يقول فرنسيس بيكون :" إذا كان المرء لا يدري إلى أي ميناء يريد الذهاب، فكل
ريح ستهب عليه لا تناسبه"، وهو المعنى الفلسفي الذي يختزل جهد الباحث حامد
عبد الصمد في كتابه الصادر في أكتوبر الماضي عن دار ميريت للنشر بعنوان:
"سقوط العالم الإسلامي .. نظرة في مستقبل أمة تحتضر".
والكتاب في مجمله يشكل محاولة نقدية تستهدف واقع الأمة الإسلامية الثقافي
والعلمي والحضاري، والتحليل السياسي لتاريخ السقوط الإسلامي؛ وتداعيات سقوط
جسد ثقيل مثل العالم الإسلامي في قلب العالم ومخاطره.
ويرى الكاتب أن السفينة الإسلامية تقف وحيدة ومكسورة؛ وسط محيط بارد ولا
تدري كيف النجاة، فالفقراء – مسافرو الدرجة الثالثة – ينامون في جحورهم ولا
يعلمون شيئا عن المصيبة القادمة، والأغنياء يحاولون الفرار في قوارب
النجاة القليلة، ويريدون في الوقت ذاته أن يربحوا من الكارثة.
رجال الدين – يتابع الكاتب – يكررون نفس الطلاسم والشعارات، ويطالبون الناس
بالصبر، والمصلحون مثل عازفي الموسيقا في السفينة "تايتانيك" الذين واصلوا
العزف – رغم إدراكهم أن أحدا لا ينصت إليهم على الإطلاق – حتى غاصت
السفينة في البحر !!
ويشدد الكاتب على أن ما يحتاجه العالم الإسلامي اليوم ليس المكابرة
والعنجهية بل عملية إشهار إفلاس مقننة، وعملية جرد؛ يتخلصون بها من حقائب
السفر التي تعرقل رحلتهم نحو النهضة، يحتاجون إلى التخلص من نظرتهم
التمجيدية لذواتهم وحضارتهم وإلى إعادة النظر إلى المرأة ودورها، وإلى
التاريخ وفخاخه، وإلى المثل الأعلى ومفهوم العدو.
معنى الحضارة
وحول مفهوم الحضارة يحاول الكاتب أن يتجاوز التعريفات التقليدية مثل تعريف
ول ديورانت الذي يربط الحضارة بالمدنية، وبالتالي بالتقدم التقني والعلمي،
وهو تعريف أقرب إلى الكلمة العربية التي تعني "الإقامة في الحضر" أو
التمدن، أو تعريف أرسطو الذي يرى أن الحضارة هي أي شيء لم تخلقه الطبيعة !!
ويقترب الكاتب في سبيل اقتناص معنى مغاير من تجربة مدينة ميونيخ الألمانية -
التي درس الكاتب فيها العلوم السياسية - ويروي لنا كيف استطاع سكان ميونيخ
أن يشيدوا تلاً صناعياً من حطام منازل المدينة المدمرة في الحرب العالمية
الثانية، وهو التل الذي يتسلقه زوار المدينة لإلقاء نظرة بانورامية على
المدينة كلها، والذي يرى الكاتب فيه تجسيدا حقيقيا لمعنى الحضارة التي تظهر
في هذا السياق بوصفها " قدرة الشعوب على خلق شيء جميل من أنقاض شيء قبيح".
فالألمان – وفق الكاتب – لم يتباكوا على أطلال ميونيخ ودريسدن وهامبورج
وبرلين التي دمرتها الحرب، ولم يصبوا لعناتهم على الحلفاء، ولكنهم أدركوا
سريعا أن البكاء لا يفيد، وفتشوا عن أسباب مأساتهم الحقيقية؛ ثم شمروا عن
سواعدهم وأعادوا بناء دولتهم في غضون سنوات قليلة، حتى صار اقتصادهم أقوى
من اقتصاد فرنسا وانجلترا اللتين انتصرتا على ألمانيا في الحرب !!
وينتقل المؤلف إلى التجربة التايوانية الأكثر تعبيرا عن هذا المفهوم
المغاير للحضارة، وبالتحديد "الجامعة التايوانية" التي بناها اليابانيون في
العام 1928، وكانت الحسنة الوحيدة للاحتلال الياباني في تايوان، حيث قام
اليابانيون بعد ذلك بأفظع المجازر والجرائم، وتركوا تايوان خربة خاوية على
عروشها.
