفسها محتوى مختلفا عن ذلك الذي تكتسبه في حالة السياسة الوحشية .
وهذا بالذات ما يمنح شرعية إطلاق وصف المفهوم المدني للسياسة على هذا
المفهوم ". ( راجع الدولة والقوى الاجتماعية في الوطن العربي علاقات
التفاعل والصراع – الدكتورة ثناء فؤاد عبدالله – ص 299 ) .
وإن فسح
المجال القانوني للحركات الإسلامية في ممارسة دورها السياسي والمجتمعي ،
سيساهم في تطوير الممارسة السياسية العربية ، وذلك لقدرتها وإمكانيتها على
إضافة حقائق نوعية في مسيرة السياسة العربية .
وهذا التطوير النوعي ،
يساهم في توطيد أسباب الأمن القومي ، وسد الثغرات ، وإخراج العديد من
الساحات العربية من دائرة التوتر والإحتقان . فالحركة الإسلامية قوة
اجتماعية ، وكيان ثقافي وسياسي ذات تأثير عميق في مسارات الحياة العربية .
وإن أي خيار سياسي أو سلطوي يستبعد هذه القوة من الحياة السياسية ،
ويقصيها ويمنعها من ممارسة دورها السياسي والحضاري وفق القانون ، فإن هذا
الخيار ، سيدخل العديد من بلدان العالم العربي في أتون المواجهات المفتوحة
، وسيعمق من أزمة الثقة المستفحلة بين السلطة والمجتمع ، وسيحول هذا
الإقصاء دون تأسيس حياة سياسية عربية فعالة وذات جدوى . وكل هذا بطبيعة
الحال ، يعد على المستوى الاستراتيجي والفعلي تهديدا مباشرا إلى الأمن
القومي العربي . وذلك لأن إقصاء الحركة الإسلامية من الميدان القانوني
والسياسي سيفضي إلى إنفصال قطاع اجتماعي واسع عن السلطة ، وستبقىخياراتها
مناقضة لخيارات المجتمع وستنمو من جراء ذلك تعبيرات وحقائق لا تخدم
متطلبات الأمن العربي بكل حقوله ومستوياته ..
وإن الاوضاع الاجتماعية
والسياسية ، التي لا تمكن المواطن من ممارسة الحرية والمشاركة السياسية،
ولا تضمن في أقل التقادير الحد الأدنى من الحقوق العامة ، فإن هذه الاوضاع
ستفضي إلى العديد من الصراعات والحروب الصريحة والمضمرة والتوترات التي
تهدد راهن المجتمع ومستقبله .
فالأمن لا يتحقق مع الاستبداد ، وذلك لأن
الاستبداد بمتوالياته النفسية والمجتمعية ، يؤسس لكل الظروف والمعطيات
التي تهدد الأمن بكل مستوياته .. وإن الأمن الظاهري أو السطحي الذي يوفره
الاستبداد واستخدام القوة وسياسة تكميم الأفواه ، ينبغي أن لا يغرينا
بالمزيد من الاعتماد على هذا الخيار لتحقيق الأمن .. وذلك لأن هذا الخيار
في المحصلة النهائية ، يهدد الاستقرار السياسي والاجتماعي ، ويفاقم من
التناقضات وبؤر التوتر ، ويراكم كل نزعات الخروج والتحرر من ربقة
الاستبداد ومفاعيله الاجتماعية .. وكثيرة هي التجارب التاريخية والمعاصرة
، التي تؤكد أن استبدادية النظام السياسي واستفراد نخبة قليلة بالصلاحيات
والامتيازات ، ليست منسجمة مع متطلبات وشروط الأمن الشامل .
لذلك نجد
أنه في النظم الديكتاتورية ، تكثر أشكال أختراق الأمن وتهديده ، وفي
المقابل نجد أن النظم الديمقراطية والمفتوحة على كل القوى والتعبيرات ،
تنعم بمستوى متقدم من الاستقرار السياسي والمجتمعي ، لهذا نستطيع القول لا
أمن فعال بدون ديمقراطية ، ولا أستقرار بدون حريات ، وكل سعي لنشدان الأمن
والاستقرار بعيدا عن الديمقراطية ، فإن مآله الأخير هو المزيد من التشظي
وبروز حالات عامة تهدد الأمن وتتجاوز شروطه المجتمعية .. وإن الاجراءات
التعسفية التي تأخذ ضد الحركة الإسلامية في العديد من دول العالم العربي
تحت دعوى الأمن وضروراته ، هي إجراءات تناقض مفهوم الأمن ، وتؤدي إلى
إنعكاسات سلبية على مختلف الصعد والمستويات .
