Saturday, December 11 الموضوع: تقارير و دراسات |
د.النفيسي
|
عبدالله فهد النفيسي: من الضروري والمفيد أن يتفحص القارئ
العربي هذا الموضوع لما له من انعكاسات خطيرة على أمننا القومي منذ ما يزيد
على النصف قرن. نلاحظ انه منذ أكثر من خمسين عاما ثمة التزام من الإدارات
الأمريكية المتعاقبة على البيت الأبيض في واشنطن بمساندة الكيان الصهيوني
على طول الخط. كل رئيس أمريكي-نلاحظ- وفي بهذا الوعد.الكنيسة في الولايات
المتحدة الأمريكية تؤيد الصهيونية والكيان الصهيوني. الكونغرس في الولايات
المتحدة الأمريكية يؤيد الصهيونية والكيان الصهيوني. مجلس الأمن القومي في
الولايات المتحدة الأمريكية يؤيد الصهيونية والكيان الصهيوني. وزارة الدفاع
الأمريكية(البنتاغون) قدمت للكيان الصهيوني من المعونات العسكرية- وعلى مدى
نصف قرن- ما لم تقدمه الولايات المتحدة الأمريكية لأية دولة حليفة في العصر
الحديث.
وكالة الاستخبارات المركزية تتجسس وتتنصت على العرب وتتابع
بأقمارها الصناعية العرب وجيوشهم وتفتح كل ملفاتها ومعلوماتها فقط للصهاينة
وليس غير الصهاينة. لم تستخدم الولايات المتحدة منذ العام 1948 حتى الآن
حق"الفيتو" في مجلس الأمن مثلما استخدمته لمساندة الصهاينة حتى لو
أدى ذلك إلى عزلة تدريجية للولايات المتحدة الأمريكية في المنظمة الدولية.
لقد بلغ التأييد الأمريكي للصهاينة والصهيونية درجة بحيث لم يعد هناك-
بالنسبة لنا- خطا فاصلا بين ما هو أمريكي وما هو صهيوني: نحن نتحدث
عن"المؤسسات" الرسمية و"الإدارات" المتعاقبة وليس كل
كاتب هنا أو هناك، نحن نتحدث عن"اتجاه رسمي" أمريكي راسخ في تأييد
الصهيونية والصهاينة وليس عن حركات أو أحزاب أمريكية صغيرة عديمة الأثر على
الاتجاه العام للقرار الرسمي في مساندة الصهيونية و الصهاينة. · بعض العرب
يسقط في بحر السذاجة ليفسر هذا التأييد الأمريكي للصهاينة على أنه نتيجة
طبيعية لنشاط"اللوبي الصهيوني" في الولايات المتحدة وأنه إذا أراد
العرب"تصحيح" هذا الأمر لصالحهم فما عليهم إلا أن يغدقوا الأموال
على أعضاء الكونغرس ومؤسسات الإعلام الأمريكي بغية تكوين"لوبي
عربي" وأن هذه العملية ربما تستغرق عقود من الزمان لكي يتم بناء قاعدة
سياسية واجتماعية أمريكية تؤيد العرب والحقوق العربية.
*
المسافة الفاصلة بين الولايات المتحدة الأمريكية والكيان الصهيوني لا تقل عن
خمسة آلاف ميل. الولايات المتحدة قوة عظمى عملاقة بالمعنى الاستراتيجي وفي
النصف الغربي من الكرة الأرضية، بينما الكيان الصهيوني شريط جغرافي ضئيل في
زاوية من زوايا الشرق الأوسط. الولايات المتحدة فيها وعاء سكاني يزيد عن ربع
مليار نسمة بينما ليس في الكيان الصهيوني أكثر من خمسة ملايين نسمة.
الولايات المتحدة تمتد جغرافيتها ما بين المحيط والمحيط(الأطلسي- الهادئ)
بينما لا تزيد مساحة الكيان الصهيوني عن ولاية نيوجيرزي. بالرغم من هذه
التفاوتات الجسيمة نشأت بين الطرفين(الولايات المتحدة والكيان الصهيوني)
علاقات تحالف حميمة تحتاج لفحص واستقصاء علميين.
*
تنقسم الكتابات الصهيو-أمريكية التي عالجت الموضوع إلى ثلاثة أقسام:
-
القسم الأول: يعني بالجانب التاريخي للعلاقة متبنياً الروايات الرسمية
والدبلوماسية منذ قيام الكيان الصهيوني 1948 حتى الآن.
-
والقسم الثاني يركز على جانب واحد كمحرك ومبرر للعلاقة مثل العامل
الاستراتيجي أو اليهودي.
-
والقسم الثالث دراسات لا تخلو من الرومانسية والميول الأدبية والاستشراقية
الكلاسيكية وهذا قسم لا يعتد بما صدر منه لفهمه التحالف الصهيو-أمريكي
والغوص في تفاصيله.
*
مكونات التحالف وبداياته عديدة: المنظورات اليهودية والمسيحية المشتركة
لمنطقة الشرق الأوسط من حيث هي مهبط الديانات السماوية، والعشق المسيحي
الغربي للأراضي(المقدسة) التي تحيط بالقدس، وعقدة الذنب الغربية لما يقال عن
الهولوكست النازي ضد اليهود في أوروبا، والمقاصد الاستراتيجية في العلاقات
الصهيو-أمريكية. لكن حتى هذه العوامل غير كافية لتبرير وتفسير هذا التلاحم
التاريخي الذي يزداد قوة مع مرور السنين. نعم إنها عوامل هامة لكن لا تبدو
كافية لتفسير وتبرير الناجز في العلاقات الصهيو-أمريكية وهو كثير وخطير
للغاية.
*
عندما وقف الإرهابي رابين في حديقة البيت الأبيض في واشنطن ظهيرة ذلك اليوم
المشمس 13/9/1993 وصافح ياسر عرفات بشيء من المزاج البلغمي وسط تصفيق الحضور
وعلق جورج بوش- الرئيس السابق للولايات المتحدة -والذي حضر ذلك(الاحتفال)
على المصافحة قائلاً: "لولا عاصفة الصحراء 1991 في الخليج لما شاهدتم
هذه المصافحة" واللبيب بالإشارة يفهم.
بالرغم من حرص الطرفين على التقليل من أهمية الجانب الديني في
العلاقة بينهما، يظل" الدين" عاملا مهما للغاية في شحذ وتجديد
وشحن التحالف الصهيو-أمريكي، فمع بدايات القرن التاسع عشر بدأت موجة إحياء
مسيحي" بروتستانتي" قوية في الولايات المتحدة خاصة في الساحل
الشرقي منها وبالذات في ولاية نيوانجلاند-New-England. وخلال تلك الفترة نشطت هذه الموجة في
الامتداد إلى الشرق الأوسط والخليج العربي عبر الإرساليات التبشيرية
وذلك-حسب تعبيرهم-" لنشر الكل-To Sperad The Word." وانضمت هذه الإرساليات التبشيرية المسيحية الأمريكية
إلى الإرساليات الأوروبية التي سبقتها زمنيا وكانت تضم هذه الإرساليات أطباء
وتجارا ودبلوماسيين وجواسيس ومغامرين وغيرهم، وكانت فلسطين-أنذاك- خاضعة
للدولة العثمانية العصية على الاختراق الصهيوني اليهودي، لقد لعب اليهود
دورا مركزيا في زرع الفكرة التالية في هذه الموجة المسيحية وهي: أن عودة
اليهود إلى فلسطين شرط موضوعي يسبق" قيامة المسيح" وعودته إلى
الأرض حسب العقيدة المسيحية.