ويلفت الكاتب هنا أنه على عكس ألمانيا واليابان، فإن تايوان لم تتلق أي دعم
مادي من الغرب لإعادة بناء بلدها بعد انتهاء الحرب، بل دخلت في صراع جديد
مع قوة عظمى جديدة هي الصين حول استقلالها، ومع ذلك تمكن التايوانيون من
خلق مجتمع مدني ديمقراطي له اليوم مكانته الاقتصادية البارزة .
عقلنة التاريخ
كان التعليم هو العمود الفقري لإعادة بناء هذا البلد فلم يدمر التايوانيون
الجامعة انتقاما من وحشية اليابانيين بل طوروها حتى صارت اليوم على قائمة
أفضل جامعات العالم، بل وفاقت في مستواها العلمي كل جامعات اليابان.
وهنا تكمن مشكلة العالم الإسلامي في التعامل مع التاريخ – كما يراها المؤلف
– فليست لدى المسلمين نظرة براغماتية عملية في التعامل مع جروح الماضي،
وإنما تغلب عليهم النظرة العاطفية التي تميل إلى المغالاة والتهويل.
ويستعرض البحث منهج مادة التاريخ المقررة على سنوات الدراسة المختلفة في
مصر والتي تكرس - عبر استراتيجيات إقصائية - تمجيد الذات في مواجهة تقبيح
الآخر وإظهاره دائما بمظهر الوحش الذي يكرهنا ولا يريد لنا الخير، ولا يدخر
جهدا لتدميرنا وافتراسنا.
وهي النظرة التي تتوقف عندها فكرة المقاومة عن الفاعلية التي تظهر في
تجربتي الألمان والتايوانيين - سالفتي الذكر - مع مخلفات التاريخ الأسود .
وهنا يحذرنا الكاتب من فكرة المقاومة المجانية "فالقضية ليست دوافع
المقاومة ولكن جدواها وإستراتيجيتها، فإذا كانت المقاومة تجلب الحقوق
المسلوبة وتطور المجتمعات فلا بأس بها، ولكن أن تصير المقاومة هدفا في حد
ذاتها، فهذا هو المرفوض.
الآخرون
في كتابه " الوجود والعدم" يحكي جان بول سارتر قصة رجل يراقب مجموعة من
الناس من خلال ثقب مفتاح أحد الأبواب، وطالما كان يراقب الآخرين لم يكن
يشعر أنه يرتكب خطأ، بل إنه لم يكن حتى يشعر بذاته، ولكن حينما جاء من خلفه
شخص آخر وأمسك به متلبسا بفعلته، أحس بذاته وشعر بالخجل.
ويرى الكاتب في هذه القصة الموحية تجسيدا لحال المسلمين "فقد عاش المسلمون
لقرون طويلة في عزلة عن باقي العالم، ومع ذلك كانوا يعتقدون أنهم خير أمة
أخرجت للناس، حتى جاء الأوروبي المتفوق عليهم ماديا وعلميا فأمسك بهم
متلبسين بالتخلف عن ركب الحضارة الإنسانية، فما كان منهم إلا أن اضطربوا
ورفضوا الاعتراف بالحقيقة؛ بل سعوا إلى تكريس العزلة الحضارية وأدلجتها،
والتمترس بفهم رجعي للنصوص الشرعية تحت دعاوى الهوية ورفض الذوبان في الآخر
.
ويتابع: "بدلا من أن يرى المسلمون أن الأوروبيين بشر مثلهم لهم عيوبهم
ومميزاتهم ومخاوفهم وغباؤهم، فإنهم يريدون أن يرونهم تجسيدا للشر ذاته، لا
يأتي منه خير أبدا، فهذه النظرة توفر عليهم التفكير في أخطائهم، ومشكلاتهم
وتجعلهم يستدفئون بدور الضحية، فيجعلون الآخر هو المسؤول دائما عن كل
إخفاقاتهم وكوارثهم" .
ويشير الكاتب إلى تجربة المسلمين الأولى مع أنظمة الدواوين الفارسية وأنظمة
الروم العسكرية وغيرها من منجزات الحضارات السابقة التي استوردها المسلمون
من دون حساسية، مؤكدا أن انفتاح المسلمين الأوائل على العالم وترجمتهم
لفلسفاته المختلفة، واحتواءهم لمعتقداته وأديانه ومذاهبه المتنوعة هو سر
تفوق المسلمين وبزوغ نجمهم في فترة قصيرة؛ استطاعوا خلالها ملء الفراغ
الحضاري الذي تركته حضارات سابقة .