فالقمع السياسي لا يفضي
إلى الأمن ، بل يزيد من أوار المشكلات ، ويكرس تداعيات الانهيار ، ويحول
دون تصحيح الخلل في مسيرة البناء الوطني والقومي .
فالاستبداد هو داء
يلغي كل حالات التنوع المفيدة في الحياة العربية العامة ، سواء في الجانب
الاقتصادي أو الثقافي أو الحضاري ، النهج السائد هو الرؤية الواحدية ،
القائمة على الاختصار والاختزال في كل شيء .
ومن المؤكد على المستوى التاريخي ، أن هذا الداء ، كان له الدور الأكبر ، في إفشال الكثير من التطلعات والمشروعات المشتركة .
وبإمكاننا أن نحدد بعض الآثار المترتبة على سيادة هذا النهج في الواقع العربي في النقاط التالية :
1)
سيادة ثقافة الأنا المتعالية على غيرها ، والتي لا ترى في الوجود إلا
مصالحها وتطلعاتها الخاصة . فداء الاختزال يؤدي إلى طغيان الأنا وجعل
تصوراتها وتطلعاتها هي المشروعة ، وما عداها خارج هذا النطاق .
ولعل
نهج الاختزال على المستوى التاريخي والحضاري ، هو الذي دفع بالعالم
الأوروبي ، إلى بلورة نظرية المركزية الأوروبية ، التي تزرع لدى الأوروبي
شعورا متضخما في حب الذات ومصالحها ، وأن الأوروبي على حد تعبير ( فيصل
دراج ) يعتمد على تقدمه ويلغي ماعداه أي يبدأ بخلق الآخر خلقا زائفا ،
يستند على تقدمه، ويخلق التخلف ويتكئ على حضارته وينجب البربرية ، يخلق
الظواهر كلها ، عن طريق التسمية واللغة المسلحة ، وعندها فإن المدافع
الأوروبية ، لا تؤمن مصالح التمدن .
فلا مكان للمتعدد والاختلاف ، إلا
إذا كان الأخير وسيلة للإذعان والخضوع فيتم اختزال التاريخ الإنساني إلى
تاريخ المشروع الأوروبي المنتصر .
وكتب مؤلف ( تصفية استعمار العقل ) :
الادعاءات الاستعمارية بتحرير الأفريقي من الخرافة والجهل وروع الطبيعة ،
كانت نتيجتها في الغالب تعميق جهله وزيادة معتقداته الخرافية ومضاعفة روعه
إزاء السيد الجديد ذي السوط والبندقية ، الأفريقي وخاصة خريج المدرسة
الكولونية هو أكثر انتسابا إلى الإنجيل بتفسيره الفانتازي لخلق الكون
ورؤاه عن القيامة وصوره المفزعة عن الجحيم واللعنة بحق الخاطئين تجاه
النظام الاستعماري منه إلى الرواية بتحليلها الدقيق للدافع في الشخصية
والحدث وافتراضها العام : أن العالم الذي نعيشه ممكن الفهم ، فالاختزالية
في الإطار الثقافي ، تؤدي إلى سيادة النزعة الفردية الضيقة ، التي لا ترى
إلا مسلماتها العقدية والفكرية وتسعى ( إن كانت لها الغلبة ) إلى نفي
وإقصاء الثقافات الأخرى .
2) أن الحيوية الاجتماعية القائمة على التنوع
المحمود في الدائرة الاجتماعية ، تبدأ بالأفول والتقلص ، حينما يطغى خطاب
الاختزال ، وتسود آلياته في المحيط الاجتماعي .
وذلك لأن الحيوية
والفاعلية الاجتماعية ، وحتى تستمر في حركتها التصاعدية ، هي بحاجة إلى
خطاب راشد ، يتعاطى بشكل إيجابي مع تنوعات المجتمع الطبيعية ، والتي تشكل
ثروة إنسانية حقيقية .
