-1-
يتشكّل الإعلام من مجموعة الأفعال الصادرة عن فرد أو جماعة أو مؤسسة،
والهادفة إلى نقل الخبر أو المعلومات والمعارف إلى جهات متلقّية.
ويتضمن الفعل الإعلاميّ عدة عناصر نفسية ومجتمعية ومعرفية ومعلوماتية وآنية واستراتيجية يمكن إيجازها في ما يلي:
* وجود معطيات واقعية تكون هي مادة الفعل الإعلامي ولا وجود له بدونها.
* وجود ذات تقوم بالوظيفة الإعلامية وذات أخرى تكون متلقّية لمادّة تلك الوظيفة.
* وجود استراتيجية الذات التي تقدم المادة الإعلامية وتتقدّم بها إلى
الغير. ويتضمّن الفعل الإعلاميّ علاقة بالغير وفقا لتلك الاستراتيجية.
* يتضمّن الفعل الإعلامي إخبارا موجّها من ذات مرسلة إلى ذات متلقّية.
ومن حيث إنّه يتضمّن إخبارا، فإنّ المادة الإعلامية تحتمل الصدق أو الكذب،
والخطأ غير المقصود أو المقصود لغايات ظاهرة أو خفية.
* يتنازع في الفعل الإعلامي ميلان : الاتجاه نحو قول الحقيقة أو الاتجاه
إلى تأويلها. ونلمس هذا الأمر حين تقدّم المادة الإعلامية بشكل مختلف حين
ترسل إلى متلقيها من مرسلين تختلف توجهاتهم ومواقعهم ومواقفهم من الوقائع
التي تتعلّق بها تلك المادة.
* الإعلام فعل إنساني بكل ما في هذه الصفة من دلالات. ولذلك، فإنّ المادة
الإعلامية، سواء كانت صادرة عن فرد أو عن جماعة أو عن مؤسسات، تكون حاملة
لأثر الإنسان فيها، بكل مالدى الإنسان من عقل ووجدان وميولات وغايات معلنة
او خفية. فليس هناك مادة إعلامية في ذاتها مستقلة عن الذات التي تصدر عنها.
نتيجة لتدخّل العوامل سالفة الذكر في الممارسة الإعلامية، ولكون نلك
العوامل تتضمّن عناصر ذاتية، فإنّ تحليل المادة الإعلامية لا يقتصر، في
نظرنا، على البحث فيها عن مطابقتها للوقائع التي تخبر بها، بل يتعلّق ايضا
بتحليلها في ضوء علاقتها بشروط وتوجّهات وموقع الذات التي تصدر عنها تلك
المادة. تشمل الممارسة الإعلامية عدّة أفعال يوجّهنا العنصر الذاتي منها
نحو دراسة أفعال تتعلق بها علوم إنسانية مختلفة. فهناك التواصل والتلقي،
واللغة والرموز المستخدمة بصفة عامة، والتصوّر والتخيّل، والتذكّر
والإدراك، والوعي واللاوعي، والقصد الواضح أو المتخفّي، والصدق والخطأ،
والكذب والتمويه، والتصريح والتلميح، والإعلان والكتمان، والصدور العفوي أو
الإصدار المقصود والمخطط له وفق غايات وبرامج لبلوغ تلك الغايات، والتأني
من أجل الحصول على المعطيات اللازمة أو التسرع دون تحصيلها.
تحتاج الممارسة الإعلامية إلى دراستها في المستويات المختلفة التي تعبّر
عنها أفعال تتحقّق بفضلها المهمّة الإعلامية، وهي أفعال تتراوح بين الصدق
والكذب، من جهة، ثم القصد وعدم القصد، من جهة ثانية، وبين الوعي واللاوعي
من جهة ثالثة. وهذا معناه أنّ على المتلقي أن يتّخذ لنقسه مسافة فاصلة بينه
وبين المادة الإعلامية التي تقدّم له. ومن الواضح عدم قدرة جميع المتلقين
على مواجهة المادة الإعلامية بالتحليل الذي يبحث في مكوّناتها ويكشف عن
الغايات الخفيّة منها على صعيد المضمون وطريقة الصياغة والتقديم للغير في
الوقت ذاته.المادة الإعلامية من زاوية علاقتها بالذات التي تصدرها قابلة
لأن تكون موضوعا لدراسات تنتمي إلى العلوم الإنسانية المختلفة. فالممارسة
الإعلامية ذات أبعاد نفسية ومجتمعية وسياسية واستراتيجية، وسواء كانت
مطابقة للواقع أو غير مطابقة، فإنّها تتضمّن هذه الأبعاد.
