هذه التجليات إن اختلف تحديدها بين التوسع والاقتضاض عند النقاد،
فهي توضح وبما لا يدع مجالا للشك، أن الوظيفة الشعرية يجب أن ينظر إليها من
موقع شمولي كمكون من بنية مركبة تحول بالضرورة العناصر الأخرى وتحدد معها
سلوك المجموع، من هذا الموقع تتجلى هذه الوظيفة في لغة الشعر.
يعتبر
الاهتمام باللغة الشعرية من نتائج الوعي برمزية الإنسان البدائي، حيث شكل
الشعر مصدرا أصيلا من مصادر التفكير الفطري التي تنهج بالممكن في صراع مع
ما هو كائن. ومن مفيد القول إن هذا الوعي لم يفقد يقينه بقدر ما تجذر بفعل
ارتقاء الدرس النقدي الحديث الذي عمد إلى تمثل لغة الشعر في ضوء رؤية
مفارقة تستدعي ضرورة مراعاة التلاحم العضوي الحاصل بين الشعر واللغة، ذلك
التلاحم الذي يستعصي في ظل تصور ماهية الشعر بمعزل عن اللغة، مادام الشعر
حصيلة العلاقة القائمة بين اللغة وفاعل الكلام الذي ما إن يسقط انفعالاته
على اللغة إلا وترتد إلى طبيعتها الفطرية التي يصبح الشعر بمقتضاها لغة
أصيلة غايتها إرساء أسس كينونتنا.
وإذا كان التلاحم العضوي القائم بين الشعر واللغة يقتضي لغة الشعر
باعتباره تجربة متكاملة تختزل كل "مكونات القصيدة الشعرية من خيال وصور
موسيقية ومواقف إنسانية"، فإن ذلك يقتضي أيضا الإحساس بالمفارقة بين الشعري
وغير الشعري. ولعل هذا ما حصل مع بول فاليري الذي يعتبر من رواد البنائية
الأوائل، إذ سبق في العشرينات من هذا القرن إلى وضع المبادئ التي لا تزال
من محاور الدراسة الشعرية، حيث دعا إلى ضرورة تمييز اللغة الشعرية عن اللغة
العادية مع استبعاد مناهج البحث التقليدية التي تهتم بحياة الشعراء عوض
الاحتفال بجوهر الشعر. ومن هذا المنطلق استنتج أن الشعر في أساسه فن لغوي،
مفرقا بين الشعر والنثر، إذ شبه الأول بالرقص، والثاني بالمشي.
ولشدة ما شكل موضوع اللغة الشعرية أحد أهم مستلزمات النقد الأدبي
الحديث، فإن نفس المقابلة بين الشعر والنثر طرحت داخل التيار الوجودي، حيث
عمد جان بول سارتر في الفصل المخصص للإجابة عن سؤال "ما الكتابة؟" من كتابه
ما الأدب؟، إلى إحاطة القول الشعري بهالة خاصة. فالشعر بخلاف النثر مثله
مثل جميع الفنون من رسم ونحت وموسيقى لا يقبل الالتزام، ولا يدل على شيء
خارج ذاته، لأن الشاعر "لا يستخدم الكلمات بحال ولكنه يخدمها، فالشعراء قوم
يترفعون باللغة عن أن تكون نفعية"، الشيء الذي يفترض في الكلمة أنها تمثل
المعنى أكثر مما تدل عليه، لأن "الكلمات أشياء في ذاتها وليست بعلامات
لمعان".