ولكن حينما يسود خطاب الاختزال وآلياته ، يتم القضاء التدريجي على هذه الثروة ، وتحل الرتابة والسكون ، محل الحيوية والفاعلية .
ولعل
هذا ما يفسر لنا سكونية المجتمع العربي في العصر الحديث ، وعدم تفاعله
الخلاق مع كل موجبات التطوير والإصلاح ، لأنه لم ينفتح على رحابة التنوع ،
الذي تتضمنه جغرافيته الإنسانية .
3) إن داء الاختزال ، يؤدي إلى شيوع
حالة الشيزوفرينيا والازدواجية في حياة الإنسان الفرد والمجتمع ، لأن
الاختزال كنمط قسري في تغييب الفروقات الإنسانية الطبيعية ، لا يؤدي إلى
إنهائها التام من الوجود والتأثير . وإنما يؤدي إلى ضمورها واختفائها ،
مما يجعلها تتحين الفرص المؤاتية ، لإبراز مكنونها ومضمونها . وهذا هو
بداية سيادة حالة الفصام والازدواجية في الحياة الخاصة والعامة .
ولعلنا
لو تعمقنا في كل تجارب النهوض العربي في العصر الحديث ، سنكتشف أن مشكلة
الاختزال بكل تداعياتها ومستوياتها ، ساهمت بشكل كبير في إفشال تلك
التجارب ، وعمقت عوامل الاسترخاء في الجسد العربي . ولا ريب أن التعاطي
الأمني مع ظاهرة الإسلام السياسي ، وعدم الاعتراف بها اجتماعيا وثقافيا
وسياسيا ، ساهم في لجوء الطرفين ( الحكومات والحركات الإسلامية ) إلى
الإنخراط في نفق المواجهات المفتوحة ، مما كلف الواقع والأمن العربيين
الكثير من المخاطر والخسائر . ونحن نرى أن إستمرار النخب العربية السائدة
في التعاطي مع هذه الظاهرة والحقيقة وفق متطلبات المفهوم الضيق والآني
للأمن ، هو المسؤول عن الكثير من المواجهات .
وجماع القول في هذه
المسألة : أن الاختزال وتداعياته الشاملة ، هو الداء العميق الذي يعاني
منه الفكر والمجتمع العربيان ، ويميت كل فاعلية اجتماعية .
ولعلنا لو
تعمقنا في كل تجارب النهوض العربي في العصر الحديث ، سنكتشف أن مشكلة
الاختزال بكل تداعياتها ومستوياتها ، ساهمت بشكل كبير في إفشال تلك
التجارب ، وعمقت عوامل الاسترخاء في الجسد العربي . ولا ريب أن التعاطي
الأمني مع ظاهرة الإسلام السياسي ، وعدم الاعتراف بها اجتماعيا وثقافيا
وسياسيا ، ساهم في لجوء الطرفين ( الحكومات والحركات الإسلامية ) إلى
الإنخراط في نفق المواجهات المفتوحة ، مما كلف الواقع والأمن العربيين
الكثير من المخاطر والخسائر . ونحن نرى أن إستمرار النخب العربية السائدة
في التعاطي مع هذه الظاهرة والحقيقة وفق متطلبات المفهوم الضيق والآني
للأمن ، هو المسؤول عن الكثير من المواجهات .
وأبانت أحداث وتطورات
الربيع العربي ، إننا جميعا بحاجة أن نعيد صياغة علاقتنا مع القوى
الاجتماعية والثقافية والسياسية المتوفرة في الساحة . وإن عمليات العنف
والإقصاء التي تمارسها النخب السائدة ضد القوى السياسية الجديدة ، يساهم
بشكل رئيسي في تفاقم الأزمات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية ، ويصحر
الحياة العربية السياسية والثقافية ، ويدفع بالأمور إلى صدامات لا تخدم
الاستقرار والتنمية في العالمين العربي والإسلامي .