-2-
للإعلام مهمة إيصال الخبر أو المعلومات والمعارف. ويتوافق هذا مع ما هو
موجود الآن من مواثيق تنظم مهنة الإعلام وتحدّد وظيفته إزاء الأطراف التي
يتوجه إليها.
ليس من اليسير، مع ذلك، أن يطابق الخبر حقيقة الوقائع التي يتحدّث عنها.
ونرى، في هذا المستوى أنّ الموضوعية في المادّة التي يقدّمها الإعلام ليست
معطى طبيعيا وتلقائيا. الموضوعية بتعبير آخر ليست متحققة منذ البداية،
ولكنها تصبح قريبة عبر المجهود الذي تبذله الذات في الممارسة
الإعلامية. الممارسة الإعلامية، في جوانب منها، متماثلة مع مهمّة المؤرخ،
مع وجود فوارق لاينبغي إهمالها، إذ أنّ المهمة التأريخية تتعلّق أساسا
بالماضي، بينما تتعلق المهمة الإعلامية أساسا بالحاضر. فهناك أسباب ذاتية
وموضوعية قي نفس الوقت تمنع تلك المطابقة : عدم التمكّن من الإحاطة بكل
الوقائع التي يتعلق بها الخبر، عدم القدرة على التمثل الكافي لجوانب من تلك
الوقائع، صعوبة الإلمام بالشروط التي تجري فيها كثير من الفعاليات
الإنسانية، ولكن أيضا خضوع مصدر الخبرلتأثير سلطات أعلى منه تدفعه إلى
توجيه الخبر نحو صيغة معينة، بل وانتماؤه هو نفسه إلى تلك الجهات التي يكون
من مصلحتها إشاعة الخبر في صيغة معينة له. وتقودهذه الأسباب وغيرها، مما
ذكره من اهتموا بمصداقية الإعلام أو رواية الخبر بصفة عامة، إلى عدم مطابقة
الخبر لحقيقة الوقائع، سواء كان ذلك عن طريق الحطإ الذي لايكون موصوع وعي
أو بالتمويه الذي يكون فيه الابتعاد عن حقيقة الوقائع مقصودا.
للصدق في التعامل مع الخبر أهميته، إذ تتعلق به الأدوار المجتمعية
المطلوبة من الإعلام. يلبي الإعلام حاجة المواطن إلى معرفة ما يحدث في
محيطه المجتمعي على جميع أصعدة الحياة المجتمعية، وحيث أصبح ذلك المواطن
بفعل قوة التواصل التي يعرفها عالمنا المعاصر بفضل التقدم العلمي والتقني،
وبفضل ترابط المشكلات التي يعرفها العالم، فإن حاجة المواطن أصبحت أكثر سعة
وفيها تطلع إلى معرفة خبرعما يجري في العالم.
لبلوغ غاية الإعلام في إيصال الخبر، وتوخي الصدق والدقة في ذلك، فقد فرضت
شروط المهمة الإعلامية وجود تكوين متخصص قي هذا المجال. ونعتبر وجود معاهد
عليا للتكوين في مجال الإعلام قفزة نوعية في تطور هذه الوظيقة المجتمعية.
وأكثر من ذلك، ونتيجة للحاجات التي برزت مع تطور الوظيفة الإعلامية، ظهرت
تخصصات فرعية في التكوين الإعلامي. فالخبر ليس واحدا لأن وقائعه تختلف من
مجال إلى آخر من مجالات الفعالية الإنسانية. ولا يكون كلّ من رام القيام
بالوظيفة الإعلامية مهيئا لتقديم كل مستويات الخبر. ولذلك تكون المؤسسات
الإعلامية، سواء كانت مكتوبة أو مسموعة أو مرئية، في حاجة إلى توظيف كفاءات
متخصصة في كل مستوى من المستويات التي تتعلق بها الوقائع التي ينقل
الإعلام أخبارها.ففهم الوقائع قبل نقلها كوقائع يحتاج إلى النظر إليها من
جميع جوانبها، وهو ما يحتاج من الإعلامي إلى تكوين في عدد من الميادين التي
من شأنها على النظر إلى الوقائع من زوايا مختلفة لفهم كل ابعادها. لايكتفي
الإعلامي بنقل الخبر، بل إن فهم الوقائع التي ينقلها يبدأ من تقديمه لها.