ويرجع الأثر الكبير في مقاربة اللغة الشعرية إلى ما حققته الدراسات
اللسانية الحديثة من نقلات إضافية انعكست على فهمنا للنص الشعري وشروط تولد
بنياته اللغوية، هذا مع النص على مبدأ المحايثة في دراسة اللغة. وقد كان
للمشروع الريادي الذي أقام صرحه دي سوسور في التمييز بين اللغة والكلام،
والقول باعتباطية العلامة اللغوية والتركيز على تزامنية اللغة، أثره العميق
في توجيه الأبحاث وترشيد أدواتها كي تستغور اللغة وتستقري إواليات
اشتغالها. وتبعا لذلك، تفرعت المدارس التي بلغ الحد ببعضها إلى الاهتمام
بلغة الشعر على وجه الخصوص، وفي هذا الصدد يعتبر التجديد الشعري الحافز
الأساسي وراء قيام جماعة الشكلانيين الروس بدراسات وصفية للغة الشعرية،
تستبعد البحث خارج النسيج اللغوي، وتأخذ بعين الاعتبار الفوارق التي تفصل
هذه اللغة عن اللغة العملية، كما يبدو تعريف اللغة الشعرية بناء على الغاية
التي يستعمل من أجلها المتكلم التمثيلات الألسنية، فإذا ما استعملها لغاية
عملية صرفة، فإن الأمر سيتعلق بنسق اللغة العملية، إلا أنه بإمكاننا
التفكير في أنساق أخرى تتراجع فيها الغاية العملية إلى موقف خلفي، بينما
تحظى التمثيلات الألسنية بقيمة مستقلة، والشعر نموذج مفضل لهذه الأنساق.
من هنا تعتبر العملية مغايرة الغائية لأنها تجد تأسيسها خارجها، في حين
تعتبر اللغة الشعرية ذاتية الغائية لأنها تجد غايتها داخلها. وقد تعرض هذا
الفهم المبدئي عند الجماعة إلى انتقادات من بينها ما لاحظه ميخائيل باختين
من أن المذهب الشكلاني يختزل مشاكل الخلق الشعري إلى مسائل لغوية، ويهمل
المقومات الأخرى لفعل الخلق الشعري والتي هي المضمون أو العلاقة بالعالم،
الشيء الذي أدى إلى تتبع الإطار الجمالي للشكلانيين، مما جعل تودوروف يفترض
أن إطار المذهب الشكلاني للغة الشعرية هو الجماليات الكانطية مع إضافة
تكونها اللاحق في مرحلة الرومانسية الألمانية.
وبرغم الانتقادات التي دونت في هذا الشأن، فإننا لا ننكر القيمة التي
اكتسبها الشعر مع هذه الجماعة في سعيها إلى اكتشاف الوحدة العضوية والعلاقة
القائمة بين الإيقاع والتركيب مع تخصيص البحث في القيم التعبيرية للأصوات.
لهذا وغيره تواصل طرح القضية داخل حلقة براغ اللغوية، التي أخذت على
عاتقها التزاوج الذي يمكن أن يقوم بين الدراسات الشعرية وعلم اللغة. ففي
مقال له تحت عنوان "اللغة المعيارية واللغة الشعرية"، بادر يان موكاروفسكي
إلى دراسة لغة الشعر انطلاقا مما يميزها عن اللغة المعيارية التي تعتبر
الخلفية التي ينعكس عليها الانحراف الجمالي في تكوين الشعر. وإزاء هذا
التمييز يستخدم مصطلح "الأمامية" الذي يشكل عنصرا أساسيا في اللغة الشعرية،
إذ يوجد مهيمنا في تزامنه مع عناصر أخرى تقع في خلفية العمل الأدبي. ورغم
وجوده في أنماط اللغة المعيارية التي تجد نموذجها المفضل في لغة العلم، إلا
أنه يكون ثانويا بالنسبة للهدف الذي هو التوصيل. بينما تحقق الأمامية في
اللغة الشعرية حدا أقصى من التكثيف الجمالي. وهي كوظيفة مهيمنة في القول
الشعري تختلف عن "الآلية" التي تكتفي بالتخطيط للواقعة، في حين تقوم
الأمامية بانتهاك هذا التخطيط بصفتها عنصرا مهيمنا يتحقق في نظر موكاروفسكي
بالتماسك والنظام.
مما تقدم، يتضح لنا أن تحديد اللغة الشعرية قد تم انطلاقا من مقابلاتها
التي برغم تسمياتها إنما تحيل على نمط معين ضمن دائرة اللغة النثرية. وبهذا
كان ينظر إلى اللغة من زاوية أحادية الجانب: كمحور أفقي يتم بين قطبين
متقابلين هما: الشعر والنثر كما يظهر من هذا التخطيط.