وكلما تكاثفت عودة اليهود إلى فلسطين-هكذا تقول الفكرة- تعجلت
قيامة المسيح وعودته إلى الأرض، من هنا سنلاحظ أن هذه الموجة المسيحية
البروتستانتية لعبت دورا جوهريا في المساعدة لتأسيس الكيان الصهيوني في
فلسطين لتحقيق هذا الغرض، وتعبيرا عن هذه الموجة من الأصولية المسيحية
المتعاطفة مع الصهاينة فقد وقع الرئيس الأمريكي 1830 أندرو جاكسون ِAndrew Jakson. مع السلطات العثمانية اتفاقية لتسهيل
زيارة الإرساليات المسيحية الأمريكية لفلسطين ولقد مكنت هذه الاتفاقية
الولايات المتحدة من تعين قناصل لتمثيلها في اسطنبول" في الأغلب من
يهود أوروبا" وفي 1848 ساهمت التجربة الأمريكية في استكشاف نهر الأردن
والبحر الميت لصالح اليهود وزار-في ذلك العام- الكولونيل لينش W-Flynch." من البحرية الأمريكية"
الأقلية اليهودية آنذاك في القدس وعلق في مذكراته قائلا:" إن سقوط
الدولة العثمانية شرط أساسي وجوهري لإقامة الكيان اليهودي في فلسطين"
وفي عام1860 تأسست أول جالية أمريكية تبشيرية في فلسطين بقيادة شخصية مثيرة
للجدل: جوشو أدامز Joshua Adms
الذي كثيرا ما أعلن أن هدفه تعجيل عودة اليهود إلى فلسطين.
*
تحت شعار(نشر الكلمة To Speed Word
) أي الدعوة للمسيحية تزاحمت الإرساليات التبشيرية في القرن التاسع عشر في
منطقة فلسطين والخليج العربي وعدد من الأقطار العربية. ويؤكد د.يوسف الحسن
في أطروحته الثمينة(البعد الديني في السياسة الأمريكية اتجاه الصراع العربي
الصهيوني) والتي نشر مركز دراسات الوحدة العربية في بيروت فبراير 1990، نقول
يؤكد ارتباط هذه الإرساليات التبشيرية المسيحية بالحركة الصهيونية وأنها
قامت بأعمال تمهيدية خطيرة لقيام الكيان الصهيوني على أرض فلسطين، كما يؤكد
كل من أندرو كوكبرن ولزلي كوكبرن في كتابهما المشترك والثمين والذي يؤرخ
العلاقة الصهيو-أمريكية بعنوان(الارتباط الخطير Dangerous Liaison) دار نشر هاربر بيرينيال-نيويورك-1992
والكتاب مكون من 416 صفحة، نقول يؤكد هذان المؤلفان الأمريكيان بأن حركة
التبشير المسيحي البروتستانتي الأمريكي التي وفدت إلى العالم العربي وتركزت
بالذات في فلسطين إنما كانت تمهد لقيام الكيان الصهيوني وأن بعض الشخصيات
القيادية في هذه الحركة لا يهمها انتشار المسيحية في صفوف العرب بقدر
اهتمامها بالتمهيد لقيام الكيان الصهيوني فوق أرض فلسطين، لا بل أن الصهاينة
أنفسهم بدأوا يكتبون عن هذا الموضوع( ارتباط حركة التبشير المسيحي في العالم
العربي بالحركة الصهيونية) ومن أهم الكتب التي أصدرها الصهاينة في هذا
الموضوع ما نشره الإسرائيليان يوسي ملمان ودان رافيف 1994 في نيويورك( Friends In Deed) والكتاب مكون من 537 صفحة حيث يؤكدان
بأن جوشوا أدامز من مؤسسي الحركة التبشيرية المسيحية البروتستانية في فلسطين
ما هو إلا عميل للحركة الصهيونية ولا يهمه الدين المسيحي لا من قريب ولا من
بعيد وأنه محتال كبير ومدمن كحول حسب ما يقول كل من ملمان ورافيف(أنظر ص11
من كتابهما المشترك).
*
هذا التحالف المبكر(منذ 1803) بين الحركة البروتستانية المسيحية الأمريكية
والحركة الصهيونية هو الذي أسس للتحالف الصهيو-أمريكي الذي نشهده اليوم وفق
منظورات دينية مشتركة-يومئذ- ومنظورات استراتيجية شاملة في هذا العصر. وسوف
نحاول أن نثبت في هذه السلسلة عمق وعضوية وترابط وتكامل الأدوار الأمريكية
والصهيونية بحيث نهدم الفكرة القائلة بأن انحياز السياسات الأمريكية
للصهاينة هو مجرد وفقط نتيجة لضغط اللوبي الصهيوني اليهودي في واشنطن. إن
الأمر أبعد من ذلك وسوف يتضح لنا فيما بعد أن الكيان الصهيوني هو ذراع
أمريكي يخدم المصالح الأمريكية الواسعة في المنطقة وأن التلازم الاستراتيجي
بين الطرفين أبعد من حكاية(اللوبي) بكثير.
