الكرخ فريق العمـــــل *****
عدد الرسائل : 964
الموقع : الكرخ تاريخ التسجيل : 16/06/2009 وســــــــــام النشــــــــــــــاط : 4
| | مشروعية تدريس الثقافة الجمالية والفنية | |
مشروعية تدريس الثقافة الجمالية والفنية محمد عزيز البازي I -إن إلقاء نظرة على وضعية التعليم بصفة عامة، والتخصصات والمواد التي تنضوي تحت برامجه التربوية والتعليمية خاصة، ليفضي بنا إلى القلق والحيرة والاشمئزاز من مسار هذه الوضعية التي ولجت الألفية الثالثة بفائق الشروخ والسكون والتحلزن، فمن أبرز السمات التي تميزها: القطائع التي تفصل بين شعب الدراسة حيث كل شعبة تسبح في فلكها، وغياب التنسيق المطرد بنظام التعليم بين جميع أسلاكه ومراحله، وانعدام العديد من التخصصات الهامة في الفنون والآداب والعلوم الإنسانية والحقة، بل إن هذه القطائه تصل ذروتها إلى الفصل بين القطاع التعليمي الذي تتقاسمه وزارتان: وزارة الثقافة والاتصال، علما أن هذين القطاعين هما وجهان لوزارة واحدة عند الأمم الراقية، الأمر الذي يقودنا باستغراب وأسى وسخرية إلى التساؤل عن أي مسوغ منطقي يبرر وجود هذا الشرخ الكبير بينهما؟!! ون أي مفهوم يغدو للثقافة والتعليم في ضوئه؟!إن إقدام التعليم على إدراج بعض مواد نظيره الثقافي كالرسم والموسيقى في برامجه التربوية، محاولة لا تشفي الغليل، إن لم نقل تزيد الطينة بلة في التبخيس من أهمية الثقافة الفنية والجمالية للأسباب التالية:ـ إن هذه المحاولة تفتقر إلى التعميم باقتصارها على بعض المستويات والمؤسسات دون غيرها، كما تعوزها الوسائل والمناهج، والزمن الكافي، والتكوين المؤهل لتعليمها.ـ إن تدريس الشق النظري لتلكم الثقافة يكاد يكون منعدما.ـ إن تلقينها يقتفي طرقا تقليدية، الشيء الذي يجعلها حرفا يعلمها الصانعون لصوينعيهم.ـ إنها لا تتواشج مع مجالات معرفية مختلفة.وهكذا نستشف أن هناك تصورا جماليا لمفهوم الثقافة، تغذى من آفة الجهل والتحريم المزمنة التي لا زالت طفيلياتها تنخر كياننا لتسود في صمت رهيب، وما الميزانية المالية الدنيا التي تكون من نصيب وزارة الثقافة والاتصال، و"الإصلاح" الذي خصته الحكومة لقطاع التعليم دون سواه، إلا من قبيل تحصيل الحاصل لذلكم التصور الوخيم، فكيف يفسح لقطاع الثقافة مجال الاندماج والانفتاح والابتكار والكثير من أساتذته في فقر مقنع، لم يصدر في حقهم المهضوم مرسوم الإدماج والترسيم، منذ ما يربو على عشر سنوات من مزاولتهم التدريس!!! ناهيك أن بعض الحرف والصنائع مآلها الحيف والتلاشي بوفاة ثلة من الساهرات والساهرين على تلقينها في مؤسسات عمومية هامة، كمدرسة الصنائع والحرف بتطوان التي بناها الفنان الإسباني ماريانو بيرتوتشي (1884-1955) على الطراز المعماري الأندلسي المغربي، صونا لموروثنا الفني من عمليات المسخ والسلخ والاندثار. بل ورغم انفتاح التعليم على بعض النظم التعليمية الغربية باحتذائه نظام الوحدات مثلا، فإنه يحمل في ثناياه انغلاقا فضيعا، وتلفيقا