وإن بروز نزعات
التطرف والتشدد ، ليس فقط وليد القراءة المتزمتة للدين ، بل هو أيضا وليد
المناخ السياسي والثقافي الذي تعمل فيه هذه الحركات .. لذلك نجد حينما
نتأمل بعمق في مسيرة الحركات السياسية الإسلامية في العديد من الدول إن
الأنظمة والحكومات التي فسحت للقوى السياسية المتوفرة في الساحة للعمل
والنشاط القانوني ، وأعترفت بكل التيارات السياسية ، نجد أن مستوى
الاستقرار وضمور نزعات التطرف والتشدد في التيارات السياسية بارزا . بعكس
الدول التي منعت التيارات والأحزاب من العمل السياسي العلني والقانوني ،
وتعاملت مع هذه الظاهرة برؤية أمنية بحتة ، نجد في هذه التجارب أن نزعات
التشدد والتطرف تبرز وتعبر عن نفسها بوسائل مختلفة وذلك لأنه رد فعل طبيعي
لقمع الأنظمة وتصفيتها سياسيا واجتماعيا .
ويأخذ التعامل الأمني مع الظاهرة الإسلامية الحديثة صورا شتى منها :
•
التضييق والتعسف الذي يطال رموز وكوادر هذه الظاهرة المعاصرة ، والتعامل
معهم على قاعدة ( متهم حتى تثبت براءته ) . والتضييق يبدأ بالمنع من
ممارسة دوره وحياته العامة ، مرورا بإخضاعه إلى مراقبة أمنية دقيقة
لإرباكه وزرع الخوف والهلع في نفسه ونفوس المحيطين به ، وإنتهاءا
بالاعتقال التعسفي بدون مبررات قانونية .
• عدم الاعتراف القانوني
والسياسي للتشكيلات الحديثة لهذه الظاهرة ، والعمل على منع أي عمل جماعي
أو مؤسسي ، يعبر عن توجهات هذه الظاهرة .
• الإنخراط والإندراج في
حرب أمنية وسياسية وثقافية مع هذه الظاهرة ورموزها وكوادرها . ويبدأ هذا
الانخراط في المنع والتضييق بكل أشكاله ، مرورا باجهاض أي نشاط ثقافي أو
سياسي تقوم به هذه الجماعات وممارسة حروب الأوراق الصفراء ضد مشروعاتها
وشخصياتها . ولا تنتهي هذه القائمة إلا بمواجهة حاسمة وغير متكافئة مع هذه
الظاهرة ..
فالتعامل الرسمي في العديد من البلدان العربية مع ظاهرة
الإسلام السياسي ، هو تعاملا ظالما وعنيفا وإستئصاليا ، ويسعى وفق مخطط
مدروس ومرسوم إلى اجتثاث هذه الظاهرة من الفضاء الاجتماعي والثقافي
والسياسي للوطن والأمة .
وبفعل هذا النمط من التعامل ومسوغاته
الأمنية والسياسية ، تم إرساء دعائم الدولة الاستبدادية المطلقة ، التي
تغّولت في كل مجالات الحياة ، وألغت أو تحكمت في كل مؤسسات المجتمع الأهلي
. ومارس بعض المثقفين في هذا الإطار دورا خبيثا وخطيرا ، حيث برر للسلطة
نهجها الأمني والإستئصالي ، وسوغ للجميع النهج الاستبدادي الذي أرست
دعائمه وحقائقه الدولة في المجال العربي .
ولا بد من الإدراك في هذا
الإطار ، أن التعامل العنفي والإقصائي مع ظاهرة الإسلام السياسي ،
والاسناد الذي توفر لهذا التعامل من قبل بعض النخب الإعلامية والثقافية قد
ساهم في هيمنة الدولة وتكريس نهج الإلغاء الذي وصل إلى جميع الأطراف
والمجالات .
وإن إقصاء تعبيرات الإسلام السياسي من الحياة السياسية
والعامة ، له الأثر الكبير في استمرار المآزق السياسية والاجتماعية في
الواقع العربي ، وذلك لأن عملية الإقصاء المذكورة ، أفضت إلى توترات
مجتمعية وسياسية ، وأدخلت الجميع في دهليز المعالجة الأمنية للمشكلات
السياسية والاجتماعية القائمة .