ويقول: " إن فهم الآخرين والتعايش معهم والأخذ عنهم والاشتباك النقدي مع
أفكارهم، ومعاملتهم كبشر لهم ما لهم وعليهم ما عليهم، هو جوهر فكرة
المقاومة بالمعنى الإيجابي للكلمة ومن دون ذلك سندور في حلقات مفرغة من
التبرير والتهويل والإدانة اللانهائية دون خطوة واحدة إلى الأمام".
عقبة العاطفية
ومن الانكفاء على الذات والنظرة السوداوية للتاريخ إلى العاطفية المفرطة في
تعاطينا مع أفكار النهوض، حيث يرصد الكاتب فشل التجارب الإصلاحية
المتوالية من الأفغاني ومحمد عبده مرورا بحلم القومية العربية عند عبد
الناصر وحتى اليوم، وكيف تزامن هذا الفشل مع نجاح الصهيونية في تأسيس
دولتها.
ويرى – وقد ينطوي ذلك على بعض المبالغة والتجني من الباحث - أنه بينما كانت
القومية العربية تبني مشروعها على أساطير وشعارات جوفاء، كانت الصهيونية
تحسب خطواتها بتأنٍ وذكاء، وفي حين التف العرب حول قائد ملهم، كانت
الصهيونية منذ بدايتها حركة جماعية وديمقراطية.
وقد نشأت أفكار الصهيونية – بحسب الكاتب – من أفكار يهود متدينين مثل
"ناتان برنباوم" وآخرين علمانيين مثل "تيودور هرتزل" لكن الجميع اتفقوا رغم
تباين فكرهم على التعاون من أجل خلق وطن قومي لهم على أرضنا المغتصبة.
ويتابع عبد الصمد: " ظلت القومية العربية محبوسة في حناجر الخطباء؛ في
الوقت التي كانت تتحرك فيه الصهيونية وفق 4 استراتيجيات متوازية للوصول إلى
أهدافها:
- الصهيونية السياسية: تلك التي ركزت على التفاوض مع زعماء العالم في
أوروبا بل وفي العالم الإسلامي ذاته؛ حيث سافر تيودور هرتزل إلى اسطنبول
وحاول إقناع السلطان عبد الحميد، آخر خلفاء المسلمين، بتخصيص قطعة أرض في
فلسطين كوطن لليهود.
- الصهيونية العملية: التي نظمت الهجرة بصفة مستمرة إلى فلسطين وبنت فيها معسكرات العمل (الكيبوتس) .
- الصهيونية الثقافية: التي كانت معنية ببناء المدارس وتعليم اللغة العبرية
وإحياء مواتها، بل والأنكى من ذلك تولت الصهيونية الثقافية تعليم الشباب
أفكار حركة التنوير الأوروبية وذلك على الرغم من الاضطهاد الأوروبي لليهود
!!
- الصهيونية العسكرية: حيث نظم المهاجرون اليهود عصابات مسلحة مثل
"الهاجانا" التي كانت تعمل بتنسيق عال على ترهيب وتهجير الفلسطينيين من
ديارهم.
وعلى الرغم من الحروب المتتالية التي خاضتها إسرائيل، فلم تخضع هذه الدولة
أبدا لحكومة عسكرية، بل صممت على تشكيل حكومات ديمقراطية، في حين كانت نفس
الحروب هي ذريعة الحكام العرب في إسكات الأصوات المعارضة، حيث "لا صوت يعلو
فوق صوت المعركة."
الخوف من الحداثة
وأشار المؤلف في معرض استعراضه لأسباب السقوط إلى تجربة العالم العربي مع
الحداثة الأوروبية، التي بدأت تسريباتها الأولى تظهر بعد رحيل الحملة
الفرنسية عن مصر؛ حيث اجتمع علماء الأزهر والتجار والأعيان وقرروا عزل
خورشيد باشا حاكم مصر وتعيين الجندي الألباني محمد علي، الذي أدرك منذ
البداية أن بناء دولة حديثة يحتاج في المقام الأول إلى جيش قوي وصناعات
ثقيلة، فأرسل البعثات إلى فرنسا، وأمر بترجمة الكتب من الفرنسية إلى
العربية، وركز في تخصصات بعثاته وفي ترجماته على الجانبين الحربي والصناعي
من دون الفكري والتعليمي.
ويرى الكاتب أن محمد علي لم يأخذ من فرنسا إلا مفهوم الحداثة المادية، وأنه
تجاهل أهم مبادئها وهي الديمقراطية والفكر الحر، وظل يحكم بلا محاسبة
ويغتال أعداءه، ويوزع الثروات والأراضي على أفراد عائلته وأزلامه، ويورث
الحكم لأبنائه.
