كنتُ في السادسة، والعالم بالنسبة لي لا يتجاوز أمتاراً ستة هي عرض شارعنا
الذي احتضن لعبنا الأوّل. في الأيام الأُولى على مقاعد الصفّ الأوّل
الابتدائي، ورهبة المدرسة، العالم الجديد، تتضاءل ساعة بعد ساعة، كانت
المعلّمة تتكلّم عن الموسيقى. لا أعرف كيف ورّطتُ نفسي.. ما أذكره أنّ
المعلمة كانت تتكلّم عن آلة الأكرديون، ولما كنّا في الصفّ حيث لا توجد
أيّة آلة موسيقية، فضلاً عن أنّي أنا بالذات لم أتوقّع أن يوجد في المدرسة
شيءٌ سوى الدفاتر والكتب والأقلام والعصيّ أيضاً! فلم يكن من ضير في أن
أكذب أو أتجمّل قليلاً.. لذلك كنتُ الوحيد الذي رفع يده حين سألتنا المعلمة
فيما إذا كان بيننا من يجيد العزف! ظهر الإعجاب على وجهها، والغيرة على
وجوه زملائي، وظهرت الصدمة على وجهي لأنّها أرسلتْ فرّاش المدرسة لإحضار
الأكرديون!! بعد قليل كان المشهد رهيباً لا أنساه. كنتُ محزّماً به أنقر
على مدرجه كالدجاجة، والسخرية والضحك يسريان في الصفّ.. بقيتُ في المدرسة
سنين والمعلمة بشكل طبيعيّ تقول قم يا مسيلمة وامسح السبورة، تعال يا
مسيلمة! اذهب يا مسيلمة…
هذه كانت ذكرى كذبتي الأولى، وربما تجمّلي الأوّل، التي أذكر. ما نجم عنها
من تقريع مديد، له صبغة العقاب الاجتماعي، لم يقطع صلتي بالكذب الذي أخذت
مناطقه المحرّمة تتحدّد، دون أن أنتبه، ما وراء قواعد التربية البيتية.. لا
تتسبّب بالأذى لأحد.. لا تتفوّه بما هو دالّ على وضاعة.. أحسن القول
فأفئدة الناس وعقولهم لا تُطرق إلا من أسماعها.. ضمن تلك القواعد كان الطفل
الذي يكبر في داخلي يقترب من تأويله الخاصّ لمقولة إنّ الكذب ملح الرجال
وإنه لبّ لباب المرأة.. لكنّ الأمر تجاوز هذا المستوى..
يكاد أكابر النقاد والأدباء يجمعون على أنّ الأدب هو خبر ليس صادقاً وليس
كاذباً، أمّا أنا فمؤمن حتى المنتهى بأنّه جميل نبيل رائع، لكن في النهاية
هو كذب!
قبل سنوات سبع أو ثمان، اقترفتُ كذبة أثّرت على مجرى حياتي.. فمع امتعاضي
من رداءة ما يُكتب ويُنشر ويُلقى تحت مسمّى القصة القصيرة، ورغم أنّي
وقتذاك كنتُ أرى نفسي أبعد ما أكون عن الأدب وفنونه، وبصراحة أكثر لم أكنْ
وقتها أُكنُّ للأدب النظرة التقديرية نفسها التي أُكنّها للفكر، فقد كذبتُ
أوّلاً بأنّي أديب حقيقي حتى أقنعتُ نفسي، ثم ثانياً حين كتبتُ قصّتي
الأولى وحشرتُ فيها شخصيات وهمية، ولو شابهت الواقعية، وأشقيتُها بأحداث
درامية مزعومة وإن بدت منطقية..
المفارقة أنّ القصة قد حصلت يومها على جائزة إحدى المسابقات، مع بضعة قصص أخرى، بينما فشلت مئات بعضها لأدباء مخضرمين..
بعد سنوات قليلة كنتُ قد حصلتُ على أغلب الجوائز، وطبع لي الاتحاد كتاباً هو مجموعتي القصصية الأولى..!
هناك ملايين من الناس يؤمنون، من حيث يدرون أو لا يدرون، أنّ العالم كذبة
كبيرة.. حكماء الهنود البرهمانيون، المتقدّمون منهم والمتأخّرون، أمثال
راما كريشنا، يؤمنون أن الوجود المادي والروحي بكل ما فيه من أحداث ووقائع
وكائنات واعية أو غير واعية منظورة أو غير منظورة، ليس سوى حلم..! نعم! حلم
يشهده الإله براهما..! لذلك يرون أن الوجود شقاء لأنه عبث لا خلاص منه
بغير النيرفانا أي الانعتاق والإفلات من دورات الوجود الزائف بالزهد
بالدنيا حتى الموت.. إنّ إيراد كلمة حلم كوصف للوجود، في هذا السياق، يجعله
مرادفاً للوهم، بل مرادفاً للكذب..
حتى في بعض أديان الشرق القديم، حضر الوهم الكاذب كسبب للوجود، فالزروانية
ترى أن إله النور شكّ وتوهّم، فتولّد عن ذلك عالم لا ينتهي هو عالم
الشيطان..