·العلاقة
بين الوكالة المركزية للاستخبارات الأمريكية CIA والموساد(الاستخبارات الإسرائيلية) هي الأساس الذي بنيت
عليه بنود التحالف الصهيو-أمريكي. وقلم الاتصال التاريخي بين الوكالة
الأمريكية CIA
والموساد هو الذي يوجه العلاقات بين الطرفين من مقر الوكالة في لانجلي
بولاية فرجينيا وبناية( هدار دافنا) مقر الموساد المركزي في تل أبيب( هذا ما
يؤكده كوكبرن ورافيف وملمانه ونايتلي وغيرهم ممن كتبوا عن هذه العلاقة
الصهيو-أمريكية) ومن الواضح-من خلال المتابعة لهذا الموضوع-أن الولايات
المتحدة تشكل بالنسبة للصهاينة معينا لا ينضب يرتوي منه الكيان الصهيوني،
حتى أن بعض الأكاديميين الصهاينة بدأوا يحذرون من هذا الاعتماد الكلي على
الأمريكان ومن هؤلاء د.يشاياحو لبيو ويتز في الجامعة العبرية الذي
يقول:" لقد استطاع اليهود على مدى ألفي عام البقاء دون مساعدة الأميين
الجوبييم(غير اليهود) أما الآن فإن الشعب اليهودي في إسرائيل فهو في قبضة
القفازات الأمريكية الحريرية" أنظر كوكبرن. تشكل مبيعات السلاح
الإسرائيلي عالميا أكثر من 40% من إجمالي الصادرات الإسرائيلية أي مليارا
ونصف المليار من الدولارات ومعظمها يوجه لأمريكا الجنوبية وأفريقيا والصين،
إلا أن معظم هذه الصفقات الناجحة دون شك يقف وراءها التمهيد الأمريكي
والتوجه الأمريكي خاصة لدول العالم الثالث التي تقيم علاقات مع إسرائيل في
أمريكا الجنوبية وأفريقيا وذلك مقابل(خدمات) تقوم بها إسرائيل للولايات
المتحدة في أنحاء متعددة من هذا العالم تعليقا على ذلك يقول الجنرال
الإسرائيلي متيتياهو بيليد- عضو الكنيست أيضا-:" نحن في إسرائيل متعهد
دولي للقيام بكل الأعمال القذرة Dirty Work لحساب الولايات المتحدة ولذلك نحن نستحق وعن جدارة عناية من
الأمريكان وعناية خاصة جداً". أنظر كوكبرن. تجزم معظم المراجع التي
بحثت في العلاقات الصهيو-أمريكية أنه ما بين 1948(سنة قيام الكيان الصهيوني)
حتى 1967(هزيمة حزيران) كانت العلاقات الصهيو-أمريكية تدار أساسا عبر CIA والموساد أما بعد ذلك فقد أصبحت
إداراتها موكوله- في العموم- لحكومتي الطرفين الإسرائيلي والأمريكي.
*
لم يكن التعاطف في الإدارة الأمريكية خلال الحرب العالمية الثانية 1939-1945
مع اليهود أصيلا لولا تصاعد القمع النازي ضد اليهود بالخصوص. فـ(الهولوكوست Holocoust) كانت عاملا جوهريا في تحفيز الإدارة
الأمريكية للنظر بالعطف لشأن اليهود، ومع ذلك سنلاحظ أن وزراء ذوي أهمية
كبيرة في الإدارة الأمريكية سنة 1947 و1948 لم يكونوا يخفون معارضتهم للتوغل
الأمريكي في مساندة المطالبة اليهودية بإنشاء ما أسموه وقتها بـ(الوطن
القومي National
homeland) لليهود في فلسطين
ومن هؤلاء الوزراء حسبما يشير إليه رافيف وملمان مثلا وزير الخارجية آنذاك
الجنرال جورج مارشال الذي كان يعتقد بأن مساندة الولايات المتحدة لليهود سوف
تعرقل مساعي الشركات النفطية الأمريكية الحصول على حقوق التنقيب عن النفط في
السعودية وبقية الخليج وبذا تخسر الولايات المتحدة فرصة تاريخية لا تعوض،
وكان وزير الدفاع الأمريكي وقتها جيمس فورستال يعتقد بأن قيام دولة لليهود
في الشرق الأوسط وبحر العداء العربي الذي يحيط بها سوف يعقد المهمات
الاستراتيجية والعسكرية الأمريكية في تلك المنطقة ولذا يرى فورستال أنه حتى
مساندة الولايات المتحدة لقرار التقسيم(أي تقسيم فلسطين 1947) كان قرارا
أمريكيا خاطئا وغير مدروس بما فيه الكفاية، ولكن الرئيس-وقتها- هاري ترومان
كانت لديه حسابات سياسية أخرى إذ كان يعي بأن اليهود لديهم قوة
انتخابية(خاصة في نيويورك) تستطيع أن توجعه في حال تعاطفه مع ما يراه
مارشال(وزير الخارجية) وفورستال( وزير الدفاع) لذلك سنلاحظ أن ترومان وقع في
حضن الصهاينة تماما وكانت حركة الصهيونية قد فوضت ايدي جاكبسون-Eddie Jacobson اليهودي الثري والصديق المقرب للرئيس
ترومان بمتابعة حث الرئيس على الثبات في تأييده لليهود مقابل وعود جازمة
بمساندة ترومان في أية انتخابات قادمة.( تعود صداقة ترومان وجاكبسون للحرب
العالمية الأولى حسب رافيف وملمان وهذا يعطينا فكرة أنه حتى في النظام
الأمريكي- والمفترض أن يكون نظام مؤسسات- تلعب العلاقات الشخصية المحضة دورا
هاما في صياغة الأولويات والخيارات السياسية حتى لكبار المسؤولين في الدول)
·
لقد استثمر اليهود فكرة الـ"هولوكوست HOLOCAUST" أيما استثمار، وجندوا كل خبراتهم
في الصحافة والسينما والفن التشكيلي والنحت وعلم النفس والتاريخ والسياسة
والعلاقات الشخصية الحميمة بالزعماء والقادة في المجتمع السياسي العالمي من
أجل بناء قاعدة نفوذهم الأدبي والمعنوي وبالتالي المادية على مستوى العالم
كله، لقد زرعوا في يقين وضمير العالم خاصة 1939-1948 بأن الحل الوحيد
لـ"المسألة اليهودية" هو قيام كيان سياسي يجمعهم"
ويحميهم" من القمع النازي بالإضافة إلى ذلك وجد" الغرب"
اللاتيني والأنجلو سكسوني هذه الفكرة-تأسيس وطن قومي لليهود- فرصة تاريخية
للتخلص من أخطبوط اليهود الساميين في المجتمع الغربي، لا بل وجد الغرب في
هذه الفكرة استكمالا مناسبا للخماسية التاريخية التي تعامل عبرها مع الأمة
العربية والإسلام:
1.
مرحلة العنف التاريخي مع العرب والإسلام عبر الحملات العسكرية البريطانية في
العراق وفلسطين ومصر والخليج والحملات العسكرية الفرنسية في الجزائر والمغرب
وتونس والحملات العسكرية الإيطالية في ليبيا والحملات العسكرية الهولندية في
الأرخبيل الإندونيسي وغير ذلك.
2.
مرحلة التجزئة والتشطير وتقطيع الدولة العثمانية كالذبيحة إربا إربا وصناعة
موزائيك من الكيانات العربية الهزيلة التي لا تعدو كونها شظايا جغرافية لا
تتمتع بأية مقومات استراتيجية.
3.
مرحلة محاربة العروبة واللغة العربية والإسلام وصناعة النخبة المتغربة فكريا
والوكيلة التاريخية للغرب في المنطقة العربية والمتكفلة بحرب اللغة العربية
وشريعة الإسلام.
4.
مرحلة الإلحاق الاقتصادي وتوظيف اقتصادات العرب لخدمة عجلة الاقتصاد الغربي.
5.
مرحلة تأسيس إسرائيل لضمان هذا التسلسل التاريخي واستعمال هراوة إسرائيل
لقمع أي تغيير وليد قد يغير هذه الأنساق السابقة.
