يروي الدكتاتور الشرقيّ بصورة غربية
الكاتب: هيثم حسين
يقدّم الكاتب العراقيّ أسعد الجبوري في روايته «ديسكولاند» (فضاءات،
عمّان 2010) صورة تهكّمية متندّرة معكوسة لمستقبل العالم بعد عقود، مصوّراً
أحوال دولة أوروبيّة يسمّيها بـ «ديسكولاند» إثر انقلاب عسكريّ يزلزل
بنيانها، بعد أن توحّد عصابات عنصريّة جهودها لطرد الأجانب من البلد،
لأنّها تعتبر بأنّ الأجانب يشكّلون عبئاً على السكّان الأصليّين، وتهديداً
لحاضر البلاد ومستقبلها، وأنّهم لا يستطيعون الاندماج، ويظلّون متنكّرين
غير منتمين إلى البلد الذي آواهم، يعيثون فيه فساداً، يَرْوون بشتّى السبل
جوعهم الذي يتعاظم في دواخلهم يوماً بيومٍ. يصطادون الشهوات التي يستقتلون
في تحصيلها. يقابل ذلك تعاظم الحقد لدى تلك العصابات التي يُعدي بعضها
بعضاً بوباء العنصريّة، الذي يتنبّأ الروائيّ بأنّه سيكون وباء العصر
القاتل.
يبدأ السرد في الفصول الأولى بطريقة شاعريّة هادئة، حيث العلاقات
الإنسانيّة البسيطة البريئة بين الأصدقاء والأحبّة، وقصص الحبّ التي تجمع
بعضاً من أبناء الجنوب بصديقات وحبيبات من جميلات الشمال، تنتج مواليد
يفترض بهم أن يكونوا نقاط الالتقاء والتفاهم والمشاركة. لكنّ ما يلي يناقض
التصوّر البدئيّ، إذ تقع الكارثة التي يحمل جرثومتها الشرقيّون إلى
مهاجرهم. ينشب نزاع وتوتّر بين العصابات العنصريّة، يُقتَل على إثره الملك
الذي يناصر الأجانب في توجّهاته، ويترك خلفه زوجة شرقيّة، ثمّ تنشب فوضى
عارمة، وتستلم عصابة عنصريّة زمام السلطة. وبعد مكيدة تشترك فيها زوجة رئيس
العصابة العنصريّة بالتواطؤ مع عشيقها الشرقيّ طوروس، يتمّ القضاء على
الزعيم العنصريّ، ويعلن طوروس نفسه حاكماً للبلاد، ثم يقمع مناوئيه، ويشرّد
الملايين، ويستأثر بالسلطة بعنف قلّ نظيره، يمارس تهويماته وجنونه، يتزوّج
الملكة التي تحقد عليه، يعطّل كلّ مرافق الدولة، يتسبّب في هجرة معاكسة
نحو الشرق، فيلوذ أبناء ديسكولاند بالمهرّبين لينقلوهم إلى إحدى الدول
الشرقيّة، يدفعون الغالي والنفيس في سبيل ذلك، يتركون منازلهم وأبناءهم
لينفذوا بجلودهم، لكنّ اللعنة لا تزايلهم، تتبعهم أينما يرتحلون.هكذا تزدهر
تجارة الرقيق الأبيض من جديد.
يعيد طوروس البلاد إلى القرون الظلاميّة، يشكّل هيئات صوريّة تخدم
مصالحه ونزعاته الجنونيّة، يختار أنصاره مِن سَقْطِ المجتمع، يحارب بهم
أعداءه، يبثّ الرعب في كلّ مكان. يسجن مَن يشكّ بهم، أو ينفيهم أو يقتلهم،
ولا يتورّع عن اقتراف أيّ جريمة. يحصّن نفسه بالمرتزقة، يمنحهم بعض
الامتيازات البسيطة.و في تلك الأثناء تكون أعداد المهاجرين قد بلغت أعداداً
مرعبة، حتى يكاد البلد يخلو من سكّانه. يزرع أجهزة التنصّت في أجسامهم،
يتحوّل كلّ كائن إلى شبح مخيف لنفسه ولغيره، يحاول بناء سور عظيم، ولا
يلتفت إلى أعداد الضحايا. يودّ أن يثبت للعالم بأنّ المعوّقين والحشّاشين
والمخمورين قادرون على بناء المعجزات.
