تعتقد
كثير من الحركات النسائية اليوم، أنّ المراهنة على انتصار العقل على
الخرافة معركة خاسرة سلفاً أو إلى حين، وتستدرك بعض المناضلات النسائيات،
وبنفحة ديريدية، بأنّ التمركز حول العقل ليس سوى نوع من التمركز حول
القضيب. وإذا لم يكن مؤكداً بأن الله قد مات، كما تنبّأ نيتشه، ولسنا نملك
أيّ يقين يؤكد أنّ فكرة الله قد دخلت طور الاحتضار، فمن الممكن ومن الحكمة
أن تتّجه الحركة النسائية نحو نزع طابع الأبوّة والذكورة عن الله، وأن
تضفي عليه لمسات أنثوية.
وبأسلوب أقلّ هدوءاً فإننا نقول : بدل قتل الله سنكتفي -في حدود
الممكن - بإخصائه. لكن هل يقع الإخصاء ضمن حدود الممكن الديني، أم أنه
يستدعي خروجاً وانزياحاً عن الفكر الديني برمته؟
يهدف ذلك الرهان إلى إحداث انقلاب عقائديّ غير مسبوق، تتجنّد من أجله
اليوم عديد الحركات النسائية، ومعها بعض الكنائس البروتستانتية في كل من
الولايات المتحدة الأمريكية وألمانيا وكندا، وتحتضنه أيضاً بعض المساجد
والكنسان، عبر صلوات وشعائر دينية تقودها نساء، ومن خلال أدعية وترانيم
تعيد تأسيس فكرة الخلق وصفات الذات الإلهية، وفق حسّ جمالي يتغيّى تحرير
الأديان من نزعة التمركز حول القضيب.
نساء الهيكل نموذجاً : حائط المبكى بمدينة القدس (أورشليم)، ارتفاعه حوالي خمسة عشر متر،
طوله حوالي مائة وخمسين متر، يُعتقد أنّه كلّ ما بقي من هيكل سليمان الذي
أحرقه الرّومان عام 70م قبل أن يدمّروه عام 135م.
من بين الشعائر الدينية للشعب اليهوديّ، الوقوف أمام الحائط والبكاء
على هيكل الملك الذي كان يُكلم الإنس والجانّ والنمل أيضاً. ومن شعيرة
البكاء عليه، استمدّ اسمه فاشتهر باسم حائط المبكى.
الشريعة اليهودية، وهي لا تختلف في تقاليدها الذكورية عن مثيلاتها من
الشرائع السماوية الأخرى، قرّرت أن تعفي النساء من طقوس النحيب والبكاء
على الهيكل، وربما خيراً فعلت لولا أنّ بعض النساء المناضلات في الحقل
المدني، من مختلف الحساسيات والمشارب، كان لهنّ رأي آخر، مفاده أنّ
المساواة مع الرجال يجب أن تكون كاملة وشاملة لكافّة الحقول والميادين،
بما في ذلك مجال الخرافات والأوهام الدينية.
هكذا تأسّست في عام 1988، جمعية دولية تحمل اسم "نساء الحائط"، وحدّدت
هدفها الأساس في النضال من أجل تمكين النساء من "الحقّ" في البكاء على
أطلال الهيكل الأسطوري أسوة بما يفعله الرجال.
وعقب معارك حقوقية وقضائية خاضتها "نساء الحائط"، أصدرت المحكمة
العليا في إسرائيل عام 2003 قراراً يقضي بتمكين النساء من "الحقّ" في
البكاء، لكن على بُعد مسافة معيّنة من الحائط وبصوت غير مسموع.
البعض رأى في القرار نصف انتصار على النزعة الذكورية، وأين؟ داخل عقر
دارها : المجال الديني! وآخرون اعتبروا القرار مجرّد إهانة إضافية، طالما
أنه حرم المرأة من الاقتراب من المكان المقدّس كي لا تدنّسه. ولذلك ما
تزال حركة "نساء الحائط" تلحّ في مطالبتها بحقّ النساء في البكاء وعلى نفس
المسافة التي يقف فيها الرجال أمام حائط الهيكل المفقود.
تساؤلات حول اللاّهوت النسائي : تعدّ "نساء الحائط" من بين عشرات الحركات النسائية التي تندرج ضمن ما
يسمّيه البعض باللاّهوت النسائي، والتي تهدف إلى تحرير التراث الدينيّ
الإبراهيمي من نزعة التمركز حول القضيب : هذا العضو الذكوري الذي وقع عليه
النبي إبراهيم جرح العهد الإلهي الأبدي.
فهل يمكن للخصاء الديني أن يمثل عهداً إنسانياً جديداً مع الله، من
أجل عالم خال من العنف والهيمنة والاستعلاء والاغتصاب والاحتلال والتمركز
حول الهوية وإرادة التفوّق والاقتصاد المضارباتي…؟ لكن ألا يستدعي مثل هذا
العهد الجديد، هو الآخر، جرحاً وألماً بل ونزيفاً قد لا يتحمله القضيب
مثلما دأب على تحمل الختان الإبراهيمي؟
وهل يعدّ اللاّهوت النسائي انقلاباً فعلياً على النظام البطريكي، حيث
الله هو الأب وحيث الزعامة الدينية لا تكون إلاّ ذكورية، أم أنه يعيد
ترسيخ الخرافات تحت مظهر حداثي وحقوقي؟
ألا يقودنا تأنيث الأديان إلى تديين الأنوثة بعد عهود طويلة من تديين
الذكورة؟ لكن ألا يكون في ذلك التأنيث خلاصنا من العنف القضيبي؟
ورغم ذلك ألا يبدو أن الحركات المثلية نفسها، بشقيها الرجالي
والنسائي، ما تزال، في مستوى المتخيل والاستيهامات، تحت رحمة التمركز حول
القضيب الجسدي أو المتخيل أو الاصطناعي أو الرمزي؟ ألا يكون تأنيث
الديانات الإبراهيمية مجرّد تمركز استيهامي حول قضيب متخيل؟
وهل الديانات الإبراهيمية قابلة للتأنيث أصلاً، أم أن استراتيجية
التحرّر من نزعة التمركز حول القضيب تستدعي الخروج عن التقليد الإبراهيمي؟
وأخيراً، ألا يكون اللاّهوت النسائي مجرّد تجديد للنزعة الخلاصية
للأديان ومن داخل الأديان نفسها، وذلك حين يأتي الخلاص بصيغة المؤنث؟
أسئلة عالقة حول مغامرة ما تزال مفتوحة.
السبت أكتوبر 30, 2010 1:24 pm من طرف هشام مزيان