نقل الخبر، إذن، عنصر محوري في الوظيفة الإعلامية، ولكن استراتيجية
الممارسة الإعلامية، التي نفترض أن لها دورا مجتمعيا مطلوبا في التنمية
الشاملة وقي التكوين السياسي للمجتمع، لا تقف عند حدود الخبر. فالمواطن
الذي يساهم الإعلام في تكوينه يكون في حاجة إلى الإلمام بالوقائع بمعرفة
شروط حدوثها، وشروط تطويرها إن كانت من المرغوب فيه، أو الحد منها إن كانت
مما يلحق ضررا بالحياة المجتمعية. وبتعبير آخر، فإن إيصال الخبر ليس هو
الغاية القصوى للإعلام، بل تكتمل وظيفة الإعلام المجتمعية بتحليل الخبر
وإبراز جوانبه المختلفة والعوامل المساهمة فيه. وإذا كنا قد قلنا إن
الإعلام أصبح قي حاجة إلى مختصين، فإننا نضيف الآن إن على المنابر
الإعلامية أن تستعين باستمرار بمختصين في دراسة مختلف مستويات الفعالية
الإنسانية. ويكون هذا في الإعلام المسموع والمكتوب والمرئي من العوامل التي
تساعد فئات كبيرة من المجتمع على فهم الخبر والظواهر المرتبطة به. ينقل
الإعلام وقائع تعود إلى الفعاليات الإنسانية التي تكون نفسية أو مجتمعية أو
اقتصادية أو سياسية وغيرها. ولايمكن للإعلامي نفسه أن يقوم بتحليل نلك
الوقائع من كل جوانبها وفي مستوياتها المختلفة، علما بتنوع الشروط التي
تتدخل في تكوينها. فلا بدّ لكلّ منبر إعلامي جادّ من الاستعانة بمحلّلين
مختصين في جملة العلوم الإنسانية التي تدرس مختلف الفعاليات الصادرة عن
الإنسان بكلّ مكوّناته وأبعاد سلوكاته. هذا ما نلاحظه في بعض المؤسسات
الإعلامية الجادة في البلدان المتقدمة، ونلاحظه في بعض المنابر الإعلامية
الناطقة باللغة العربية أو في إعلام البلدان الساعية إلى النمو. ونرى هذا
الاتجاه بديلا عما نلاحظه من تسابق الإعلام على مراكمة الأخبار المثيرة
بدون تحليل، إذ أنّ هذا الاتجاه يزيد من عدم قدرة الناس على فهم خلفيات تلك
الأخبار. وأكثر من ذلك، فإن مثل هذه الأخبار التي تتسابق بعض المنابر
المكتوبة بصفة خاصة في التركيز عليها لاتكون ذات أهمية تعادل إبراز تلك
المنابر لها. وهكذا، فإن الخبر يستغل في إثارة المواطن بدل أن يكون إيراده
بقيمته الملائمة له وتحليله منطلقا للمساهمة في التكوين المجتمعي والسياسي
لذلك المواطن.
الإعلام في زمننا من مظاهر تطور المجتمع، إذ لم تعرف الأزمنة السالفة
تطورا لنقل الخبر والمعلومة مثلما نراه الآن. وقد استفاد الإعلام، على
العموم، من التطور التقني الحاصل في زمننا، فتعاظم دوره، وتنوعت تأثيراته
في المجتمع. لكن التطور الذي عرفه الإعلام بفضل تطور تقنياته في نقل الخبر
وكيفية إبلاغه وتحليله لعب أيضا أدوارا سلبية من حيث إنه أصبح أيضا أقدر
على تزييف المعطيات والتمويه على المتلقي والتأثير فيه من جهة الذات أو
المؤسسة التي تصدر عنها المادة الإخبارية والتحليلات المرافقة لها. هناك
صراع غير معلن في كثير من الأحيان حول الاستفادة من التطور الحاصل في
الإعلام وحول الأدوار التي ينبغي أن تكون له داخل كل مجتمع أو في العلاقات
بين الدول والمجتمعات. هناك في هذين المستويين معا قوى تريد الحفاظ على
مصالحها في وضع قائم يشكل الإعلام بعضا منه، وهي لذلك تجتهد في استغلال
الوظيفة الإعلامية لبلوغ غاياتها. وهناك قوى أخرى تسعى إلى تغيير وضع قائم
بالارتكاز إلى فكر نقدي، وتسعى بدورها إلى توجيه الإعلام نحو وظيفة
نقدية.في حالة المجتمع الواحد يمكن الكلام عن فئات اجتماعية في هذا الطرف
أو ذاك، أما في حالة العلاقة بين مجتمعات العالم المعاصر، فيمكن الحديث عن
دول كبرى لها مصالحها الحيوية التي تسعى إلى استخدام الإعلام لخدمتها، ودول
صغرى قد لا تجد لديها الإمكانيات التي تواجه بها الهيمنة الإعلامية.
إذا كنا قد أشرنا إلى بعض الظواهر السلبية في المجال الإعلامي، فإنّ
فكرنا يتّجه إلى البحث في سبل تجاوز تلك الظواهر. لكن كلّ جانب من الجوانب
التي نريد معالجتها تحتاج إلى تناولها في دراسة مستقلة.