·
صحيح أن اليهود استثمروا الـ"هولوكوست" لكسب عطف العالم وبناء
نفوذهم الأدبي والمعنوي فيه، ولكن صحيح أيضا أن الغرب استثمر كل ذلك واستثمر
الكيان الصهيوني وأمده بكل ما يحتاجه لقمع أي تغيير إيجابي في حركة العرب،
على هذه الأرضية من البرجماتية الغربية تأسس التحالف الصهيو-أمريكي من هنا
سنلاحظ أن الولايات المتحدة حريصة على إنفاذ هذه الخماسية التاريخية من خلال
الكيان الصهيوني واستعماله كهراوة ضد العرب كلما حاول العرب أن ينهضوا
بأنفسهم أو يفكروا بالإفلات من مصيدة هذه الخماسية التاريخية.
*
من خلال فحص التحالف الصهيو-أمريكي والتعرف على مفاعيله سنلاحظ أن الأمريكان
يبتغون من ورائه (السيطرة) والهيمنة على المناطق والأحداث والتحولات
والتطورات خاصة في العالم الثالث (آسيا-أفريقيا-أمريكا اللاتينية) ويرون في
الكيان الصهيوني وسيلة وهراوة (عملية) للغاية لا تضع حسابا للاعتبارات
القانونية الدولية أو حسابا لما يسمى بـ( الشرعية الدولية) أو حسابا بالأصول
الدبلوماسية العالمية أو تقف عند حدود تفرضها الأخلاق أو العدل أو ما شابه
ذلك من مناقب الإنسانية، إذن الأمريكان ينظرون للكيان الصهيوني على أنه ذراع
عسكري يستعينون به في العالم الثالث لتحقيق السيطرة الأمريكية هنا وهناك
عندما تبرز المعيقات لهذه السيطرة وتتعقد معادلة التدخل الأمريكي المباشر.
أما بالنسبة للصهاينة اليهود فيبتغون من وراء التحالف (التجارة) فكل شئ
ونشاط وحركة بالنسبة لليهود يحولونه إلى تجارة: المعلومات تجارة والأمن
تجارة، والسلام تجارة، والثورة تجارة، والانقلاب تجارة وجشع اليهود لا يقف
عند حد والغرب يعرف ذلك أكثر من العرب والغربيون كتبوا عن ذلك أكثر من العرب
(اقرأ إن شئت مسرحية تاجر البندقية وتتبع شخصية شايلوك كما رسمها شكسبير)-The merx- hant of
Venice
*
تجارة الأمن: من أكثر التجارات ازدهارا في الكيان الصهيوني ومعظم الجنرالات
وضباط الموساد الذين يتقاعدون تشجعهم وزارة الدفاع الإسرائيلية على الانطلاق
في العالم الثالث لتشكيل (شركات) وتسجيلها رسميا لتقديم (خدمات أمنية
وعسكرية) لكل من يدفع وذلك للتخطيط والتنفيذ لعمليات متنوعة: قمع معارضة-
التخطيط لانقلاب-اغتيالات- تهريب وطبع منشورات سياسية-نقل مخدرات- تدريب
عسكري وغير ذلك.
حسب أندرو ولزلي كوكبرن (المشار إليهما سابقا) كل شئ بالنسبة
للإسرائيليين يجب أن يخضع لاعتبارات التجارة: (You pay, they deliver
inquisitions asked
).
لقد استعانت الولايات المتحدة بهذه" الشركات
الإسرائيلية" في عدة عمليات قذرة في أفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية
وتحكمت- بشكل سريع وحاسم وبوسائل عنيفة للغاية- بتطورات الأمور في عدة بلدان
دون التدخل المباشر الرسمي منها. هذه العلاقة من التخادم بين الأمريكان
والصهاينة تشكل قاعدة التحالف الصهيو- أمريكي والمسوغ المنطقي لاستمراره.
يبدو
من خلال فحص العلاقات الصهيو-أمريكية أن إسرائيل دولة (وظيفية) أي أنها
تقوم بتنفيذ وظيفة لصالح الولايات المتحدة في العالم وليس في الشرق الأوسط
فقط. هناك دول (عازلة) BUFFER أي تعزل دولة عن أخرى أو إقليما عن آخر،
وهناك دول (تابعة) SATELLITE تكون قاعدة للنفوذ ونموذجا للتبعية المغالية
المتطرفة، وهناك دول (وظيفية) FUNCTION تقوم بوظيفة محددة لصالح الحليف
الكبير (في هذه الحالة الولايات المتحدة) وظيفة إسرائيل هي محاربة أي
بادرة من العرب للاستقلال عن الاستراتيجية العليا للولايات المتحدة، هذه
الاستراتيجية التي تقوم على تشطير العرب وتجزئتهم بالقوة وإلحاقهم
ومقدراتهم الاقتصادية الاستراتيجية بعجلة الاقتصاد الأمريكي وخدمته،
واقتلاعهم ثقافيا ومعنويا وأدبيا من أية خصوصية تصنع منهم حالة ثقافية أو
دينية أو حضارية مغايرة للنموذج الأمريكي، وإبقاء العرب في حالة تبعية
مقيمة لكل مفاعيل الاستراتيجية العليا للولايات المتحدة. أي خروج للعرب عن
هذه الاشتراطات يكون من مهمات الدولة الوظيفية (إسرائيل) التدخل لكبحه من
خلال افتعال الحروب والأوضاع المؤدية إليها.
*
يخطئ من يظن أن هذه الكيان الصهيوني أقيم من طرف من أقامه بين ظهرانينا لكي
يكون (وطن قومي لليهود) فقط ذلك لأن معظم القادة الأوائل في الحركة
الصهيونية لم يعرف عنهم تعاطفهم مع اليهودية كدين، بل أن أول رئيس وزراء
لهذا الكيان ديفيد بن جوريون ملحد أعلن إلحادة مرات عديدة ولم يدخل-حسب
مذكراته وكل الذين أرخو لدوره السياسي- طيلة حياته لكنيس يهودي وقد تبنى
(الصهيونية) كمذهب سياسي وهو مذهب يوظف اليهودية ولا يدين بها كما هو واضح،
لذلك فإن الكيان الصهيوني هو كيان وظيفي يقوم على منظور مرتبط بحركة
الإمبريالية الغربية كما تبدي من التحضير التاريخي والسياسي والدبلوماسي
البريطاني لقيام كيان (وعد بلفور 1917 وتداعياته) والترسانة النووية
الإسرائيلية في صحراء النقب لم تكن ممكنة لولا التعاون الفرنسي مع الصهاينة
(مفاعل ديمونا) والدعم الاستراتيجي غير المحدود للصهاينة من طرف الإدارات
الأمريكية المتعاقبة على البيت الأبيض (من ترومان في الأربعينات والخمسينات
إلى جورج بوش الابن حاليا) يجب ألا تغيب هذه الحقائق عن أعيننا ونحن ندرس
موضوع التحالف الصهيو-أمريكي، ويجب ألا تتصور أن للولايات المتحدة مصالح في
الشرق الأوسط (منفصلة) عن مصالح الصهاين* إن الترابط العضوي بين الأمريكان
والصهاينة حقيقة تتجاوز كل آمال العرب وأوهامهم بإمكانية دور أمريكي
(منصف!!) في هذا الصراع المستعر بيننا وبين الصهاينة في فلسطين.