والمعالجات الأمنية بطبعها والآليات
المستخدمة فيها ، تؤدي إلى توتير الأجواء وتفاقم الأزمات والمشكلات ،
والدخول في متاهات الحروب الداخلية المميتة لكل حيوية وحياة . وإن شرط
الخروج من هذه المآزق هو " النجاح في إقامة دول ديمقراطية يمثل شرطا
للخروج من الأزمة العربية ، إلا أن العلاقة بين الدولة وما يسمى بالمجتمع
المدني وتعبيراته ما تزال تثير الكثير من الجدل ، ولا سيما في ظل الحاجة
إلى تحرير المجتمع من طغيان الدولة ، من جهة ، والخطورة الكامنة في
الدعوات والمساعي الرامية ـ بالتجاوب مع ظرف دولي مؤات وبحجة تفعيل دور
المجتمع ـ إلى إضعاف دور الدولة العربية والانتقاص من سيـــادتها
وتــحريرها مــن وظــائفها ، ولا سيما في ميدان التنمية والضبط الاجتماعي
". ( راجع ندوة تجديد الفكر السياسي من أجل التغيير 0 ص 156 ) .
ولا
ريب أن تحقيق النمط المؤسسي في إدارة أمورنا المختلفة ، ليس بالأمر السهل
واليسير ، بل هو يحتاج إلى الكثير من الجهود المتنوعة ، التي ترسي بعد زمن
قواعد المؤسسة في واقعنا الاجتماعي ، وتوجد نوعا من المواءمة الواعية بين
ضرورة المؤسسة في إدارة شؤوننا وأمورنا ، وبين هامش الحرية الذي ينبغي أن
يتاح للفرد ومبادراته . وإن رفع هذه الهواجس ، لا يتم إلا بتدشين حياة
سياسية جديدة تشارك فيها كل القوى والفعاليات بدون إستثناء ، في إطار
دستوري وقانوني ، يكفل للجميع هذه الممارسة ، ويمنع كل التعديات والحقائق
التي تعرقل سيادة القانون والديمقراطية . فلا ديموقراطية بدون حياة حزبية
وسياسية فاعلة ، تطرد حالة الجمود وتستوعب تحولات المجتمع ومتغيراته ،
وترفد الواقع بالخطط والاستراتيجيات الواقعية والكوادر البشرية القادرة
على ترجمة التطلعات وإنجاز الوعود .
وأكرر القول هنا ، أن الديمقراطية
ليست حلا سحريا لكل مآزقنا ومشاكلنا ، ولكنه لا يمكن أن تكون هناك تحولات
وتغييرات حقيقية بدون الديمقراطية التي لا تستثني أحدا ، ولا تمارس عملية
الإقصاء والنفي تحت أي مبرر ودعوى .
وإن توفر الخصوصيات في أي مجتمع
أو بيئة اجتماعية ، لا يلغي أهمية مشاركة الناس في تقرير مصيرهم وإدارة
راهنهم وصياغة مستقبلهم ، عبر أطر ومؤسسات تستوعب الجميع وتعطي حق
المشاركة للجميع على قدم المساواة مع الآخرين .
لذلك فإننا بحاجة إلى
أن نبلور خطابا ثقافيا متكاملا ، يبلور الإمكانات المتاحة في فضائنا
المعرفي ، للانتقال من نمط الاختزال في العقلية الاجتماعية ، إلى نمط
العقل الجمعي في التفكير وإدارة الأمور .
وهذا بحاجة إلى إعادة
الاعتبار إلى مفهوم الاختلاف ، فهو حالة طبيعية ومتناغمة مع نواميس الوجود
الإنساني . إذ اقتضت مشيئة الله أن يخلق الناس مختلفين متباينين في
قدراتهم الفكرية ، وفي أمزجتهم وأذواقهم ، فتختلف بسبب ذلك أنظارهم
وفهومهم . ويعطي هذا الاختلاف والتنوع للحياة مظهر التجدد ، ويبعدها عن
التكرار والرتابة ، ويمكن من تنويع الإنتاج الإنساني ، ومن تكثير الصور
الفكرية للموضوع الواحد . ويظل هذا الاختلاف المنتج للتنوع إيجابيا ومفيدا
ما دام نابعا عن تلك الفروق الفطرية ، وعن التباين الموضوعي في البحث عن
الحق . وبهذا فإن الاختلاف في حدوده الطبيعية ، هو أصل الوحدة ، ومنبع
التقدم والتطور ، وما علينا إلا أن ننزع من أذهاننا روح التشاؤم ، ونعمق
روح الثقة بالعقل والإنسان عندئذ يصبح الحوار ـ ونحن مختلفون ـ ممكنا ،
ويصبح الاحترام المتبادل شرطا لاستمرار هذا الحوار . فالاختلاف الذي يسمح
به الشرع ، هو نتيجة طبيعية ومنطقية لمشروعية الاجتهاد ، لأنه من المستحيل
القبول بالاجتهاد دون القبول بآثاره التي من جملتها اختلاف أنظار
المجتهدين .