صارخا، وحدودا وهمية، ورتابة مقيئة، عندما لا يسعف الطالب على انتقاء مواد من بعض الشعب تفيده في سد بعض ثغراته المعرفية ومعوزاته التكوينية إبان تهييئه لبحوث وحدة التكوين المنتمي إليها، بسبب انعدام الكثير من التخصصات في الجامعات بأسلاكها الثلاثة، الشيء الذي لا يؤذن بظهور وحدات تكوينية متنوعة ومتجددة، منفتحة ومتكاملة ومطردة، مما ينعكس سلبا على مسار البحث العلمي، وهراء على محيطه الاجتماعي والاقتصادي الموبوء. كل هذا يكون وراء تعميق ضآلة ومحدودية التكوين التربوي والتعليمي والثقافي، لدى الطالب والمطلوب، كما وكيفا وسيلة وغاية، وتجذير الشروخ بين المعارف والعلوم والآداب والفنون من جهة، وبين دارسيها ومدرسيها من جهة أخرى.لقد كان نبوغ القدامى في ماضينا الحضاري مدينا بالشيء الكثير لمدى موسوعيتهم الثقافية التي تنصهر فيها الجوانب الأدبية والعلمية والدينية والفنية وغيرها، وكم كانت تروي، وتثري بعض الميادين المعرفية نظائرها الأخرى إلى حد تجديد أو تأسيس علوم مختلفة كعلم العروض لواضعه الخليل بن أحمد الفراهيدي، وعلم الاجتماع لصاحبه عبد الرحمان بن خلدون، وعلم الجبر لمؤسسه محمد بن موسى الخوارزمي، وهكذا كان تألق حضارتنا الغابرة رهينا بنسف الحواجز بين مختلف مناحي المعرفة، مدينا لأعلامها الموسوعيين كالفارابي وابن سينا وابن رشد والشاطبي وغيرهم، وكم نكون بعيدين عن النظرة الشمولية إلى تراثنا الثقافي، وعن مغزى إحيائه وتحيينه خدمة لحاضرنا ومستقبلنا، حينما لا نعبأ إلا ببعض جوانبه المحدودة كالأدب والتاريخ والفقه والنحو والبلاغة والنقد الأدبي، مارسين في حقه سلخا وبترا وتلفيقا، نتيجة لتلكم الحدود الوهمية المفتعلة التي غدا من محاصيلها الخطيرة أن مني علم الاجتهاد بنوبات حادة أحالته على المعاش ورزء واقع التراث الموسيقي المحقق والمخطوط بالتهميش الذريع في مجال التعليم والتأليف الموسيقي كتابة وعزفا وتلحينا، إلى درجة يصعب، إن لم نقل يستحيل، أن نصادف في عصرينا الحديث والمعاصر، مفكرا ذا إسهام في ميدان الموسيقى، كما هو الشأن لدى أسلافنا من علماء وفلاسفة كالكندي وابن سينا والفارابي وابن باجة وابن رشج
[1]. مقابل هذا نجد الغربيين لا يعترفون بمثل هذه الحدود المزعومة التي تعوق وحدة وتكامل العلوم والآداب والفنون، وتناضحها وتلاقحها، بقدرما تعرقل مسار تطورها ونضجها وازدهارها، لذا سعوا إلى دمج قطاعي التعليم والثقافة في وزارة واحدة، مسخرين تكنولوجيا المعلومات خدمة لهذا الغرض، داعين إلى تكتل جهود المختصين في مختلف الحقول المعرفية لدراسة قضايا وظواهر وإشكاليات ومشاريع معينة، كدراسة الحالة الفيزيائية للنحو التي أهاب شومسكي بثلة من العلماء والباحثين لتدارسها وتحليلها[2].