يعدّ ماركس أوّل مفكّر" أوربيّ" خلّف نظرية عن العالم الحديث، تستوعب
القيم المعبّرة عن الحداثة الأوربية، ممثّلة في الفلسفة الكلاسيكية
الألمانية في أوجها مع كانط وهيجل، وفي علم الاقتصاد الإنجليزي مع أدام
سميت ودافيد ريكاردو، وفي التجربة الديمقراطية كما تجلّت في الثورة
الفرنسية. نحن إذن أمام قذيفة مرعبة ضدّ "المجتمع البرجوازي"، تشتغل بواسطة
سلسلة من المفاهيم المبتكرة، صيغت بلغة خاصة.
نمط الإنتاج: تعامل ماركس مع المجتمعات انطلاقا من"نمط إنتاجها"، ولم ينظر إليها في
بعدها المادّي المبتذل. لا ينبغي في نظره لتحليل مجتمع ما، الانطلاق من
التقنية، بل من العلاقة بين ما هو تقنيّ وما هو اجتماعيّ. تعدّ "قوى
الإنتاج" ( التقنيات والكفاءات…) المرتبطة بفترة تاريخية ما، ملازمة في
الواقع "للعلاقات الاجتماعية للإنتاج" أي أشكال التملك ومراقبة وسائل
الإنتاج وتنظيم الشغل، وتوزيع الإنتاج. يشكل هذان العنصران "القاعدة
الاقتصادية" وهي قاعدة مرتبطة على الدوام بـ"البنية الفوقية" السياسية
والحقوقية والإيديولوجية، المطابقة للعلاقات الاجتماعية للإنتاج، والتي
تؤطّرها و تبرّرها في نفس الآن: يتعلق الأمر هنا بمؤسسات الدولة والثقافة.
هكذا ينزع المجتمع نحو الانقسام لطبقتين اجتماعيتين، ذلك أنّ مالكي وسائل
الإنتاج والمتحكّمين في التبادل بإمكانهم ضمان تفوقهم الاجتماعي والسياسي،
مقارنة بمن لا يملكون إلا "قوّة عملهم". في هذا المستوى يكمن بالضبط أساس
"الصراع الطبقي"؛ صراع يستمرّ ويدوم ما دامت الطبقات الاجتماعية موجودة.
قد تطرأ من حين لآخر، وبكيفية دورية، تحولات تكنولوجية، تميل بطبيعتها
إلى زعزعة العلاقات الاجتماعية للإنتاج السائدة، وبالتالي إلى قلب النظام
الاجتماعي برمته. إنه "عصر الثورات" الذي ينذر بالانتقال إلى نمط إنتاجي
آخر.
يقوم"نمط الإنتاج الرأسمالي" السائد في العصر الحديث على الملكية الخاصة،
والإنتاج السلعي. السوق إبداع إنساني. لكنه يبدو لنا كنظام طبيعي وقانون
متعال. وهكذا يتكون لدينا تلقائيا، انطباع بأنّ السلع يتمّ تبادلها الواحدة
مقابل الأخرى بناء على قيمتها الباطنية valeur intrinsèque. جواب كارل
ماركس: الأمر يتعلق ب" الفيتشية " Le fétichisme. إن ما ُيتبادل،
في الواقع، هو الشغل. رغم ذلك، لا يمكن الجزم بأن مجتمعنا سيصبح "مجتمع
السوق" حيث يغدو كل شيء مجرد تبادل حرّ بين مستفيدين من الشغل، تضمن
الدولة المساواة بينهم. إنّ ما تحيل عليه فعلا " قيمة " السلع هو الزمن
الذي يتطلبه اجتماعيا إنتاجها. ذلك أنّ السوق يتضمن مطلب الإنتاجية La
productivité. يتوخى بكيفية مثالية كل منافس إنتاجَ سلعته في أقلّ وقت
ممكن، ما دامت السلعة تملك نفس القيمة في السوق. لكنّ هذا لا يعني أن كل
واحد سيعوّض بناء على ما قدمه للمجتمع.
