ليس
من المهم تحديد تاريخ بداية الانتفاضة في سوريا. لا يهمّ إن كانت بدأت مع
أوّل خروج لأهل درعا بعد استعادة أولادهم معذّبين ومقلوعي الأظافر، أم مع
أول اعتصام بالشموع لشباب دمشق بأصواتهم تردّد "حماة الديار". ولعلّها،
كما نعلم جميعاً في العمق، بدأت قبل ذلك بكثير، ولعلّها بدأت قبل تونس
بكثير…تحديد تاريخ لا يضيف للانتفاضة أو ينتقص منها أيّ شيء، ولا يفيد سوى
بإيجاد بداية لقصة نرويها في كل يوم وسنرويها فيما بعد لأجيال. لكن من
المهم أن نتوقف عن إعطاء طابع الأسطورة والحكاية للقصة، ومن المهمّ ألا
نتجاهل كلّ احتمالات السرد المتخيلة الّتي، منذ الآن، تجعل الكثيرين
يعيشون في عوالم قصصية لما يحدث وليس في عالم الواقع.
أن
نتوقّف عن التطرّف في تشرّب الحكاية وإعادة سردها لأنفسنا أمر صعب، فما
يحدث في سوريا يتخطى بكثير إدراكنا البشريّ، خاصة إدراك الأجيال التي عاشت
في سوريا شبه خالية من أيّ صيغة عنف مرئيّ ومكثّف بهذا الشكل. كان العنف
يومياً، لفظياً ربما أو مترجماً في التركيبة الاجتماعية بعدة أشكال، منها
التقسيم الطبقي وتبعيات الفساد وتنظيم المدارس والممارسات العسكرية فيها.
كان عنفاً قائماً على التعنيف والتخويف. لكنه نادرا - وأنا أتكلّم هنا عن
الحالة العامّة- ما ترجم بفعل عنيف مباشر. كنا نسمع الحكايات عن هذا العنف
المباشر، وكان هذا نوعاً آخر من التعنيف والتخويف. وكان تطبيع الواقع
بالأسطورة ممارسة دائمة لدينا جميعاً - مع الإشارة طبعاً إلى أنها عادة
اتبعها النظام أيضاً في حكاياته عن التاريخ والحاضر والمستقبل-… كنا نطبع
المستقبل بالحكاية… ويبدو أننا لا زلنا نفعل ذلك.
الانتفاضة والسياسة ليستا بأسطورتين…الثورة والمؤامرة قد تكونان من صنف الأسطورة، أو ربما الحكاية.
في
حكاية الثورة، الشعب بطل يبحث عن حريته ويجابه "بصدره العاري" أسلحة
الديكتاتورية للوصول إليها. الديكتاتور وأعوانه وكل من يدعمه يصطبغون بلون
الشرّ، والشعب الثائر وكل من يقف معه بلون الخير. يصبح كلّ ما سبق الثورة،
ليلاً مظلماً حالكاً أو سماءً مكفهرّة بغيوم القمع والتعذيب وأقبية
الممارسات العنيفة. فتأتي لحظة اليقظة الجماعية، ويتوجه الثائرون نحو
الحرية وتنقشع الغيوم، رغم المصاعب، وتهيمن السعادة على البلاد… وهكذا
يصبح المستقبل المشرق من فعل الثورة المقدسة التي أنقذت البلاد من أيادي
الشر التي سيطرت عليها لعقود.
في حكاية المؤامرة،
رأس مدبّر خفيّ يدير العالم لوحده، الشرّ الأكبر، الشرّ المطلق، والبطل
شخص اختاره الشعب لمنع هذا الرأس المدبر وأعوانه من تحقيق مخططه في
استغلال خيرات البلاد واستعمارها بعد أن تم دحره "بثورتنا العظيمة" منذ
عقود، وبعد أن أثبت "شعبنا المقدام" أن قوة إيمانه كانت كافية لدحره رغم
ما امتلكه من بطش وذكاء وحنكة وأياد خفية من حولهم.
في
حكاية الثورة، الموالون للنظام خونة للوطن، مستسلمون، خائفون، أو يتبعون
مصلحتهم الشخصية…وصوليون، أو غير مدركين للخوف في داخلهم فيتبعون الأقوى،
قد يستفيق الضمير لدى بعضهم في مرحلة ما من السرد، فينضمّون إلى صفوف
الخير. أما الباقي فيُدحر في النهاية مع الديكتاتور ويُهمّش، لا يبقى له
من مكان بعد النهاية السعيدة والنصر. نتساءل ما حلّ بهم، لكن نادراً ما
يكون هنالك من إجابة في الحكاية. وإن كان من إجابة، فإما يكون مصيرهم
الموت كمصير الشرّير الأكبر، أو الأسر والعقاب المرير على فعلهم الشنيع
بموالاة الشرّ، أو الالتحاق بالنصر والتسلق على مستقبله.