*في
فبراير 1956 عقد الحزب الشيوعي السوفياتي مؤتمره العشرين الشهير وألقى
نيكيتا خروشوف خطابه التاريخي في نقد ستالين وحقبته وكان الخطاب بمثابة
الدخول في مرحلة جديدة من التجربة السوفياتية. طبعت فقط سبع نسخ من كلمة
خروشوف وتم توزيعها على رؤساء محددين للدول الشيوعية آنذاك. كانت كلمة
خروشوف طويلة للغاية (85 صفحة) وقاسية وشديدة اللهجة في نقد التجربة
الستالينية ونقد ستالين وأسلوبه الدموي في الحكم والإدارة السياسية. أرتأى
المكتب السياسي للحزب عدم نشر كلمة خروشوف في وسائل الإعلام مخافة آثارها
على هيبة وتماسك السلطة السوفياتية ونفوذها العالمي، إلا أن الإشاعات التي
تسربت من المؤتمر كانت تشير إلى حدوث (شئ ما) غير عادي في المؤتمر العشرين
واحتارت المخابرات البريطانية والمخابرات الأمريكية وغيرها في الوصول إلى
كنه ما حدث في ذلك المؤتمر وأثر ذلك على طبيعة (المنهج) الذي ستتبعه الإدارة
السوفياتية في ظل خروشوف وسياساته الداخلية والخارجية خاصة وأن هلاك ستالين
(1953) لم يمر عليه كثير.
*فيكتور
جرابيفسكي صحافي بولندي يهودي صهيوني المذهب له علاقات واسعة بالحزب الشيوعي
البولندي ورئيسه آنذاك إدوارد أوهاب. بالإضافة إلى كل ذلك كان جرابيفسكي
حريصا على التعامل مع الموساد والمسؤولين الصهاينة في الإدارات الأخرى.
استطاع هذا الأخير- من خلال علاقاته الشخصية بإدوارد أوهاب- الحصول على نسخة
مصورة لكلمة خروشوف التي كان السوفيات يتكتمون عليها لخطورتها، فما كان
منه-أي جرابيفسكي- إلا أن استقل الطائرة إلى تل أبيب وأهدى هذه النسخة
للموساد. على أثر ذلك اجتمعت الحكومة الإسرائيلية برئاسة بن جوريون وقررت
استثمار هذه اللحظة التاريخية بأن أرسلت ممثلا لها حاملا نسخة (صورة) من
كلمة خروشوف لتسليمها إلى رئيس الوكالة الأمريكية للإستخبارات المركزية CIA ألن دالاس شقيق جون فوستر دالاس وزير
الخارجية الأمريكي آنذاك. كانت المخابرات الغربية الأوروبية والأمريكية طوال
شهري فبراير ومارس من ذلك العام قد عجزت عن الحصول على نسخة من خطاب خروشوف
وهاهي الموساد تزودهم بها، لذا بدأت مرحلة جديدة من النظر للموساد على أنه
جهاز استخباري يتمتع بكفاءة وعلاقات واسعة وأنه من المصلحة الشروع في تعاون
شامل وعام واستراتيجي معه وكان لا شك لذلك أثره البالغ على عمق التحالف
الصهيو-أمريكي وتطويره. وكانت تلك السنة 1956 ذهبية بالنسبة للكيان الصهيوني
وأفسدها فيما بعد- وفي نفس العام- تآمر الصهاينة والإنجليز والفرنسيين
بالاعتداء الثلاثي على مصر انتقاما من عبد الناصر لتأميمه قنال السويس التي
كانت تحت سيطرة شركة إنجليزية-فرنسية. لقد أثر الاعتداء الثلاثي المذكور
كثيرا على التحالف الصهيو-أمريكي وأكد سيطرة الأمريكان عل توجهه
الاستراتيجي.
*
كان الصهاينة يدركون منذ البداية أن إقامة كيانهم يحتاج إلى توفير ثلاث
عناصر: (السلام والمال والبشر) وكانوا يركبون كل المراكب للوصول إلى هذه
العناصر الثلاثة، ولأن معظم الصهاينة الأوائل ينحدرون من أصول روسية أو
أوروبية شرقية اتجهوا أولا إلى الكتلة الشيوعية للبحث في الدعم وقج حصلوا
عليه بكثافة من الاتحاد في بادئ الأمر ومن الدول التي كانت تدور في فلكه
وخاصة تشيكوسلوفاكيا، وهذا في حد ذاته أخاف الأمريكان لأنهم كانوا يرون في
هذا التعاون النشط بين الحركة الصهيونية والحركة الشيوعية أو بتعبير أدق مع
الكتلة الشيوعية تهديدا لمصالحهم-أي مصالح الأمريكان- في المنطقة العربية
وبالذات في الخليج والجزيرة العربية وقد كانت الشركات النفطية الأمريكية
يومها نشطة في اتصالاتها مع الخليج والجزيرة العربية بحثا عن عقود التنقيب
عن النفط في الإقليم.
*
يقول إيسر هاريل ISSER HAREL
الرئيس السابق للموساد في مقابلة مع أندرو كوكبرن-الباحث الأمريكي- عن علاقة
الصهاينة بالأمريكان في تلك الفترة المبكرة-:(لم يكونوا-أي الأمريكان-يثقون
بنا في تلك الفترة لأننا بالنسبة إليهم كنا حفنة من الروس الاشتراكيين
القادمين من مدينة مينسك MINSK
في الاتحاد السوفيتي والهاربين منها بسبب فشلنا في ثورة 1905 هناك)، فعلا
هذا صحيح، معظم القيادات الصهيونية الناشطة آنذاك كانت وافدة من روسيا
وأوروبا الشرقية وخاصة بولندا: ديفيد بن غوريون واسحاق شامير ومناحيم بيغن
وغيرهم وكان أندريه جروميكو وزير خارجية الاتحاد السوفيتي آنذاك دائما
يقول:(بيدي هذه أقمت دولة إسرائيل)، مؤكدا تأييد الاتحاد السوفيتي سنة 1947
في مجلس الأمن لقرار تقسيم فلسطين وقد سبق الاتحاد السوفيتي في هذا التأييد
حتى الأمريكان، ومن يقرأ خطاب جروميكو في مجلس الأمن عام 1947 والذي يشرح
فيه وجهة نظر الاتحاد السوفيتي المؤيدة لقيام الكيان الصهيوني في فلسطين
يدرك إلى أي مدى ذهبت الكتلة الشيوعية في تأييد الصهاينة في تلك الفترة
المبكرة، بل أن الاتحاد السوفيتي اعترف بالكيان الصهيوني قبل أن يعترف به
الأمريكان عام 1948، أكثر من هذا فإن الفرق الأولى في الجيش الإسرائيلي انما
تشكلت وتدربت في تشيكوسلوفاكيا وأن أول فرقة في هذا الجيش سميت فرقة كليمنت
جوتوالد CLEMENT
GOTTWRLD الزعيم الشيوعي
التشيكي، هذه العلاقة الحميمة بين الصهاينة والشيوعيون في تلك الفترة كانت
من العوامل الهامة التي دفعت الأمريكان لاستدراج الصهاينة وتوظيفهم في الشرق
الأوسط لحماية المصالح الأمريكية قبل أن ينجح الاتحاد السوفيتي في توظيف
الصهاينة لديهم.