ولكننا في الوقت الذي نعتبر فيه أن الاختلاف حالة طبيعية
مرتبطة بالوجود الإنساني ، نرفض الاختلاف المطلق أو ما يصطلح عليه بـ (
الاختلاف من أجل الاختلاف ) ، لأن معنى هذا الاختلاف هو التشتيت الدائم
والمستمر للآراء والأفكار ، ويبقى كل منها منغلقا على ذاته رافضا للآخر ،
كل منها يشكل عصبية لا تقبل التعايش والحوار ، فهو صراع عصبوي حتى لو
تجلبب بجلباب الاختلاف .
لذا فإننا نرفض هذه الأشكال من الاختلاف ،
لأنها تؤدي إلى الفوضى في النظام الاجتماعي العام ،لأن الاختلاف بهذه
الأشكال ، وبالعقلية التي تقف وراءه يفرز روح التشرذم والتشتت والتعصب ،
لأنهم يتشددون في تمسكهم بما تأدى إليه اجتهادهم ، وما داموا يرون أن
عندهم هو الحق الذي لا خلاف فيه ، وإن ما عند مخالفهم هو الباطل الذي لا
خلاف فيه ، وعلى أساسه يرسمون مواقع جديدة تستنزف جهودهم وطاقاتهم .
إذ
يتصورون أن مخالفهم يجب أن يكون موضوع دعوتهم وإرشادهم ، فيجعلون الأوكد
من عملهم زحزحته عما هو عليه من رأي ، هو أيضا وليد اجتهاد ونتيجة نظر في
الأدلة الشرعية . لذلك فليس المطلوب أن تتطابق وجهات نظرنا جميعا في كل
شيء ولكن المطلوب ، هو بقاء التعاون واستمرار المحبة والود وألا نسحب
اختلافنا في حقل من حقول الحياة إلى بقية الحقول والجوانب .
من
الضروري التذكير في هذا المجال ، بأنه لا يوجد مجتمع في التاريخ الإنساني
لا تتعايش فيه رؤى وأيدلوجيات مختلفة ومتباينة ، ذلك لأنه ينطوي بالضرورة
على مصالح متغايرة ويمارس اختيارات مختلفة ، ولكن التقدم والتطور ، لا
يكون إلا من نصيب المجتمع الذي استطاع أن يوجد علاقة إيجابية وحسنة
ومتعايشة بين هذه الرؤى والمدارس الفكرية المختلفة ، وعن طريق هذه العلاقة
الإيجابية ، يحتضن المجتمع عناصر التقدم والتطور في مختلف الأبعاد والحقول
.
وبهذه العملية تتحول الاختلافات إلى مصدر لتطوير ذاتيتنا الفردية
والمجتمعية ، وبهذا نغني ثقافتنا ونعيد توازننا النفسي والاجتماعي .
فالاختلاف في حدوده الطبيعية ليس مرضا يجب التخلص منه والقضاء عليه ، بل
هو محرك الأمم نحو الأفضل ، مصدر ديناميتها ، وهو يقود بالإدارة الحسنة
إلى المزيد من النضج والوعي والتكامل .
فالوحدة ليست توحيدا قسريا بين
الناس ، بل هي الإجابة الإنسانية الواعية عن السؤال .. التحدي : كيف تنجح
الأمم في إدارة اختلافاتها ، وتفقه أن تتعاون مع بعضها البعض دون أن
تتطابق وجهات النظر في كل شيء ؟! . .وإن تصحيح الأوضاع السياسية وفسح
المجال لكل القوى السياسية المتوفرة في الفضاء العربي للعمل العلني
والقانوني ، هو الخطوة الأولى في مشروع توفير أسباب الاستقرار في العديد
من البلدان العربية والإسلامية . وأن نزعات التشدد لا تواجه بإطلاق يد
القوى الأمنية لتصفية خصومها السياسيين بالاعدام والقتل والسجن والتعذيب .