استغلال المأجورين: يختفي خلف هذا المظهر التبادلي "استغلال المأجورين". إن الأجير لا يبيع،
كما درجنا على قوله، عمله، بل "قوّة عمله". يبيعها بوصفها سلعة. إن قيمة
هذه السلعة تعادل، حسب المنطق السليم، ما يقتنيه بأجره من حاجيات. وما دام
يشتغل أكثر بكثير مما يتطلبه إنتاج حاجياته، فهو "مستغَل": إذ ينجز جزءا من
شغله مجانيا. هكذا يتم تفسير الفائدة أو "فائض القيمة"؛ التي هي بالذات
موضوع الإنتاج الرأسمالي. لا يتجه الإنتاج الرأسمالي نحو الأشياء الملموسة
التي تتطلبها حياة البشر، بل نحو "ثروة مجردة"، ثروة مؤهّلة للتراكم إلى
مالا نهاية له، مهما كانت تبعات ذلك على البشر وعلى الطبيعة. نلمس هنا كيف
يؤسّس ماركس نظرية في الإيكولوجيا السياسية. تضفي القوة الكاسحة
للرأسمالية، والتي تستهلكً لمصلحتها العمل المأجور، على هذا الاستغلال
طابعا لاإنسانيا وبعدا استعباديا.
القيمة ـ الشغل: موضوع " القيمة ـ الشغل" ـ الذي يحدد في نهاية المطاف قيمة ـ سلعة ما
انطلاقا من وقت العمل الذي يتطلبه إنتاجها ـ موضوع جوهري لكنه محدود: إذ
يتمثل في وصف منطق مجمل الاقتصاد الرأسمالي، وبيان كيفية إنتاج و إعادة
إنتاج "العلاقات الطبقية ". تتم إعادة إنتاج التمايز الطبقي عبر سيرورة
الإنتاج الرأسمالي ذاته، فالعامل يجد نفسه عند نهاية كل مرحلة أمام أجرته
الزهيدة وحدها، في حين أن الرأسمالي تمكن من جهة عبر بيع السلع (إضافة
لفائض الإنتاج الذي يتضمنه) من إعادة إنتاج رأسماله وأداء أجور مستخدميه،
كما أفلح من جهة أخرى في تأمين وجوده ومراكمة فائدة تفيده في الرفع من
إنتاجيته. لكن المنافسة التي تتحكم في الأسعار تكمن لا في زمن الإنتاج بل
في نسبة الفائدة. هذا التنافس بين الرأسماليين هو ما يقود الرأسماليين
الأكثر كفاءة على مستوى الربح لابتلاع من هم أقل منهم كفاءة، وبالتالي
مركزة الرأسمال في عدد قليل من الشركات الكبرى. هكذا ينبثق من صلب هذه
المؤسسات الكبرى، نمط جديد لتنظيم الشغل الاجتماعي، ليس هو السوق طبعا، بل "
التخطيط المنظم".
البروليتاريا: في هذا السياق أنجبت الرأسمالية "حفّاري قبرها". إذ يظهر إلى الوجود فاعل
اجتماعي جديد هو: "البروليتاريا". تتكاثر هذه الطبقة الاجتماعية باستمرار،
تتوحد وتنتظم بفعل سيرورة الإنتاج. لتكتسب أخيرا القدرة على الإمساك بزمام
التاريخ من يد البرجوازية. وتنتصب لإقرار حقوق اجتماعية وتوسيع مجال
الحقوق السياسية، وإقامة ملكية مشتركة لوسائل الإنتاج، وإحلال نظام اقتصادي
واجتماعي تشاوري ومنظم بشكل ديمقراطي. هذه هي دلالة شعار "إلغاء الملكية
الخاصة". تفتح البروليتاريا، بانعتاقها من الوصاية الطبقية، الطريق أمام
"تحرر" المجتمع بأكمله.
الإيديولوجية البرجوازية: لكي يتحقق للبروليتاريا ما تنشده عليها هزم قوة "الإيديولوجية
البرجوازية". إن كانت الأفكار السائدة هي أفكار الطبقة السائدة، فلأنها
تساير هذه الطبقة. تدعي هذه الأفكار أن كل ما يتم في مجتمعنا لا يعدو أن
يكون مجرد تبادل خدمات: هناك المساهمون برأسمالهم وكفاءاتهم، و هناك من
يشارك بقوة عمله. والدولة هي المعبر عن الإرادة العامة بحكم كونها مؤسسة
قائمة على الاعتراف بحق التصويت لمجموع المواطنين.
يتطلب إذن صراع المستغَـلين "نقد الاقتصاد السياسي" (وهو العنوان الفرعي
لكتاب الرأسمال) الذي يكشف بوضوح، خلف مظاهر المساواة والحرية، عن آليات
نهب فائض الشغل والهيمنة الطبقية، والتناقضات الصارخة للنظام.