كان من نتائج هذا السعي أن تطرقت أعمال المستشرقين إلى شتى الميادين المعرفية لتراثنا الثقافي –رغم ما يشوب بعضها من هنات- مالئة فجوات عميقة تخص مجموعة هامة من هذه الميادين التي ظلت في عمومها مهمشة من خريطة اهتماماتنا بالتراث كالعلوم الطبيعية والفيزيائية والرياضيات والطب والموسيقى والحرف والصناعات.II –إن نقد المفاهيم الطفيلية والتصورات المشروخة والمقمشة، وجبر الكسور المعرفية، وتفكيك الحصار بين القطاعين المذكورين، وإحداث تخصصات جديدة وهادفة، لمن شأنه أن يساهم بجذرية في إصلاح وتحديث مسار التعليم والثقافة، وتعبيده نحو الاتجاه الأقوم والأخصب والأنجع، من بين هذه التخصصات نذكر على سبيل المثال: علم الآثار كان له ولا زال تأثير بالغ في تغيير واستكشاف الكثير من الحقائق التاريخية، وفضل كبير في صيانة المآثر القديمة من الانهيار والتلاشي، وترويج قطاع السياحة وغير ذلك، وأخص بالذكر هنا علم الجمال الذي يتقاطع مع مجالات معرفية متنوعة لعدة اعتبارات، نسرد منها:إن الجمال شيء ملازم للشعور الإنساني إلى درجة أنه غدا علما يراد به الإدراك الحسي للأشياء أو علم المعرفة الحسية أو علم الحساسية، وغير ذلك.إن الذوق الملكة أو الحاسة المركزية لتذوق الجمال وإنتاجه، تتفاعل في تكوينه عوامل متعددة: لغوية واجتماعية وفكرية ونفسية وتربوية وغيرها.وعليه، لم يكن غريبا أن ألفينا المساهمات الجمالية لأسلافنا تتوزع الكثير من المجالات المعرفية لتراثنا الثقافي كالفلسفة والبلاغة وعلم الكلام والطب والموسيقى[3].إن الإقبال على توظيف بعض النظريات الجمالية في دراسة نتاجنا الأدبي خاصة كجمالية التلقي، له أهمية كبرى ومردودية مثمرة بإسعافنا على فهم ومعرفة وإدراك وتذوق القدماء والمحدثين، مؤلفين كانوا أو متلقين، سواء في تلقيهم لهذا النتاج أو إنتاجهم له. إنها نظرية مفعمة بالحيوية والدينامية، من شأنها إحداث ثورة كوبيرنيكية في كتابة تاريخ أدبنا العربي والإسلامي، خاصة وأن الذين ألفوا في هذا الموضوع، تعاملوا مع النتاج الأدبي باعتباره وثيقة وشهادة تاريخية وإخبارية بالدرجة الأولى، وائدين حيوية وخصوبته وزمنيته المتناسلة بين عناصره الثالث: المؤلف والعمل والمتلقي[4].فكم من مؤرخ للآداب لازال يورخ للعمل الأدبي والفني كمن يؤرخ للعصور والدول والأحداث والوقائع التاريخية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية، ويشخص المشاكل والأزمات النفسية وغيرها. وكم من ناقد للأعمال الأدبية والفنية لا يندمج فيها بتذوق وانفعال، والجا عملية تحليلها ونقدها وتقويمها وكأنه أمام ظاهرة علمية وجب رصدها ووصفها وتحليل مكوناتها، خالطا بين الجانبين النقدي والجمالي في تعامله مع هذه الأعمال. وكم متذوق متلق، قارئ أو مستمع أو منتج أو ناقد لها، يحتكم إلى معايير هشة عتيقة، واعتقادات لا تمت بصلة إلى قيمتها، ناسخا الحساسيات المصحرة التليدة كانتشائه بالمقدمات الطللية والحماسية القبلية حد الهذيان، واستحسانه اللوحة الفنية أو القصيدة من وجهة نفعية برغماتية. بل كم من طريق موغل في الوحل، وأرواث ونفايات متعددة الألوان والروائح والأشكال، متناثرة هنا وهناك، لا تستثير عزما على التشذيب والإصلاح. وكم من اعوجاج لا يلاحظ إلا مستويا مستقيما ماديا أو فكريا على السواء، الأمر الذي يؤول إلى حالة الذوق الذي يستمد ماهيته من جميع الملكات والحواس كالبصر والسمع واللمس والخيال، فبقدر ما يكون مستوى خبرتها الجمالية والفنية، يكون الذوق من تحصيل حاصلها.