إن كل هذه الخطوات تزيد من نزعات التشدد وتوسع من دائرة تأثيرها ،
وتوفر لها اجتماعيا مشروعية لاعمالها ونزعاتها المتطرفة . فالحلول الأمنية
، تزيد من أوار المشكلة وتفاقم الأزمة وتضيف لها أبعادا جديدة .
وإن
المعالجة السليمة لنزعات التشدد والتطرف في الظاهرة الإسلامية المعاصرة ،
بحاجة إلى معالجة ورؤية سياسية ناضجة ، تبلور مشروعا سياسيا جديدا و شجاعا
، بحيث يخرج العالم العربي من هذا النفق المسدود والذي يهدد الأمن القومي
بكل مستوياته ومجالاته .
وإن مكونات هذه الرؤية السياسية الجديدة ، التي نطالب بها وندعو جميع الأطراف إلى تبنيها هي :
أولا : الانفتاح على مكونات المجتمع السياسية والثقافية : وهو يعني فيما يعني :
1)
التطوير والتجديد الدائم لآليات العمل السياسي الوطني ، وذلك من أجل خلق
حياة سياسية وطنية فاعلة ، يشترك فيها كل الأطراف والفعاليات السياسية في
إطار مجتمع سياسي وطني ، يتجاوز كل الأطر الضيقة التي تحول دون الممارسة
السياسية السليمة .
2) الإنصات إلى إيقاع الحياة الوطنية والسياسية ،
واحترام الخيارات السياسية التي تنتهجها القوى السياسية الوطنية ، دون
ممارسة أي إقصاء أو نفي لأية قوة أو فاعلية سياسية . ويتجلى الانصات في
السعي نحو جعل السياسات الرسمية منسجمة والتطلعات الوطنية الحقيقية ، التي
ينسجها ويبلورها جملة الفعاليات والقوى السياسية المتوفرة في المجتمع
السياسي الوطني .
3) توفر الأطر المؤسسية الوطنية ، التي تساهم في
تجذير وتعميق الحالة الحوارية بين مختلف مكونات المجتمع الثقافية
والسياسية . فالحوار والانفتاح ينبغي أن يتعدى الأفراد ، بمعنى العمل على
تأسيس أطر وطنية ثابتة للحوار وإدارته وللتواصل السياسي والمعرفي بين جميع
القوى والأطياف .
4) بناء شبكة من العلاقات والتحالفات مع القوى
الوطنية المنسجمة في خياراتها ، والمؤمنة بضرورة تعميق الخيار الديمقراطي
في الوطن والأمة . وذلك لتعزيز العمل الوطني المتجه صوب تطوير الحياة
السياسية والمدنية في المجالين العربي والإسلامي . فالتواصل والانفتاح
يفتح آفاقا رحبة للتقدم على كل المستويات ، ويساهم في تعزيز فرص التعاون
في كل المجالات ، ويحول دون الدخول في معارك هامشية ، لاتنفع قضايانا
الكبرى بل تضرها إيما ضرر . والإنفتاح ليس غاية لكل ما ذكر أعلاه فحسب ،
بل هو وسيلة ثابتة ينبغي أن نؤكد عليها ونمارسها في كل المراحل والمستويات
.
5) قبول الآخر وجودا وفكرا واحترام الاختلاف والتعدد ، والعمل على
تنظيم هذه الدوائر ، بحيث تفضــي إلى المزيد من التفاهم والتلاقي والتعاون
.