وماذا عن الفلسفة؟!.. اليوم وبعد خمسة وعشرين قرناً لا يزال صوت غورغياس
اليوناني، شيخ الفلاسفة السوفسطائين، يهدر: (لا شيء موجود، فإن كان موجوداً
فهو غير قابل للمعرفة، فإن كان قابلاً لها فإنّ معرفته هذه غير قابلة
للنقل للآخرين..). العالم والمعرفة والتعليم إذن بحسبه ليست سوى أكاذيب
وأوهام! ولا يُظنّ أنه صوت وحيد.. فكلمة لا أدري صارت عند سقراط مذهباً
يبطن كثيراً من الشك في معطيات الحواس ومنجزات العقل. لا أدري! إحساس
بالكذب المبثوث في كلّ الكميات والكيفيات، تردّ عليه نرجسية أثينا بكأس
السمّ. يتجرّعه سقراط بشوق، كأنه شوق إلى الصدق الوحيد في الكون..
صدق الموت!! ويرحل فيلقي تلميذه أفلاطون محاوراته. في أشهرها يتكلم عن
مجموعة من الناس يجلسون مقيّدين في كهف، ظهورهم إلى مدخله الذي لا يستطيعون
الالتفات إليه، وجوههم إلى الجدار حيث يشهدون عليه ظلال الخارج، الشمس
محركة الأوقات والريح اللاعبة بالشجر والحجر، وكل الكائنات، بل يشهدون
الكون كله لكن في صور الظلال المنعكسة أمامهم على الجدار.. ويصرّ أفلاطون
على أن ما يرتسم على الجدار هو عالمنا الكاذب، أما المشاهدون المقيّدون فهم
نحن! نحن معشر البشر!!
إحساس بحضور الكذب لم ينقطع يوماً، وإن اختلف المصطلح واللفظ. فمن يمكنه
أن يضع حدوداً صارمة فاصلة بين مفاهيم الوهم، المجهول، الغيب، الخطأ،
الخداع..؟! من يستطيع أن يمنع التقائها الدلالي في النهاية مع الكذب؟!!
عمانويل كانط، أبو الفلسفة الحديثة، اعتبر الوجود بشقّيه ليس سوى جملة
التصورات والمفاهيم التي ينجزها الوعي البشري معتمداً على معطيات الحواس..
أما وجود الأشياء والكائنات والظواهر في حدّ ذاتها، بشكل مستقل عن الوعي
البشري، فهو الميتافيزيقا.. الغيب الذي لا سبيل لنا إلى إدراكه! ومن هذه
النقطة ستتبرعم مذاهب ونحل، تستسلم منها الشكلانية والبنيوية لاستحالة
إدراك الوجود إلا من خلال صوره التي يشكلها الوعي الذي لا يُدرك بدوره إلا
من خلال الفونيم أو السيمياء، الصوت أو العلامة، وكل إدراك آخر هو بلوغ لما
يغلب عليه الخطأ والوهم، أو قل الكذب كما يسميه المناطقة في دراسة أية
معلومة، فيصنفونها إلى قضايا صادقة أو كاذبة..!
حتى الفلسفة الإسلامية لم تعدم اتجاهات تصرح أو تلمح بالشك في حقيقة
العالم. شكوك الغزالي الأولى في صدق الوجود، نظريات الوحدة والاتحاد التي
لا تقوم إلا على افتراض غير معلن، غير واعٍ، افتراض كذبة وجود الذات وكذبة
وجود الوجود.. وماذا كانت حكاية الدجالين الثلاثة، المنسوبة ظناً إلى أبي
بكر الرازي، التي امتدت من الشرق إلى الغرب، واستمرت حتى مطالع العصور
الحديثة؟! لم يكن جوهرها سوى فكرة كالقذيفة تدمر مباني الأنطولوجيات
الوثوقية..
لقد صرّح باسكال منذ منتصف القرن السابع عشر أن (الحقيقة قبل جبال
البيرينيه هي ليست كذلك بعدها). وكانت باريس وعموم دنيا الغرب تنحو نحو
الحداثة الشاملة.. الحقيقة إذن إن ثبتت فهي مرهونة بالمكان والزمان، معلّقة
على الظرفية.. الحقيقة قبل هي غيرها بعد.. فما هو صدق هنا، هو كذب هناك،
وما هو يقين الآن قد يكون في الماضي أو يصبح في المستقبل وهماً خادعاً..
هذه بعض روح ستتسرب لتتقمص العصر وأهله. وسوف تجتاح أول ما تجتاح أفئدة
العلماء. وكالعادة لا بد للنهج الجديد من ضحايا. وباريس هذه المرة ستعدّ
العدة لصدق الموت.. هكذا تتبدى تفاهة العالم مجدداً حين تلتئم محكمة الثورة
الفرنسية لتقرر أن الجمهورية بحاجة إلى عدالة لا إلى علماء.. وترسل
لافوازييه إلى المقصلة..! هذا كذب من البشاعة حدّ أني لا أستطيع تأمله..