إن علاقة الذوق بما هو جمالي وفني علاقة جدلية متداخلة، تؤتي أكلها عندما تكون مقاييس الطرفين في مستوى من النضج، فينعكس ذلك عليها إيجابا تأثرا أو تأثيرا، غير أن ما لا يحمد عقباه هو أن تكون معايير كلا الطرفيين في درجة من الفتور والذبول، حيث تغدو علاقتهما وخيمة حالما تصبح هذه المعايير ثوابتا ومثلا عليا ونماذج مثلى تحتذى وتتناسل من فرد إلى آخر، ومن عمل إلى غيره، حسب ما نراه بجلاء في واقعنا بشتى ميادينه، مما يحظر على الأذواق نموها وتطورها ونضجها.والجدير بالذكر، أن ترسيخ الثقافة الجمالية والفنية لا تكمن أهميته فقط في تثقيف الذوق وترقيته، وترهيف الإدراك وتقويته، وإخصاب الخيال وإثرائه، وتنمية ذكاء وقدرات الإنسان على الخلق والابتكار، والملاحظة والاستيعاب والتفكير، بل كذلك في تجذير بعض القيم معاييرا جمالية من تنظيم وانسجام ووضوح واتزان، وتناغم واعتدال في وجودنا إحساسا وحدسا وتفكيرا، وهي معايير نحن في أمس الحاجة إليها في هذا الكيان حيث التلفيق والتقميش والتنافر والتطرف والتناقض والعشوائية من سماته وخصائصه، سواء في شقه الملموس أو المجرد.إن علاقة الفكر النير بالجمال علاقة متلازمة وطيدة، إذ من سمات الفكر السليم الراقي أن يكون منتظما في بنيته، معتدلا، متزنا واضحا، مؤثرا، منسجم المقدمات والنتائج، ولعل هذا الترابط هو ما دعا العالم الكبير إينشتاين إلى القول: "إن التفكير العلمي ينطوي دائما على عنصر شعري"[5].إن إثراء تلكم الثقافة للخيال وإخصابه مساهمة جلى في إغناء وتقوية الملكات الإنسانية، فكرية كانت أو حسية أو حدسية، والارتقاء بها إلى عالم الإبداع والتجديد والإنتاج في مختلف ميادين أنشطتها، وأخص بالذكر العلوم والآداب والفنون، ذلك أن الخيال المنتج كما يقول إيمانويل كانت ملكة التركيب الضروري في اكتساب المعرفة، ولازم في حصول الفهم، ووسيط بين الحس والعقل والحساسية والفهم، وطاقة دينامية مفطورة على الخلق والإبداع، تشيد الإسكيمات الذهنية التي تقدمها للفكر، واهبة للمفاهيم صورا تعينه على التجريد[6].وعليه، أبانت المدنية الغربية عن تقديرها وتمجيدها لفعل التخيل الذي اعتبره إينشتاين "أهم من المعرفة"، معللا ذلك بقوله: "لأن المعرفة محدودة بينما التخيل يشتمل على كل شيء في الدنيا، ويحفز التقدم، ويشكل مصدر تطوره"[7].