أمّا
في حكاية المؤامرة، فهنالك الخونة للوطن أيضاً، أولئك الذين لا يدعمون
"البطل المختار"، لا بل ويصافحون العدوّ المتآمر ويساعدونه في تحقيق
مبتغاه، يزرعون الفوضى في البلاد، يفجّرون، يقتلون، يهينون البطل، لكنه
يصمد وكلّ من معه في دفاعهم عن الوطن الحبيب ضدّ أعوان المتآمرين
العملاء…وتارة يكون العملاء من دعاة الجهاد، وتارة من دعاة الفسق
المستثقفين… لهم شكل واحد، ومصير واحد أيضاً. بعد النصر، هم أيضاً إمّا
يموتون ويكون موتهم إشارة على موت مخطط المؤامرة، أو يؤسرون ويعاقبون
العقاب المرير على فعلهم الشنيع بموالاة الشرّ، أو يلتحقون بالنصر
ويتسلقون مستقبله.
السياسة ليست بأسطورة أو حكاية،
في السياسة لا بطل ولا متآمر، في السياسة تستعمل المؤامرة، وتستعمل
الحكاية، يستعمل الأبطال والأشرار، يحوّر التاريخ وحتى الحاضر، وتتغيّر
المصالح بين ليلة وضحاها. يبقى الثابت الشعب، المستهدف والمتضرر الأول
والأخير من السياسة…المتآمر عليه الوحيد في السياسة. في السياسة يحكى أنّ
الإسلام متطرّف، ويصبح كلّ ذي ذقن في الحياة مسلماً متطرفاً… ويحكى أن
رجالات الأمن بلا مشاعر، ويصبح كل من يتكلم لهجة معيّنة رجل أمن. في
السياسة تهرب الحقيقة من الكلمة كي تساق الخراف على الطريق الذي يناسب
الكبار. والخراف لم تختر يوماً راعيها. هو اشتراها، هو امتلكها، وإن تاه
أحدها، ترك الراعي قطيعه ليبحث عنه، لا كي لا يضلّ الطريق هو، بل كي لا
تلحق به بقية القطيع.
والانتفاضة ليست بأسطورة أو
حكاية. في الانتفاضة لا صدور عارية ولا قدسية، بل دماء وإرادة. دماء إن
كثرت بتنا لا نعرف أين نذهب بها، بين مجالس حقوق الانسان والمجالس
السياسية الأخرى والضمائر الإنسانية… فوضعناها في حكاية كي يصبح الإيمان
بالإرادة أقلّ تعباً… وكي يصبح اللحاق بصديقنا التائه أقلّ صعوبة. قدّسنا
صديقنا التائه، فصنعنا منه راعياً جديداً. في الانتفاضة تهرب الحقيقة من
الكلمة كي يكون وقع الدم أرحم، ويكون التراجع طريقاً مسدوداً، كالارتداد
عمّا سلّمنا به منذ البداية وليس من مجال للتشكيك فيه والضلال عنه.
في
سوريا ليس من حكاية أو أسطورة. كل من يحيك حكاية فهو يفعل ذلك للتصدي
لأسطورة الآخر. حكاية ثورة جديدة للتصدي لأساطير نظام دام عقوداً. وحكاية
مؤامرة للتصدي لأسطورة الفقر والقمع التي ظهرت فجأة على الساحة. في سوريا
طبقة اختارت أنها تعبت من الذل والفقر، ليس من ذلّ وفقر من فعل النظام أو
شخص النظام فقط، بل من فعل الآخر الذي يشاركها الأرض والهواء والمطر
والغيوم والشمس، لكنه لا يشاركها الطريق أو الزواريب أو الخبز أو وسائل
النقل أو الإيمان…واليوم لا تشاركه صرخته… في سوريا طبقة أخرى اختارت أنها
أفضل وأرقى وأكثر انفتاحاً منذ زمن، فهمّشت الآخر الذي يصرخ اليوم… واليوم
همّشت كلّ من صرخ معه.
وفي مرآة من رفض الصراخ، خيار العين
المعصوبة… أمّا في مرآة من صرخ، أسئلة بين الحكاية وما يبرّر الغاية من
وسائل، أو الأسطورة وإخفاء تفاصيل المسير والاستعاضة عنها بالخطّ العامّ،
أو الواقع.