بعد أكثر من قرن سيصبح للعلم وجهٌ لا يقطع بيقين ولا يستخفّ باحتمال. لقد
سار آينشتاين بالخطوات الحاسمة. كل شيء نسبيّ. المكان، الزمان، الحركة،
الوعي والحواس..! إن ما يبدو أنه حقيقة صادقة هو كذلك لمن يبدو له في إطار
ظروف جملته المرجعية، لكنه وهم كاذب لملاحظ آخر ضمن جملة مرجعية أخرى. إن
من يقف على قمة جبل ستبدو له الأشياء ساكنة، حتى القطار السريع يبدو له من
البعيد خيطاً قاتماً يتحرك بسرعة السلحفاة، والأمر بالعكس لمن على متن
القطار..! لو قام كل منهما بحساب الزمن الذي يحتاجه ضوء المصباح في مؤخّرة
القطار لقطع المسافة إلى مقدّمته لانتهى الأوّل، إنّ أحسن العمل، إلى نتائج
صحيحة صادقة، لكنها خاطئة كاذبة بالنسبة إلى نتائج الثاني الصحيحة
والخاطئة بدورها بالنسبة للأول، رغم أنهما يلتزمان الدقّة الفائقة نفسها،
يستخدمان الأجهزة نفسها، المنهج نفسه، ووعيهما واحد… إنها النسبية.. عوالم
وأكوان عملاقة تقابلها عوالم وأكوان لا متناهية في الصغر هي موضوع
الكوانتية التي كان من أبرز ممثليها الدانماركي بوهر. إن الافتراض، وهو
علمي على كل حال، بأنّ من المتعذر التنبؤ بحركة الجسيمات المادون ذرية، وهو
بالتالي تعذر الحصول على نتائج أو توقعات علمية مطلقة الدقة، سيؤدي آليا
إلى الاعتقاد بوجود مجموعة كبيرة من الاحتمالات، احتمال واحد يتحقق فيغدو
حقيقياً، بينما الباقية كاذبة.. عند هذه النقطة توقف آينشتاين الذي ظل يرى
أن العالم نسبي لكنه منظَّم على مستوى من اليقين يسمح بقدر ملحوظ من
الحتمية، بينما تابع بوهر إلى الأمام بالاحتمالات ليصل إلى اللايقين
والاحتمالية.. وفي كلا النظريتين صار الوجود في حقيقته مجموعة من
المعادلات، صدق إحداها مرهون بالظرفية الزمكانية، بل حتى بالمجرب الذي
يستخدمها، لتُطرح فكرة التأثير المتبادل بين الوعي والموضوع..
أعظم سجالات القرن العشرين كانت تلك التي جرت بينهما. جابه كل منهما الآخر
بالفيزياء والرياضيات. وحين فشل كل منهما في إقناع الآخر، أطلق آينشتاين
في وجه بوهر صرخة الاحتجاج الشهيرة:
(ماذا يفعل الله الطيب إذن؟! أيلعب النرد مع الكون..؟!!).
قد يرجمني أهل اللغة بالشطط والخلط. قد يقولون إني رادفت ما لا يترادف،
وقاربت بين ما لا يتقارب. قد يتهمني خبراء اللسانيات بقلة التبصّر والخطل
إذ أفتح الحقول الدلالية بعضها على بعض.. فهل يستطيع أي منهم القطع
والبرهنة على استقلالية اللغة، على قيام نظامها بشكل معزول ومستغنٍ عن
جدلية الوعي والوجود..؟!
بالنسبة لي تبدو علاقة اللغة مع الفكر، كعلاقة الوجه بالجسد. لا يتميّز
الأول عن الثاني إنما يحمل كل خواصه وأعراضه، حتى ليبدو مرآة تعكس صورته..
اللغة ليست حيادية! ليست بريئة أبداً..!
أنا اليوم أحتفل بعيد الكذب، ولطالما انتابني إحساس بأني مجرد كذبة صغيرة
في كذبة كبيرة تبدو لامتناهية. مؤخراً صرتُ كلما فتحتُ كتاباً في التاريخ
أتوهّم أن شيخاً طاعناً يردد في وجهي .. (كل شيء يبدأ بكذبة متحوّلة. كذبة
فأفكار فبرامج فتنظيمات فثورات أو فتن فدول… ولا عبرة هنا للنوايا والمقاصد
فهذا ما يهمّ منظري الأخلاق. كل شيء في بدايته أكذوبة فإن نجح في تحولاته
صار حقيقة طيبة، وإن فشل صار كذبة خبيثة..!).
فاتني أن أقول إنه بعد كذبتي الطفولية الأولى بسنوات طويلة، أصبحتُ أُحسن
العزف على الأكرديون وآلات أخرى.. ترى! لولا كذبتي الأولى، لولا كل كذباتي
الأخرى، هل كنتُ سأكون الشخص نفسه الذي أنا هو الآن..؟!!