النثر الشعر
إلا أن هذه النظرة لا تتجاوز التقليد الكلاسيكي الذي عبر عنه رولان بارت
قائلا: "في العهود الكلاسيكية يكون النثر والشعر قمتين شامختين يمكن أن
يقاس الفرق بينهما. إنهما ليس أكثر أو أقل تباعدا من رقمين مختلفين: فهما
مثل الرقمين في التماس ولكنهما متغايران نتيجة للفرق عينه الموجود في
الكم"، والجديد الذي أوحت به الدراسات اللسانية الشعرية هو قياس "درجة
الشاعرية" في القطبين معا، حيث "الفرق بين الشعر والنثر كمي أكثر مما هو
نوعي"، لهذا افترض النثر العلمي الطرف المقابل للشعر، ما دام تقليص
الانزياح يقترب فيه من درجة الصفر. ونحن نقول "افترض" لأن المسألة لا تتعدى
افتراض ما لا يمكن تحديد بالطبع، هذا ما يعبر عنه ياكبسون بقوله: "ما
الشعر؟ ينبغي لنا إذا أردنا تحديد هذا المفهوم أن نعارضه بما ليس شعرا، إلا
أن تعيين ما ليس شعرا ليس اليوم بالأمر السهل". لذا فمجرد افتراض "اللاشعر
الذي يستعصي على التعيين بما هو قابل للشعر، يدفعنا إلى افتراض "اللانثر"
كمقابل للنثر، بحيث تنحل تلك النظرة الأحادية إلى اللغة في اقتصارها على
محور أفقي، بأن تتوزع على ثلاثة محاور كما يتبين من هذه الترسيمة المفترضة:
نثر شعر
لا نثر لا شعر
حيث نلاحظ أن المحاور تتوزع وفق علاقات أفقية وعمودية متقاطعة
بتعددها تعدد الأبعاد. وللخروج من مغبة التعدد نقترح المفارقة التالية:
(اللغة الشعرية/شعرية اللغة). ومعنى هذه المفارقة، أنه إذا أردنا تحديد
"اللغة الشعرية" علينا أن نعير الانتباه إلى الطرف المقابل الذي هو شعرية
اللغة، الشيء الذي يدعو إلى إعادة تعريف "الشعرية" من جديد، ما دامت هي
الصفة الجامعة بين قطبي هذه المفارقة. وهذا أمر لا يمكن الإقبال عليه الآن،
لأن الشعرية كعلم يبحث في القوانين العامة أو الخصائص المجردة التي تصنع
فرادة العمل الأدبي، بل إن تعريفها يستدعي الإحاطة بجانبين هما:
1 ـ جانب تاريخي:
يبدو معه أن للشعرية تاريخا طويلا يرجع إلى كتاب فن الشعر لأرسطو، وهو
أول كتاب منهجي في هذا المجال، إذ لأهميته يمكن اعتبار تاريخ الشعرية منذ
عصر النهضة صياغة تأويلية لما جاء فيه. وللتأريخ لهذا المصطلح، ينبغي أولا
الانطلاق من المركز الذي هو إيطاليا مرورا بألمانيا مع "لسنج وهردر" ومع
أقطاب الحركة الرومانسية الإخوان شليغل ونوفاليس وهلدرلن ثم وصولا إلى
إنجلترا مع كولردج وكذا مع صياغة المبادئ الأولية للرمزية (إدجار ألان بو)
وقوفا بفرنسا خصوصا عند مالارمي وفاليري.
ونظرا للتطور الذي بدأ يشهده النقد منذ بداية القرن العشرين، أخذت
الشعرية كنظام نظري مستقل في النمو والارتقاء، في صياغات الشكلانيين الروس
(1915-1930) وفي نشاط المدرسة المورفولوجية بألمانيا (1925-1955) وفيما
شهده النقد الأنجلوسكسوني الجديد بأمريكا وإنجلترا ثم في التحليل البنيوي
في فرنسا الذي شرع في التطور ابتداء من الستينات.