في ظلال الحدث الأبرز، حدث الانقلاب العسكريّ، تتداخل قصص عدّة، تتشابك
في ما بينها، حكايات المهاجرين والسكّان الأصليّين (مالك، المثنّى، لوزانا،
كريس، شيريهان، سكوت، هولم، ميتا...)، ولاسيّما الصديقتان سوني ولونا،
اللتان تهاجران إلى المغرب، وتتعرّفان هناك إلى أجواء الشرق الساحرة.
لا يخفى ما لاسم طوروس من دلالات، فمعلوم انه اسم سلسلة جبليّة تربط
الشرق بالغرب، علاوة على ما مرّ عليها من غزوات وحروب. والكاتب إذ يسمّي
بطله طوروس، يترك عند القارئ تساؤلات حول ما يرمي إليه من صلات وشيجة بين
الشرق والغرب، ثمّ يثير فزعه ممّا يمارسه الطاغية المتجبّر طوروس في بلاد
الديسكولاند التي يتسلم حكمها، ويحيلها إلى حطام وخراب. يكون اللوياثان
طوروس نتاج توحّد شرور الشرق والغرب، مركز الزلزال المدمّر. «لا يمكن النظر
إلى طوروس كمتقمّص لنزعة التدمير والانتقام في مواجهة خصومه التاريخيّين.
بل لأنّ تكوينه العنيف هو تراكم تاريخيّ طويل من تأليف الاحتقار له
ولجذوره، والتي من أقلّها: الاستعباد الفظيع الذي مارسه المستعمرون
القدامى، ممّن يحاولون اليوم تكييف سلطاتهم وأنماط جديدة من الهيمنة»(ص)،
كأنّه يكون هديّة الشرق للغرب ردّاً على الهدايا التي أتحف بها الغربُ
الشرق سابقاً، والتي كانت عبارة عن قياصرة وطغاة، وجلاّدين يملكون أحدث
مبتكرات تكنولوجيا الغرب الخاصّة بالتعذيب والقهر والإرهاب.
والكاتب إذ يبالغ في رسم تداعيات الطغيان على حياة الناس، وتدميره ونسفه
للبنى الاجتماعيّة، ولا سيّما أنّه يتحدّث في عقود مستقبليّة لاحقة،
يستشرف خطر العنصريّة المقيتة.
يأمر طوروس بكتابة رواية تؤرّخ لسلطته وجنونه، وتُظهر هيبته وتزرع رهبته
في القلوب. يتعاون على كتابة الرواية ثلاثة روائيّين تحت إشراف مباشر من
وزير الحواسّ في دولة أفرغت شعبها من الذاكرة والحلم والأمل والسعادة
والحب، حيث تكون الكوميديا متوازية في «ديسكولاند» مع المأسويّة المخلّفة.
الفصول الستّة والثلاثون،على رغم الاختلال الزمنيّ البادي، تصوّر الملهاة
التي يتسلّى بها الطاغية الشرقيّ في الغرب الذي يجد نفسه مرغَماً على
الهجرة المعاكسة، للَّوذ بحِمى شمس الشرق الدافئة، بعيداً عن صحارى الثلوج
الصقيعيّة في قلب القارّة العجوز، التي تجدّد شبابها عبر المهاجرين، تكون
ممزوجة بكثير من المفارقات المريرة، بحيث لن تستطيع بلاد الديسكولاند الرقص
فرحاً وطرباً، بل سيكون رقصها ألماً كرقص الطائر المذبوح، وستكون أسلحة
الغرب الفتّاكة وباء ينسفه ويودي به قبل أن يودي بغيره.