ويحذر الكاتب من خطورة استعارة منتجات الحداثة دون الالتفات إلى روحها
ومبادئها، ويقول: "الحداثة ليست "بوفيه مفتوحاً" نأخذ منه ما نشاء، ونترك
ما نشاء، فإما أن يتوصل المشروع الحداثي إلى ديمقراطية وفكر حر أو يصبح
ركاما ينمو فوق أشلائه التطرف والركود".
وإذا كان المفهوم السياسي والاجتماعي للحداثة محل رفض – عن وعي – من ناحية
رجل السياسة فإنها كذلك عند المواطن العربي – كما يقول المؤلف – فهو ينظر
إليها في ضوء القرابة اللفظية بينها وبين "المحدَثة"، وفي الحديث: كل محدثة
بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار .
وهنا يعقد المؤلف مقارنة بين معنى الحداثة في اللغة العربية ومعناها في
نظيرتها اليابانية، حيث تعني في الأخيرة "بونمي كايكا" أي فتح أبواب
الحضارة، مشيرا إلى أن اليابانيين أطلقوا على تلك العملية في نهاية القرن
التاسع عشر "مغادرة آسيا واللحاق بأوروبا" .
في هذا السياق يلفت الكاتب إلى جهد المفكر الياباني "فوكوزاوا يوكيتشي"
صاحب كتاب: “وداعا آسيا" الصادر عام1885م، والذي شرح فيه يوكيتشي
لليابانيين مفهوم الحداثة وكيف يمكن لليابان أن تستفيد منها قائلا :" إن
رياح الغرب تهب بشدة علينا حاملة لليابان معها فرصة كبيرة لتتذوق فواكه
المدنية الحديثة، ولو فوتنا تلك الفرصة فسنظل محبوسين في قدرنا" .
ويستطرد الكاتب في هذه النقطة تحديدا لدلالتها على وضعية العالم العربي
وتجربته المماثلة مع الغرب فيقول: "كانت اليابان في فترة "الميجي" التي
بدأت في العام 1868م تمر بنفس المرحلة التي مرت بها مصر في عصر محمد علي،
حيث حاولت بجدية اللحاق بأوروبا وتأسيس جيش قوي وصناعات حديثة.
وقد نجح المشروع الياباني – يتابع – لأنه لم يبدأ بالصناعات الثقيلة
مباشرة، بل قام بتحديث المهن الحرفية التقليدية في اليابان وتنظيم نقابات
للحرفيين والفلاحين لا تزال تلعب دورا هاما في اليابان حتى اليوم، كما بنى
اليابانيون جيشهم في صمت ولم يدخلوا حروبا حتى تأكدوا من قوتهم العسكرية.
ويشير إلى أنه على الرغم من الصراع الضاري الذي نشب فيما بعد بين اليابان
والولايات المتحدة أثناء الحرب العالمية الثانية وإلقاء القنبلة الذرية على
هيروشيما ونجازاكي، وعلى الرغم من احتلال أمريكا لليابان بعد انتهاء
الحرب، فلم تنشأ في اليابان روح عدائية ضد الغرب وأفكاره بل حاول
اليابانيون التعلم من أخطائهم فتعاونوا مع المحتل وأعادوا بناء بلدهم حتى
أصبحوا ثاني أكبر قوة اقتصادية في العالم !!
ويرى عبد الصمد أن اليابانيين لم يستغنوا عن تراثهم ولم يتجاوزوا خصوصيتهم
الحضارية حين قرروا الانفتاح على الغرب، ولكنهم لم يجعلوا من التراث بديلا
للحداثة ومبررا للتشنج في التعاطي مع منجزات العصر الحديث، وهو ما اقترفناه
– برأيه – بقصد وبدون قصد فصرنا في ذيل الحضارة الإنسانية.
وخلص الكاتب إلى أن العالم العربي يحتاج لتجاوز كبوته الحضارية إلى تجاوز
فكرة المقاومة المجانية، والنظرة العقلانية للتاريخ، وبناء جسور التواصل مع
الآخرين بشكل أكثر مرونة وأكثر براغماتية .
وعلى الرغم من الحس التغريبي الذي يلحظه القارئ المدقق في كتابنا إلا أنه
يأتي ممزوجا بمرارة العربي الذي عاش في أوروبا وأدرك إلى أي حد نحن
متراجعون؛ فجاءت كلماته متساوية في مقدار شحنتها الانفعالية مع ما نحن فيه
من تأخر وركود ومضادة في الاتجاه – ما وسعها - لذهنية التراجع والركود،
إنها صرخة متحاملة في وجه أمة خاملة؛ تكاد جذوة مصباحها تخمد وتغرق في
الظلام.