*-
يجب أن يكون واضحا لدى الجيل الجديد من العرب أن التحالف الصهيو-أمريكي إنما
قام على أرضية وبنية تحتية تاريخية من التحالف الغربي العام مع الصهاينة،
وهو تحالف لا يزال قائما ونشطا لكنه-لأسباب موضوعية كثيرة-أقل بروزاً عن
التحالف الصهيو-أمريكي، فالإنجليز منذ مطلع القرن الذي مضى وهم يهيئون الأمور،
على الصعيد الدولي، لقيام الكيان الصهيوني فوق أرض فلسطين. ومن يدرس التحضير
الدبلوماسي الدولي الذي أشرف عليه الإنجليز لكي يقوم الكيان الصهيوني فوق
أرض فلسطين ويدرس المراسلات البريطانية حول هذا الشأن يدرك مسؤولية الإنجليز
التاريخية عن هذه الجريمة التاريخية المسماة (إسرائيل). وعندما قام الكيان
الصهيوني فوق أرض فلسطين كان لفرنسا الدور الكبير في بناء الترسانة النووية
الصهيونية في صحراء النقب في فلسطين وبناء مفاعل ديمونا Dimona (إن شئت عزيزي القارئ متابعة الدور
الفرنسي في هذا المجال أنصحك بقراءة كتاب سيمورهيرش- خيار شمشون The semson option- دار نشر فابر- لندن- 1991 والكتاب من
356 صفحة) أما دور الاتحاد السوفيتي فقد تركز في تزويد الكيان الصهيوني
بأمواج ضخمة من المهاجرين اليهود إلى فلسطين، لقد شجع الاتحاد السوفيتي بكل
الوسائل هجرة اليهود من أراضيه وأراضي الدول التي تدور في فلكه وبالذات
أوروبا الشرقية إلى فلسطين وكان لهذا الدعم البشري (الديمغرافي) للكيان
الصهيوني قيمته الكبيرة في ترسيخ الكيان فوق أرض فلسطين. هذا غيض من فيض حول
البنية التاريخية للتحالف الصهيو-غربي ولذا سنلاحظ أن الإنجليز والفرنسيين
والسوفييت-كأمثلة- قد يختلفون حول كثير من القضايا والمشاكل في السياسة
الدولية 1947-1990 لكنهم يتفقون على دعم الكيان الصهيوني سياسيا ونووياً
وبشرياً. طبعا هذا مؤشر مادي وشديد الوضوح على أن الغرب- بشتى مدارسه
السياسية- يقف جوهرياً ضد العرب. ومع أعداء العرب وليس هنا مجال مناسب للبحث
الأكاديمي في أسباب ذلك.
*-
وعندما بدأ الأمريكان يدخلون في حلبة المنافسة الدولية في الشرق الأوسط 1952
وجدوا أن جميع القوى الدولية آنذاك (بريطانيا- فرنسا- الاتحاد السوفييتي)
منخرطة تماماً في تأييد الصهاينة أملاً في توظيف الصهاينة لخدمة مصالح تلك
القوى في الشرق الأوسط ولذا كان منطقيا-يومها- أن ينخرط الأمريكان في هذه
اللعبة أملا في توظيف الصهاينة ضمن الاستراتيجية الأمريكية العليا في الشرق
الأوسط وقد كان. ليس هذا فحسب بل أن الكيان الصهيوني أصبح يشكل امتداداً
أمريكيا في عدد غير قليل من دول العالم الثالث في القارات الثلاث
أفريقيا-آسيا-أمريكا اللاتينية.
*-
ثمة تشابه أو تقارب في التشكيل الطبقي بين المجتمع السياسي الصهيوني
والمجتمع السياسي الأمريكي في الولايات المتحدة ما يساعد على هذا التنناغم
المقيم بين طرفي التحالف. فالمجتمع السياسي الأمريكي تسيطر عليه طبقة من
البروتستانت الأنجلو- سكسون البيض والتي تسمى هناك بـ(WASPS) وهي اختصار
لـ- White Anglo Saxon Protestants وفي الكيان الصهيويني هناك طبقة شبيهة
وهي طبقة الصهاينة الأوائل القادمين من أوروبا الشرقية وروسيا والمسماة
بالأشكنازي البيض Ashkenazi ومن الملاحظات البارزة على المجتمعين
السياسيين في كل من الولايات المتحدة والكيان الصهيوني أن مناصب الإدارة
السياسية الرئيسية في البلدين تظل في معظم الأوقات بيد الواسبس في
الولايات المتحدة الأمريكية وبيد الأشكنازي في الكيان الصهيوني وفي النادر
يتم الخروج عن هذه المعادلة طبعا في كلا البلدين طبقات أخرى تشكل أغلبية
المجتمع السياسي هناك في الولايات المتحدة الزنوج والهسبان (المتحدرين من
أمريكا اللاتينية وخصوصا المكسيك) والهنود الحمر وغير ذلك، أما في الكيان
الصهيوني فيشكل اليهود الشرقيون (السفارديم) saphardis الذين هاجروا من
البلاد العربية (المغرب-العراق-اليمن) أغلبية القاع الاجتماعي هناك. هذه
الحالة (أقلية عنصرية حاكمة مقابل أقلية عنصرية محكومة) والموجودة في
البلدين تساعد على رص التحالف وتفاقم الإحساس التاريخي بالخطر ومن يدرس
جدلية العلاقة بين الواسبس وبقية طبقات المجتمع السياسي الأمريكي من جهة
وبين الأشكنازي والسفارديم في الكيان الصهيوني من جهة أخرى لا يحتاج إلى
كثير من ذكاء لاكتشاف ذلك.
*-
لذلك سنلاحظ أن تعيين مثلا شخص (زنجي) في منصب كبير في إدارة كارتر كمندوب
للولايات المتحدة في الأمم المتحدة آندرو يونج A. Young أثار زوبعة من النقاش السياسي الحاد في
المجتمع يفترض أنه ديمقراطي يحاكم الناس على أدائهم وليس على ألوانهم. وحتى
تعيين كولن باول وزير الخارجية الأمريكي الحالي وهو الزنجي آثار كثيرا من
الامتعاض في الردهات الداخلية للواسبس.
*-
نفس الشيء يحدث في الكيان الصهيوني عندما يتم تعيين اسحاق موردخاي في منصب
وزير الدفاع وهو-أي موردخاي- من يهود العراق أي من السفارديم فذلك يثير
كثيرا من الامتعاض في أوساط الأشكنازي. كذلك عندما يتم تعيين موشيه شاحل
وزيرا للشرطة في الكيان الصهيوني وهو من يهود العراق يثير نفس ردود الفعل في
مجتمع يتبجح الغرب بأنه- الديمقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط.