كما حظي الجمال باهتمام بالغ في عصر التنوير، حتى غدا علما وفرعا من فروع المعرفة، في بداية النصف الثاني من القرن الثامن عشر، على يد مؤسسه الفعلي بومجارتن[8] (1714-1762)، تكلل بأعمال هامة لثلة من رواد وأعلام المدنية الغربية، ملتحمة أشد الالتحام بمشاريعهم الهادفة إلى تنوير وتحديث مجتمعاتهم، نذكر منهم على سبيل المثال هيغل (1770-1831)، وشيلر (1759-1805) الذي قال قولته البليغة: "إنه لمن خلال الجمال وبواسطته يستعاد إنسان الحس والمادة إلى الصورة والفكر، ومن خلال الجمال وبواسطته يرجع بالإنسان الروحاني إلى عالم المادة، ويستعاد إلى دنيا الحس"[9]. وقد أدى اتساع مباحث علم الجمال وتطورها إلى نشأة علوم جمالية مخصوصة بمجالات مختلفة، كعلم الجمال الموسيقى، وعلم الجمال النفسي والاجتماعي، كما ظهرت فروع جديدة من علوم الجمال خاصة في متم القرن الماضي، نذكر منها:ـ الجماليات البيئية: Environnement Aestheticsـ جماليات التلفزيون: Télévision Aestheticsـ جماليات التسويق: Marketing Aestheticsـ جماليات العوام: Trash Aestheticsـ جماليات المظهر الخارجي[10].فضلا عن هذا، حظي الفن بشغف كبير من لدن تلكم المدنية التي خصته بوفرة مطردة من الدراسات والملتقيات والندوات والمهرجانات والمؤتمرات والمعارض والمتاحف والمعاهد والكليات، حتى أصبح الفن مندغما في عالمي أهلها المادي والمجرد، نظرا لأهميته الكبرى في مختلف أبعاد الحياة النفسية والروحية والذوقية والشعورية والفكرية وغيرها، وقد تتوج هذا الشغف بتوخي تربية النشء من خلال الفن، فتم سنة 1951 تأسيس "الجمعية الدولية للتربية عن طريق الفن": International Society Art Education throught at (INSREA) إن الواجب الأساس المتوخى من التربية والتعليم والتثقيف، يكمن في تنمية وترقية القدرات والمدارك الكلية للإنسان، بحيث لا يكون دورها قاصرا على كيانه العقلي والذهني دون نظيره الحسي الانفعالي والوجداني، حتى لا نجني على طبيعته المزدوجة الذاتية والموضوعية، باعتبار أن الإنسان يعيش بجوارحه وحدسه وحسه وقلبه وخياله وعقله، غير أننا إذا ما اختبرنا هذا الواجي في واقعنا ندرك أنه يكاد يكون مفرغا من محتواه ومرماه، حينما يصبح عقل التلميذ والطالب، والدارس والمدرس خزانا لشحن المعلومات والآراء والنظريات على حساب إدراكهم الحسي، بل يزداد هذا الشحن تفاقما وضراوة بتنامي غزو المعلومات الإلكترونية لحياتنا في غياب وعينا بهذا اللاتوازن الخطير الذي يذهب ضحيته حسنا المفتقر إلى حصة عادلة من التثقيف والتعليم والتربية، حيث شحن الذهن يظفر بحصة الأسد، الشيء الذي يحدث نشازا وبيئا في كياننا الذاتي والموضوعي على حد سواء، وشروخا تتناسل من شروخ تزيد واقعنا ونظرتنا إلى الكون اضطرابا وتناقضا واختلالا وتلفيقا وتفاوتا وتقزما وتشردما.دشنت الثورة التكنولوجيا الغربية منعطفا جديدا أبان عن تحول جذري عام مس مختلف الأنشطة الإنسانية، وأخص بالذكر ما يناط بالفنون التي تميزت بطابع الذهنية في حظيرة تكنولوجيا المعلومات، مفارقة بذلك سمتها الحسية. إنها نقلة أعتبرها بديهية في مسار الفنون الغربية التي عرفت انغراسا عميقا في حس ووجدان وفكر ملتها، فضلا عما واكبته من تحولات متواترة سريعة، وتطورات جمة. لقد جانب بعض الصواب صاحب كتاب "الثقافة العربية وعصر المعلومات" في دعوته فنوننا إلى اللحاق