الدولة البرجوازية: الدولة البرجوازية هي النتيجة الطبيعية للاقتصاد الرأسمالي. إنها تقوم
فرضية نظام اجتماعي تعاقدي محض؛ تعاقد بين كل فرد وفرد على مستوى العلاقات
الخاصة، وبين الجميع في إطار التعاقد الاجتماعي، بوصفه الأساس المفترض
للدولة. تضمن الدولة صوريا، في أحسن الحالات التعامل مع الجميع على قدم
المساواة، في إطار نظام شرعي تم إعداده وفق مسار ديمقراطي. لكن تكريس
النظام القائم للملكية الخاصة يمد الطبقة المسيطرة بالوسائل التي تساعدها
عمليا على تملك الوسائل الكبرى للإعلام، والمؤسسات الثقافية التي تمهد لها
الطريق لتقلد مناصب المسؤولية، وأخيرا التحكم في دواليب الدولة، التي تشكل
وسيلتها للهيمنة. هل هي دكتاتورية البرجوازية؟ إن هذه الدولة في الحالات
الشرعية تسنّ القانون. تطمح الثورة إلى "إلغاء الدولة" بوصفها جهازا
للتلاعب بالجمهور، وإقامة "جمهورية ديمقراطية" تختلف السبل المؤدية إليها،
حسب الظروف، إذ قد تكون عنيفة أو سلمية أو مشروعة. وفي مواجهة المقاومة
التي تبديها البرجوازية للحيلولة دون تعطيل النظام القانوني العتيق القائم
على الملكية الخاصة، فإن الحاجة تقتضي فرض ً دكتاتورية البروليتاريا ً.
إعادة الإنتاج الموسع: يحلل كتاب الرأسمال شروط " إعادة الإنتاج الموسع " للنظام الاقتصادي
الرأسمالي، أي تعقيداته، وأزماته الدورية، التي عوض أن تهدد النظام، تساهم
بدلا من ذلك، في بعثه من جديد، وفي إعادة إنتاج نفس التناقضات على مستوى
أوسع. لم يتسن لماركس إتمام مشروعه لإكمال نظريته بدراسة عن التجارة
الدولية و" السوق العالمية ". لقد خلّف عملا رائدا في معالجته للاقتصاد
الرأسمالي، ممثلا في النموذج الإنجليزي، في بعده الامبريالي. إذ يبدو هذا "
النهب الاستعماري" كتأبيد لعنف مغرق في القدم، يضمن للرأسمالية الأوربية
"تراكمها البدئي". ليست الرأسمالية فقط هي المجتمع العمالي (مجتمع
المأجورين ) الأوربي، بل هي أيضا " الاستعباد الحديث " وليد الاستعمار من
حيث هو نظام جشع إلى حد كبير. ساند ماركس الانتفاضات المضادة للاستعمار،
كما يشهد على ذلك المقال اللاذع الذي نشره في 16 شتنبر 1857 بيومية New
York daily tribunal الذي يشيد فيه بالفرسان الهنود الذين كانوا في خدمة
الجيوش الأوربية. لكن الثورة، بالنسبة لماركس، لن يتسنى لها الانتشار على
المستوى العالمي إلا انطلاقا من عولمة النظام الرأسمالي على مجموع الكرة
الأرضية. بهذا المعنى يكون ماركس أوّل مفكّر للعولمة.
الاشتراكية والشيوعية: تكمن، باختصار، شروط قيام ثورة اجتماعية ما، في النزوع نحو مركزة
الرأسمال، وهو ما يساهم في ظهور الطبقة العاملة، وفي انبثاق مبادئ التنظيم
المحكم. لا يشكل هذا، في نظر ماركس، إلا المرحلة الأولى، والتي دأبنا على
تسميتها بـ"الاشتراكية". الحال أنه حتى بعد القضاء على الرأسمالية، يبقى مع
ذلك الفصل بين "العمل اليدوي" و"العمل الذهني" مهيمنا، تأطيرا و تنفيذا.
تفترض "الشيوعية" بصريح العبارة التحرر أيضا من التراتبية القائمة على
الكفاءات. فقد يـأتي يوم تغدو فيه كفاءاتنا الجماعية، في مستوى حاجياتنا
الأساسية. آنذاك يمكن للإنسانية أن تكتب على أعلامها الشعار التالي: " من
كل حسب كفاءاته، إلى كل حسب حاجاته"، حينئذ فقط تتفتح ثقافة قمينة بالوضع
الإنساني.