*-
هذا البعد الطبقي يلعب دورا هاما في التحالف بين الصهاينة والأمريكان، عفوا
بين الأشكنازي والواسبس.
روفن شلواح من يهود العراق-وتحديدا بغداد- ومن الشخصيات الهامة
التي نسجت التحالف الصهيو-غربي- عموما والتحالف الصهيو-أمريكي خصوصا منذ
1930 كان شلواح يرى أن القيادات السياسية في العالم العربي تمارس ضربا من
ضروب الباطنية السياسية إزاء فكرة (وطن قومي لليهود في فلسطين) ولذا فمن
الحكمة-من جانب اليهود-ألا يفضحوا هذه الباطنية السياسية بل من الأنسب
استثمارها ولكي يتم هذا الاستثمار على أكمل وجه كان لابد على اليهود أن
يجهدوا في تأسيس (قلم اتصال سري) بهذه القيادات وخاصة في محيط فلسطين، ولأنه
كان مستشارا لبن جوريون أول رئيس وزراء للكيان الصهيوني ولأنه يتقن العربية
وعلى معرفة بشؤون العرب وطبيعتهم فقد مهد لقيام تعاون شامل بين أجهزة الأمن
والاستخبارات الصهيونية ونظيراتها في الغرب الأوروبي والأمريكي فيما يتعلق
بالاتصال بالقيادات العربية آنذاك في العراق والأردن ومصر ولبنان وكان شلواح
يعتقد أن هذه الاتصالات هي البنية التحتية التي ستبني عليها اليهود كيانهم
في فلسطين 1948 بمساندة دولية واسعة(بريطانية-فرنسية-سوفياتية-أمريكية)
وعندما أسس الصهاينة الموساد 1951 عين بن جوريون شلواح أول رئيس لهذا الجهاز
الاستخباراتي الذي لعب دورا هاما في حياة الكيان الصهيوني، وفي زيارة بن
جوريون لواشنطن مايو 1951-وكان برفقة شلواح-تمكن الأخير من اقناع الأمريكان
باعتبار المولود الجديد (الموساد) مكتبا من مكاتب وكالة الاستخبارات
المركزية الأمريكية CIA
وتم افتتاح مكتب وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية CIA في تل أبيت في أكتوبر 1951 لتحقيق أكبر
قدر من التعاون الأمني الاستراتيجي بين الطرفين وكانت رئاسة هذا المكتب قد
أسندت لشخصية أمريكية مخابراتية خطيرة للغاية: جيمس جيسس انجلتون J.J.ANGLETON وهذا الأخير محط تقدير كبير من الصهاينة
إلى درجة أنهم بنوا تمثالا له في القدس المحتلة للدورالكبير الذي لعبه في
نسج التحالف الصهيو-أمريكي في تلك الفترة المبكرة وكان لروفن شلواح دور كبير
في اقناع الأخير بفكرة التحالف الاستراتيجي بين الصهاينة والأمريكان في تلك
الفترة المبكرة، علما أن هناك دوائر أمريكية وأيضا صهيونية- في ذلك الوقت-
كانت معارضة لهذا التقارب الصهيو-أمريكي وكان لهذه الدوائر أسبابها
ومبرراتها الموضوعية.
*-
التخادم السياسي بين المشروع الصهيوني والمشروع الأمريكي في المنطقة العربية
كان منذ البداية واضحا.
فالانتشار اليهودي في المنطقة
العربية(العراق-المغرب-اليمن-الشام-مصر-البحرين.. وغير ذلك) تسلح اليهود
بمعرفة في شؤون المنطقة وعلاقات بقيادتها الرسمية والشعبية(أحزاب وحركات
ونخب) وهي معرفة وعلاقات كان الأمريكان وقتها يفتقرون إليها، وليس غريبا إذن
أن يكون أول رئيس للموساد 1951 يهودي بغدادي: روفن شلواح وليس غربيا إذن أن
يلعب اليهود العرب الدور القيادي في الحركات الشيوعية العربية واليسارية
العربية في المنطقة العربية، (شلومو دلال في بغداد وهنري كوربيل في القاهرة
وغيرهما في عواصم عربية أخرى). كان الأمريكان بحاجة إلى هذا الجسر للعبور
إلى المنطقة خاصة وأن التنافس الأنجلو-أمريكي كان قد قطع شوطا كبيرا في
المنطقة العربية من جهة اخرى كان الأمريكان- والايزالون يوفرون لليهود في
المنطقة العربية لملاءة السياسية والدبلوماسية التي يحتاجونها خاصة وأن
الأمريكان وقتها كانوا يجوبون ويروحون ويغدون في بلاد العرب بحثا عن عقود
النفط والتنقيب عنه (إقرأ إن شئت "ملوك العرب" بأجزائه لأمين
الريحاني لتتبع هذا الموضوع) وفي إطار هذا البحث عن النفط طرحوا فكرة ومشروع
(وطن قومي لليهود في فلسطين) على أكثر من طرف قيادي بين العرب وقد لاحظ
اليهود من خلال هذه الاتصالات والمراسلات أن معارضة القيادات العربية كانت
معارضة رخوة في إطار الوعود الأمريكية لهذه القيادات بالثراء والرفاه الذي
سيرافق تفجر النفط في المنطقة حينئذ.
*-
إذن منذ البداية كان واضحا التخادم السياسي بين المشروعين في المنطقة:
الصهيوني والأمريكي. هذا التعامل الاستراتيجي كان بحاجة إلى مادة SUBSTANCE تعطيه التبرير الموضوعي والمسوغ الشرعي،
ولذا بدأ الطرفان يشجعان كل الروافد الفكرية والدينية والثقافية والتاريخية
التي تدعم الاتصال والتعارف ومن ثم التحالف بين الصهاينة والأمريكان في
المنطقة العربية وحكاية (اللوبي) الصهيوني في الولايات المتحدة هي رافد من
هذه الروافد في المحصلة النهائية وغير صحيح هذا الكلام الذي نقرؤه ونسمعه من
أن الأمريكان لا يستطيعون لجم اللوبي الصهيوني في المؤسسات الدستورية
والسياسية في الولايات المتحدة ولكن الصحيح هو أن ثمة تخادما سياسيا وتفاهما
استراتيجيا بين الصهاينة والأمريكان داخل الولايات المتحدة وخارج الولايات
المتحدة ولذا- ولأن الأمر كذلك- فليس من المنتظر ولا يعقل أن يلعب الأمريكان
دور (الوسيط العادل) في ما يسمى بـ(أزمة الشرق الأوسط) وهي أزمة ستستمر-في
ظننا- عشرات السنين ومن أهم عناصر استمرارها التحالف الصهيو-أمريكي.