بهذه النقلة[11] دون مراعاة أرضية هذه الفنون التي لازالت تعاني من اختلالات كثيرة تحول دون تجذرها في التربية والتعليم والتثقيف، وبالتالي في حس وتذوق وتفكير شعوبنا، الأمر الذي يجعل المقاس والمقيس في مفارقة صارخة.III –إن ضعف الثقافة الذوقية الفنية والجمالية من أهم العوامل التي تفسر العديد من أزماتنا، وأخص بالذكر أزمة النقد العربي الأدبي والفني والجمالي، التي من تجلياتها البارزة:1 – احتكام أصناف كثيرة من النقاد والدارسين في نقدهم وتحليلهم للأعمال الأدبية والفنية إلى نظريات متنوعة، ومقولات مختلفة، ومقاييس جاهزة، تهيمن على الذوق وتوهن قدرته على إدراك جماليتها وفنيتها، وكذا معايشتها المسعفة على مقاربتها من عدة جوانب، مما يخسف فاعلية الاستجابة الجمالية بين هذه الأعمال ومتلقيها، في غياب الاندماج الذاتي فيها عن طريق التذوق والانفعال.وهكذا، عوض أن يثري ويزكي النقد تجربتنا واستجابتنا الجمالية وقدرتنا التذوقية، يساهم بقسط وافر في عملية تحجرها وفتورها وودها، بما يرسمه لنفسه من نظريات ومناهج غير مرنة ولا مطواعة في تفسير الأعمال وتقييمها، بشكل يجور على ما تحتويه من قيمة استطيقية، وبالتالي يضلل ويفتر ويلوث الإدراك الجمالي الحر لدى متلقيها، ويجعله رازحا تحت نير المنظور النقدي أو مشوبا به.2 – الخلط بين المنظور النقدي والمنظور الجمالي، حيث غالبا ما يتم المزج بصورة لا شعورية بين حالة تذوق الأعمال واستجابتها الجمالية التلقائية، وبين المسلمات والمستندات المنهجية والنظرية المسبقة في دراسة ونقد الأعمال نفسها. وعليه، تصدر أحكام جمالية هي ليست جمالية في شيء، لكونها خلطت بين قيمة الموضوع المتلقى أي قيمته الاستيطيقية الذاتية الإمتاعية، وبين القيمة التي تخلع عليه من منطلق منهجي أو نظري أو برغماتي، فتنعدم بذلك الاستجابة الجمالية الحرة، ويتلاشى الإدراك الاستيطقي المنزه عن الخلفيات المعرفية والأحكام المسبقة في شتى مراميها، مما يترتب عنه عدم التمييز بين الاستلذاذ الجمالي الصرف بالعمل الفني، وبين الحديث عنه. وقد اعتبر الناقد جيروم ستولنيتز هذا من أكبر الخلط الذي ينبغي تفاديه قائلا: "والخطر الأكبر الذي ينبغي تجنبه هو خطر الخلط بين تجربة التذوق المباشر وبين المعرفة الانعكاسية المتعلقة بالفن"[12].3 – عدم فحص آليات ومضامين تلكم المستندات والمسلمات ونقدها قبل مباشرة الأعمال، ما يفضي إلى ولوج عالم الإسقاط الذهني والضمني لتلقي هذه الأعمال.4 – الخلط بين المصطلحات التالية "الاستطيقي" و"الفني" و"الجمالي" الذي أضحى إطلاقه في أغلب الأحوال موضة الاستعمال بالكثير من الحقول المعرفية، حتى أمسى يعاني من تخم الاستعمالات الدلالية السديمية المائعة، لاعتبارات وتقديرات مسبقة لا تراعي حمولة هذه الألفاظ الفلسفية والنظرية والتاريخية، ناهيك عن الخلط بين المعاني الجمالية والمعاني اللاجمالية، أو القيم الجمالية والقيم اللاجمالية، مما يسبب في اندلاع فوضى في المفاهيم