في مواجهة النص
أحمد علي هلال
على الرغم مما قد يثيره مصطلح (النص) من مفاهيم أدبية وفلسفية، على
مستوى الخطاب والنظرية والممارسة، فضلاً عن إعلاء المذاهب النقدية من شأنه،
ليصبح مفهوماً متداخلاً وشائكاً، فإن استقراره في سياق الأجناس الإبداعية،
يمنحه أثيرية مفترضة، ليقارب بعد ذلك بماهية وخواص الجنس الذي استقر به
كالرواية أو القصيدة، فسائر حقول الإبداع المختلفة، تسفر مقاربتها عن
مواجهة مع (النص) تتعدد وسائلها وغاياتها وأدواتها.
(ماذا يحدث عندما يواجه قارئ نصاً ما)؟!
هكذا
تتساءل الناقدة المعروفة سيزا قاسم، لتقف على علاقة القارئ بالنص، وليتحول
النص إلى معايشة فعلية بعد استيعابه وهضمه، سواء فسرت تلك العلاقة،
بالسيطرة أو التبعية أو التكافؤ، لكنها في الأعم الأغلب تشي بفعل القراءة
الفاحصة وخبراتها الإدراكية، في صوره الإنتاجية الفاعلة. وإذا ما انحسر ذلك
الفعل، خسر النص ثراءه المحتمل، وقيمته المعطاة، بما يمكن أن يفسر بكسل
القراءة واندياحها بصورة أو بأخرى، وبما يقرّب للأذهان مفهوماً آخر أكثر
التباساً هو العطالة الأدبية!
فاستدعاء القارئ بمستوياته المتعددة،
ومنها النموذجي، كما هو بطل جيمس جويس، الذي تخيله (فريسة لأرق نموذجي)،
يلقي على الكتابة سؤال البحث عن النص المختلف بوصفه (قدراً مشتركاً) مع
القارئ، كما أراده الروائي والناقد أمبرتو إيكو. وعنده أن نص المتعة ما زال
يمثل هاجساً رئيساً، مع أن الرواية الحديثة برأيه، قد قلّصت من الإمتاع
الذي كان يعتمد الحبكة كتقنية فنية جاذبة لمن يتأمل مفهوم العمارة
الروائية، نواحي أخرى، بصرف النظر عن الرهانات على دور السخرية في الأدب
كقيمة مضافة لما بعد الحداثة. فإن مصدر الإمتاع سيتجاوز ما تبثه لغة النص
المبدع، إلى ما يمكن أن يمليه التحليل الثقافي في مواجهة النص، أي إعادة
قراءته في ضوء سياقاته وما تختزنه (من أنساق مضمرة ومخاتلة قادرة على
المراوغة والتمنّع).
وهكذا يذهب القارئ لثقافة النص، بحثاً عن حدث
ثقافي يتماهى فيه الجمال والقبح، كما هو الأمر مع الشعر، ولا سيما فيمن رأى
أن اعتذاريات النابغة الذبياني تشكل فضاء رحباً في إضمار الأنساق
الثقافية. وآخرون ذهبوا لاستجلاء مفهوم (البطل الثقافي) لا سيما عند الشاعر
المتنبي. ويفسر هذا الاشتغال الحصيف لباحثين ونقاد عرب، على أن النص
الأدبي لم يعد مجرد تشكيل لغوي باذخ ما لم يش بثقافة عميقة ترفد قارئ اليوم
بانفتاح الدلالة، لطالما سعت أنواع أدبية كثيرة لاستمالته، وربما خاطبته
مباشرة، بالاتكاء على ما تستعيره من نماذج مثل
(القارئ الكريم، أو
عزيزي القارئ) أو استدراجه إلى فضاء اللعب يتبدى فيه الراوي والمروي له،
كجزء من استراتيجية الكتابة الإبداعية، سواء في مستوى الإيهام، أو الجهر.
وما
بين (أسطورة) القارئ والنص تستثمر لحظة جمالية تستقرئ تجربة، سواء تقنعت
بالتراجيديا، أو نزفت من ثقلها في الوجدان الفردي ـ الجمعي، تكاد تنحسر
كثافتها أو تهدر في النصوص الإبداعية التي تحتفي باللغة دون توظيفها بشكل
خلاق، أي ذلك التشكيل الثقافي والمعرفي الذي يزخر بعلامات تعاضد مفهوم
الرسالة والمعنى والأبعاد الحوارية، وما يعنيه التشكيل من حمولة فكرية،
ليست ملحقة بطريقة (الكولاج)، حتى ندلف لنص مختلف واقعاً لا رغبة.
وقارئ
اليوم لم يعد قارئاً للاستهلاك، إنه من يتبادل مع النص تأثيراً مفتوحاً.
فمن النص إلى القارئ، ومن القارئ إلى النص، جدلية لا تستنفد، ورهان على
نصوص عابرة للنصوص الأخرى، بما يعنيه اللقاء مع القارئ، وبما يغذي بحث
القارئ في النص عن ثقافة العمق تمتلك ما يكفي من القوة لتبث في مشهدنا
الإبداعي حضوراً راسخاً، وبطبيعة الحال ثمة النصف الملآن من الكأس.