*-
معظم الرعيل الأول من الصهاينة كانوا قد قدموا من الاتحاد السوفييتي أو من
الدول التي كانت تدور في فلك الاتحاد السوفييتي- أي أوروبا الشرقية- ولذا
كان من المتوقع أن يقوم تحالف قوي بين الكيان الصهيوني والاتحاد السوفييتي
وليس بين الأمريكان والصهاينة، معظم الرعيل الأول من الصهاينة يتكلمون
الروسية أو يتقنونها بينما إنجليزيتهم ركيكة وأحيانا بدائية (يشذ عن هذه
القاعدة قلة قليلة: منهم أبا إيبان وزير خارجية الكيان سابقا).
تستطيع أن ترسم دائرة كبيرة حول مدينة مينسك MINSK في الاتحاد السوفييتي وتقول من هنا جاء معظم قادة الصهيونية.
ليس بين مدينة مينس وفلسطين المحتلة إلا بضع مئات من الكيلومترات أو لنقل ما
يزيد على الألف بقليل، بينما يفصل فلسطين المحتلة عن جغرافية الولايات
المتحدة ألوف الكيلومترات ومن ضمنها المحيط الأطلسي، لماذا-وبرغم العوامل
المساعدة لقيام تحالف بين الكيان الصهيوني والاتحاد السوفييتي-نلاحظ أن
التحالف الأقوى قام بين الأمريكان والصهاينة؟ هذا سؤال فعلا يحتاج لفحص
وتدقيق تاريخيين. كان من الممكن أن يتحول الكيان الصهيوني-بفعل المنشأ
التاريخي للرعيل الأول من الصهاينة إلى وسيلة فعالة بيد السوفييت لنشر
الشيوعية في المنطقة العربية خاصة وأن اليهود انتشروا في كادرات الحركات
الشيوعية العربية (1920-1948) أي الفترة التي مهدت ووفرت التحضير الدبلوماسي
والسياسي لقيام الكيان الصهيوني في فلسطين المحتلة. فقط نعطي مثالا على
انتشار اليهود في الحزب الشيوعي العراقي ونذكر بعض القياديين اليهود خلال
تلك الفترة: ابراهيم شاؤول (مسؤول اللجنة الحزبية في جانب الرصافة من
بغداد)، ابراهيم ناجي شميل من يهود العراق الموسرين لدية سلسلة من الصيدليات
في بغداد ويمول الحزب ونشاطاته في العراق، ويوسف هارون زلخة يصدر صحيفة
(وحدة النضال) السرية- للحزب، ويهودا إفرايم صديق عضو اللجنة المركزية للحزب
أعدم أوائل 1949 وسعيدة ساسون موشية مشعل المعروفة بـ سعاد خيري (زوجة زكي
خيري) وصاحبة كتاب :[من تاريخ الحركة الثورية المعاصرة في العراق-
1920-1958] ونسأل: هل هذا الانتشار اليهودي في كادرات الأحزاب الشيوعية
العربية- وفي تلك الفترة بالذات- تمهيد يهودي تاريخي لتجنيد الحركة لصالح
قيام الكيان الصهيوني في فلسطين المحتلة؟ وما موقف الأمريكان من هذا الأمر وقتها؟
*-
كان الأمريكان 1947 يراقبون بكثير من القلق العلاقات الدافئة-لأبل الحارة
والحميمة- بين الصهاينة والسوفيات ومن يدور في فلكم وخاصة التشيك.
لقد لاحظ الأمريكان نشاط (النظام الشيوعي الجديد) التشيك في
تصدير السلاح إلى مطارات في صحراء النقب في فلسطين. ليس هذا فحسب بل زود
التشيك الصهاينة بطائرات مقاتلة من التي شاركت في عمليات قتالية خلال الحرب
العالمية الثانية (طائرات مزرشميت MESERSCHMITT وسبتفاير SPITFIRE)
وشكلت تلك الطائرات نواة سلاح الجو الإسرائيلي فيما بعد، وفي خريف ذلك العام
المشؤوم (1948) كان لا يقل عن خمسة آلاف عسكري من كافة الرتب من
الإسرائيليين يتلقون التدريبات في تشيكوسلوفاكيا وتحت إشراف ضباط سوفيات
أكثر من هذا طلب الإسرائيليون- والذين قام كيانهم منذ أشهر قليلة- من
السوفيات القدوم إلى فلسطين المحتلة لتدريب كوادر سلاح الجو الإسرائيلي
الجديد وقد كان (أنظر تفاصيل ذلك في كتاب آندرو كوكبرن. مشار إليه سابقا)
هذه العلاقات الحميمة النشطة بين الصهاينة و السوفيات سببت قلقا متزايدا لدى
الأمريكان لأنها تزيد من فرص السوفيات في تكريس نفوذهم في المنطقة العربية
الحافلة بالنفط والمستهدفة استراتيجيا من الأمريكان. لذلك سنلاحظ فيما يلي
من السنوات (1948-1955) اجتهادا أمريكيا بارزا في غواية الصهاينة نحوهم في
مسعى أمريكي نشط لإبعاد الصهاينة عن الشيوعيين. من جهة أخرى سنلاحظ-في تلك
الفترة- ترددا صهيونيا للانخراط في تحالف قوي مع الأمريكان وسبب ذلك أن
الصهاينة كانوا يدركون في نهاية الأمر أن موجات المهاجرين اليهود إلى فلسطين
المحتلة كانت كلها تأتي من روسيا وبولندا ورومانيا وبلغاريا وتشيكوسلوفاكيا
وكل هذه المناطق خاضعة للاتحاد السوفيتي والأحزاب الشيوعية المنثورة فيه وفي
أوروبا الشرقية فكان الصهاينة يتخوفون من علاقات دافئة مع الأمريكان ربما
تستفز السوفيات فتوقف شريان المهاجرين اليهود إلى فلسطين المحتلة علما بأن
المسألة السكانية (الديمغرافية) لها أهمية أمنية في إسرائيل لذلك سنلاحظ أن
الصهاينة- في تلك الفترة- حافظوا على علاقاتهم الحميمة بالسوفيات وفي نفس
الوقت حرصوا على ان يرسلوا قرون استشعارهم إلى واشنطن ويفتحوا حوارا هامسا
مع الأمريكان المتلهفين على توظيف الصهاينة لحماية المصالح الأمريكية الضخمة
في نفط العرب من تخطيطات السوفيات المدروسة. هكذا كانت تلك الفترة
(1948-1955) فترة قلقة بالنسبة للأمريكان فيما يتعلق بموقع الصهاينة في الاستراتيجية
الأمريكية العليا في المنطقة العربية.
*-
يهود أمريكا وأوروبا الغربية على استعداد للتبرع بالمال للكيان الصهيوني،
لكن قلة قليلة منهم على استعداد للهجرة إلى فلسطين المحتلة ودعم الكيان
سكانيا والتعرض لكل الاحتمالات المستقبلية وهي احتمالات غير مشجعة بينما
يهود روسيا وبولندا وبلغاريا والمجر والتشيك وغيرها من بلدان أوروبا الشرقية
وكذلك يهود العراق والمغرب، واليمن ومصر، والشام