فجذر التطرف والعنف ، هو رفض الآخر وعدم قبوله فكرا ووجودا ، لذلك
فإن الخطوة الأولى في إجتثاث جذور التطرف والعنف من واقعنا ، هو قبول
المغايرين لنا على مختلف المستويات . ويشير إلى هذه الحقيقة ( إحميدة
النيفر ) بقوله :
" وعن سؤال : كيف ينشأ التطرف في نسيجنا الثقافي ،
ترتبط الإجابة أولاً بوضعية الآخر في البنية الثقافية السائدة : كيف ننظر
إلى المختلف عنا في مجتمعاتنا ؟ كيف ننظم علاقتنا بالمغاير لنا ؟ في سلوكه
ورؤيته للحياة والوجود ؟ ذلك أن الثقافة التي تمهد إلى أصناف التطرف
والعنف هي ثقافة تنمي التصور الأحادي وتبالغ في تركيزه إلى درجة الهوس ،
تضيق بالاختلاف والتنوع فتمضي في توليد النعوت والأوصاف التحقيرية لكل
نزعة إختلافية متجاوزة في ذلك حد الإدانة الضرورية لوقاية كل المجتمعات
إلى تعطيل كل مراجعة أو تقييم أو إبتكار . إن بحثنا عن ماهية التطرف يفضي
بنا إلى الوقوف على رؤية قوامها إنكار الآخر كقيمة مماثلة لـ ( الأنا ) و
الـ ( نحن ) ، قيمة تستحق الحياة والتقدير ، لذلك فهي لا ترى له من حق إلا
النفي ، أما بإستتباعه أو تصفيته ، فالآخر أو المغاير أو المختلف في منطق
ثقافة الإدانة هو مصدر الشرور والآثام الذي ينبغي إستئصالة لأن تمايزه عنا
يعتبر تمايزا مطلقا في حين أنه في الأصل تمايز نسبي " ..
وفي إطار
علاقة الدولة بالمجتمع ، من الضروري أن تنفتح الدولة بكل هياكلها
ومؤسساتها على المجتمع بكل مكوناته وقواه ، وذلك من أجل أن تنتظم العلاقة
بين الطرفين وفــق أسس ومبادئ ، لا تفضي إلى المزيد من تغوّل الدولة
واحتكارها التام لكل شيء .
و " من هنا ضرورة تنظيم المجتمع الأهلي ،
أي أهمية انتظام الناس في أطر اجتماعية واقتصادية وسياسية مستقلة عن سطوة
الدولة ، لكي يثبت المجتمع لنفسه ، وللدولة ، أنه قادر على الاستمرار إلى
حد ما ، ودون السقوط في فخ الفوضى العارمة ، دون الدولة . هذه التنظيمات
الأهلية ( وليس من الضروري أن تكون منذ اللحظة الأولى سياسية بالمعنى
المتعارف عليه ) هي الضمان أمام إنحسار الفوضى دون تدخل الدولة القاهرة .
وهي
الإشارة إلى أن المجتمع الأهلي قد دخل مرحلة الرشد التي تقتضي إمكانية
تنظيم الذات ، وينتج عنها بالتالي تخفيف تدريجي لمدى اعتماد الناس على
الدولة ، في معيشتهم وتنظيم أمورهم . وهكذا يتضاءل استتباع السلطة للناس ،
وتتعاظم أهمية الوظائف الاجتماعية غير المرتبطة إداريا وماليا بالدولة
وبالقيمين عليها . فينحسر إطار الدولة ، وتتضاءل حدة هيمنتها ، ويصيبها
نوع من التطبيع بوصفها مؤسسة قائمة كغيرها من مؤسسات المجتمع ، فلا تعود
وسط المجتمع تلك المؤسسة الوحيدة القادرة التي لا شبيه لها ولا قدرة لأحد
بمواجهتها " ( راجع ندوة التعددية السياسية والديمقراطية في الوطن العربي
– ص 149 ) .
ثانيا : تصحيح الأوضاع السياسية وفسح المجال القانوني لكل
القوى السياسية المتوفرة في الفضاء العربي لكي تمارس دورها وتتكيف مع
البيئة السياسية الوطنية . وأنه لا تطورات ديمقراطية وتنموية كبرى ونوعية
مع إقصاء الظاهرة الإسلامية الحديثة من الساحة السياسية والثقافية ..
وحدها الديمقراطية التي لا تستثني أحدا ، هي القادرة على توفير الأمن
والاستقرار وكل متطلبات التنمية والتقدم .. وإن الرؤية الإستراتيجية
العميقة ، هي التي تدفعنا إلى القول أنه لا خيار أفضل من خيار الاعتراف
بالحركات الإسلامية الحديثة ، وقبولها في الحلبة السياسية الوطنية . ودون
ذلك يعني المزيد من الاحتقانات والتوترات والحروب الداخلية التي لا رابح
فيها ، لأنها ستدمر الجميع ، وستعرض كل مكاسب الوطن إلى الإندثار والضياع
.