2 ـ جانب علمي:
ويتعلق البحث في هذا الجانب بعلاقات القرابة التي تنشأ بين الشعرية
ومجموعة من العلوم أو المقاربات الأخرى. وأبرز ما في ذلك، تلك العلاقة
الواضحة بين اللسانيات كعلم محايث للغة عامة وبين الشعر كعلم محايث للشعر
على وجه الخصوص، وإذا كانت "الشعرية" لن تصبح في أحد معانيها إلا بلاغة
جديدة" على حد تعبير جيرار جينيت، فهناك من الباحثين من حاول البحث عن
العلاقة بين الشعرية والبلاغة كما فعلت جماعة "مو" البلجيكية في "البلاغة
العامة"، حيث اعتبرت البلاغة هي المعرفة بطرائق اللغة المميزة للأدب
والشعرية هي المعرفة الشمولية بالمبادئ العامة للشعر كنموذج مفضل للأدب،
لهذا عملت الجماعة على استبدال الشعرية بالبلاغة أو إدماجها ضمن المشروع
البلاغي العام الذي يتوخى تحليل تقنيات التحويل مع التمييز الدقيق بين
الأنواع والمواضيع، ومن هنا جاء افتراضها "الوظيفة البلاغية" تسمية بديلة
عن الوظيفة الشعرية، التي ابتكرها ياكبسون، وسيكون هدف الوظيفة المفترضة هو
بالضبط "إعادة صلاحية اللغة".
ما نرمي إليه من وراء المفارقة ليس هذا الجانب أو ذاك، وإنما هو موضوع
الشعرية. بمعنى هل هي علم موضوعه عام كما يوحي بذلك الركن الثاني من
المفارقة: "شعرية اللغة" حيث يمكن اعتبارها علما للأدب يهتم "بشروط
المحتوى" على حد تعبير رولان بارت؟ أو هي علم لما هو خاص كما يوحي الركن
الأول من المفارقة "اللغة الشعرية" لدرجة أننا نقول مع جون كوهن ودون أدنى
ارتياب: إن "الشعرية علم موضوعه الشعر"؟ حقيقة أن الشعرية علم للموضعين
معا، لكنها كمصطلح علمي مطاط، تهتم بكل ما من شأنه أن يثير الانفعال
الشعري، إلا أنها في الوقع العلمي تحقق امتيازها في الشعر الذي هو بتعريف
إ.ريتشاردز "أسمى صور اللغة الانفعالية".
وإذا كانت الوظيفة الشعرية مهيمنة في لغة الشعر بالقياس إلى وظائف أخرى
ثانوية، دون أن يعني ذلك أنها تقتصر على الشعر وحده، فهذا يبرر دور الشعرية
التي تعمل على قياس درجة الشاعرية وتحدد كيفية انبثاقها في الشعر بشكل
مكثف. بل إن تعريف هذه الوظيفة من قبل ياكبسون بأنها إسقاط لمبدأ التماثل
من محور الاختيار على محور التأليف، يبدو أكثر انسجاما مع الشعر بوجه خاص.
ذلك أن اللعبة في هذا الجنس اللغوي تتم في الأساس بين الشاعر واللغة، وطبقا
لهذه العلاقة حاول أحد الدارسين تعريف الشعر قائلا: "إذن، سيمكننا حقيقة
تعريف الشعر كعلاقة بين فاعل الكلام والوظيفة الشعرية للغة"، حيث يصبح مبدأ
التماثل الذي يجد صياغته المثلى في الاستعارة، المبدأ الجوهري في خصوصية
هذا الاستعمال اللغوي، ما دامت الوظيفة الشعرية هي التي تجعل الكلام الشعري
يتسم باقتصاد لغته التي تتحدد في التناسق والانسجام.
وبهذا يعتبر التماثل خاصية عامة تشمل جميع بنيات الشعرية، هذا ما أشار إليه فرانسيس فانوي حين حاول تحديد تجليات الوظيفة الشعرية في:
"ـ الإيقاع
ـ والتلاعب الصوتي
ـ والصور".
هذه التجليات إن اختلف تحديدها بين التوسع والاقتضاض عند النقاد، فهي
توضح وبما لا يدع مجالا للشك، أن الوظيفة الشعرية يجب أن ينظر إليها من
موقع شمولي كمكون من بنية مركبة تحول بالضرورة العناصر الأخرى وتحدد معها
سلوك المجموع، من هذا الموقع تتجلى هذه الوظيفة في لغة الشعر.
من هنا يكون على الشعرية، كفرع من اللسانيات يتولى معالجة هذه الوظيفة
في علاقاتها بالوظائف الأخرى للغة، تجسيد دورها بتحليل هذه التجليات أو من
منظور يعتبر النص في النهاية بناء كليا ومتكاملا
الإثنين ديسمبر 26, 2011 2:49 am من طرف بن عبد الله