والرؤى والإدراكات المختلفة، لا يجني منها المشهد التربوي والتعليمي والثقافي ببلادنا إلا ضحالة وشروخا.5 – عدم استثمار نظرية جمالية التلقي في كتابة تاريخ أدبنا العربي والإسلامي، إذ ظلت هذه النظرية حبرا على ورق فيما كتبه عنها دارسونا من بحوث لا تتجاوز في عمومها الترجمة والتذكير والإخبار، علما أن جمالية التلقي قامت على أساس إعادة كتابة تاريخ الأدب بطريقة دينامية وحيوية، انطلاقا من زاوية المتلقي الذي أصابه الإجحاف فيما ألف من كتب التواريخ الأدبية.6 – افتقار المكتبة العربية إلى كتابة جديرة بالاعتبار تؤرخ لتراثنا الجمالي أو الفني سواء في صيغته التعبيرية أو التشكيلية، إذ ما يوجد بها من كتب منوطة بهذا المضمار، بصرف النظر عن شآلتها، ككتاب "تاريخ الفن عند العرب والمسلمين" لأنور الرفاعي[13]، وكتاب "علم الجمال والنقد: فلسفة الجمال" لبشير زهدي[14]، يعد دليلا دامغا على مدى ضحالة الثقافة الفنية والجمالية في راهننا الثقافي.7 – عدم تعريب كتب تاريخ علم الجمال التي ألفها الغربيون، باستثناء "موجز تاريخ النظريات الجمالية" لأربعة كتاب سوفيتيين[15].8 – تهميش المساهمات الجمالية لموروثنا الثقافي المكتوب من أغلب كتب تواريخ علم الجمال[16]، بل حتى التي ذكرت شيئا يسيرا من هذه المساهمات، لم يكن الدافع الرئيس لذكرها شأوها المتوخى، وإنما لما خلفته من أثر وصدى في تراث من أرخوا لعلم الجمال[17]. عموما يمكن حصر هفواتها في أربعة جوانب:1)الجانب الإيديولوجي، 2) الجانب البيبليوغرافي، 3) الجانب المنهجي، 4) الجانب الإبستمولوجي[18]. أما عن كتب تاريخ الفن، فهي وإن كان جلها اهتم بذكر بعض من المساهمات الفنية التراثية، إلا أنها لم تسلم في مجملها من الهفوات التي حصرنا طبيعتها في الجوانب المذكورة[19].كل هذا يدعونا إلى دراسة جديدة لتراثنا الفني والجمالي والأدبي، وفحص كل تلكم التواريخ وغيرها من الدراسات التي اقتحمت هذا التراث، فضلا عن نقدها وتقويمها، قصد كتابة بحوث ودراسات سليمة، وتواريخ منصفة لنتاجنا الأدبي والفني والجمالي.IV –إن الاهتمام الذي أولي الثقافة اللغة والفقه والبلاغة وغيرها، على حساب نظيرتها الذوقية، أعتبره من أبرز العوائق وأكبر النواقص للنهضة العربية أو الصحوة الإسلامية أو العقلانية الخالصة، التي لازلنا نجني عواقبها في ذواتنا ومختلف مرافق واقعنا الخارجي، نتيجة لتلكم المفارقة الخطيرة بين التثقيف الذوقي الذي يخاطب الحس والوجدان، ونظيره المنطقي الذي يخاطب الذهن والعقل.كان ينبغي منذ أمد بعيد أن يهتم أعلام النهضة العربية والإسلامية بالثقافة الذوقية الفنية والجمالية بصفة عامة، وعلم الجمال على وجه التخصيص، إذ ما لديهم من غنى وتنوع وخصوبة في تراثهم الجمالي والفني بشقيه التشكيلية والتعبيري، ليؤذن بتدشين وتأصيل هذا العلم في ثقافتنا، غير أن عدم الاكتراث بهذا التراث، وإساءة فهم هذا العلم في كنه ومراميه، والاضطلاع الجزئي الزهيد على آثار بعض أعلامه، والتعامل مع الوافد الحضاري الغربي بأفكار مسبقة وبصورة انتقائية برغماتية ودغمائية، كان وراء تعميق فتور هذه الثقافة في عالمنا العربي والإسلامي.رغم وقوفنا على ومضات من الأفكار والآراء والانطباعات الفنية والجمالية تترجم بعض الاهتمام بفلسفة الفن والجمال وثقافتهما لدى ثلة من دعاة النهضة والتحديث كعباس محمود العقاد وأحمد حسن الزيات[20]، إلا أنها تبدو مفتقرة إلى الأصالة والتأصيل دون أن ترقى لترسم لنفسها مشروعا تحديثيا يذود عن أهمية الثقافة الذوقية، وتكريسها في مجال التربية والتعليم والتكوين والتثقيف.لقد كانت ولا زالت دعوة رواد النهضة العربية والإسلامية ومريديهم إلى العقلانية يشوبها الجفاف، مفتقرة إلى رواء ماهية الذات الجمالية الإنسانية، وغذاءها الثقافي الذوقي، أي إلى عقلانية متزنة مع الكيان الذاتي والموضوعي للإنسان روحا وحسا وعقلا. نتيجة لهذا العوز حسب هؤلاء التمدن الغربي قائما على عقلانية صرفة، فمارسوا بنظرتهم هذه شرخا كبيرا عليها، أبان لهم عن نصف حقيقتها، أي عن عقلانية مبتورة من ذلكم الرواء والغذاء الذين يكملان نواقصها في الانسجام والانتظام والاتزان والالتحام بالذات الكلية للإنسان، من هنا يمكن تلمس دواعي شغف كثير من رواد التحديث الغربي وأعلامه بعلم الحساسية أو علم الجمال وفلسفة الجمال وغير ذلك من مشارب الثقافة الذوقية، وتأليفهم في ذلك كتبا قيمة، نذكر مهم: دافيد هيوم (1711-1776)، وسامويل طايلوكوليريدج (1772-1834)، وأرتورشوبنهاور (1788-1860)، وجوهان فريدريك هربرت (1776-1841) وفريدريك نيتشه (1844-1900)، وإيمانويل كانت (1724-1804)[21] الذي ألف إلى جانب كتابه "نقد العقل الخالص"، مؤلفا في علم الجمال، أسماه: "نقد ملكة الحكم"[22].بناء على ما سبق ذكره، لم يتم الالتفات المنشود إلى غنى وتنوع المساهمات الجمالية في تراثنا المكتوب، كما لم يحصل الانفتاح المتوخى على ما أنتجه الغرب في ميدان تلكم الثقافة بصورة جادة وهادفة. وهكذا، ظل علم الجمال مغتربا في تعليمنا وثقافتنا على السواء إلى درجة أننا لا نجده ضمن برامجنا التعليمية الأدبية منها والفلسفية مادة رسمية، رغم أنه نشأ وترعرع في حضن الفلسفة والأدب، والأدهى من ذلك، افتقار معهد وطني للفنون الجميلة ببلادنا إلى أستاذ مختص يدرس به المادة المذكورة، ناهيك عن مدى التهميش والإهمال والحيف المزمن الذي طال ذلكم التراث الحري بالبحث والتدريس في جامعاتنا وغيرها من المؤسسات التعليمية، الجدير بشعبة تعنى بالدراسات الجمالية والفنية.لقد حان الأوان لاستئصال الشروخ التي أضرت بكياننا الكلي، وتخطي العوائق التي نخرت تعليمنا وثقافتنا، وتعبيد سبيلهما نحو الاتجاه الأثمر والأقوم، خاصة وأن حكومتنا شارعة في إصلاح التعليم بشتى مستوياته, وأملنا كبير في أن تؤخذ طروحاتنا السابقة الذكر بعين الشغف والاعتبار، لما لها من آفاق تروم الإسهام في التحديث المرن والمتزن لمجتمعنا في شتى أبعاده الروحية والحسية والعقلية وغيرها. | |
|