"أريد أن أَكون ذاتي.. فقط لا
غير" هذا ما قالته إحدى صديقاتي وهي في غمرة إقبالها على الحياة. تتابع
صديقتي باستياء: "وهذا ما يريده جميع من حولي من أصدقاء لكننا لا نعرف كيف،
دائماً نقع في الأخطاء ونكررها بأشكال مختلفة، ودائما هناك من يصف حالتنا
كشباب ويسرف في "تحليل" شخصياتنا لكن لا أحد يخبرنا ماذا نفعل، أو يساعدنا
كيف نسلك الطرق الصحيحة حقاً لنستطيع تحقيق ذواتنا بدون أحكام مسبقة
وإيديولوجيات سخيفة تملي علينا طريقتنا في التفكير والسلوك وحتى طريقة
كلامنا ولباسنا بل وذوقنا الموسيقي و…الخ، الأسوأ من هذا وذاك أنّ الكثيرين
لا يكتفون فقط بأن يكونوا منظّرين فوق رؤوسنا بل يمنعوننا بكافة الوسائل
من فعل ما نريد بسيل حججٍ لا ينضب من بحور العادات والتقاليد والعيب
والحرام والحلال والذي يجوز ولا يجوز….".
وإن طال حديث صديقتي فهو لسان حال كثيرٍ من الشباب الذين يعيشون ظروفاً
نفسية واجتماعية مشابهة أدت إلى تشوّه مفهوم الذات لدى الشباب وغياب شكله
الواعي والمطلوب. في هذا المقال سنستعين ببعض الأفكار العلمية، ليس بغرض
"التنظير فوق الرؤوس" على حد تعبير صديقتي العزيزة، وإنما للوقوف على
معطيات علمية بسيطة قد تساعد الشباب الساعي لبناء ذاتٍ ايجابية لديه بطريقة
عقلانية واعية.
من الضروري أن ينطلق الإنسان بشكل علمي صحيح ليبني بناء متماسكاً، وكما
تقول القاعدة المنطقية: المقدمات الصحيحة تؤدي إلى نتائج صحيحة. لذا يجب
لبناء ذاتٍ إيجابية فاعلة أن ندرك أولاً معنى مفهوم الذات وأبعاده.
يُعرّف مفهوم الذات بأنه وصفٌ يطلقه الفرد على إدراكه لنفسه، أي انطباعاته
عن جسده وشخصيته وسماتها، وما يقوم به من أدوار في حياته، وكيف يعبر عن
معتقداته ومشاعره ورغباته، وحقه في أن يكون حرا ومسؤولاً. فالذات تشمل كل
ما تتضمّنه كلمات (أنا) (لي) (نفسي)، وتمثل في الإنسان جوهره وخلاصة تجربته
ككائن بشري مدركٍ لأناه.
ومنذ نعومة أظفاره في مرحلة الرضاعة يبدأ الطفل تدريجيا بمحاولة إثبات
استقلاليته عن أمه الملتصق بها، فيصبح كل شيء بمقدوره فعله – لوحدي..
لحالي.. أنا..- حسب تعبيرات الأطفال الكثيرة. تتابع هذه الاستقلالية مسارها
النمائي لتتخذ طابعاً حاداً في المراهقة ولتنحو في سنّ الشباب منحى الثبات
النسبي، ومع نهاية هذه المرحلة يصل الفرد ليكون قد ساهم شخصياً إلى جانب
كثير من العوامل المختلفة في بناء ذاته من جهة، وإدراكها بشكلها الحقيقي
بعيداً عن التشويه من جهة أخرى.
يقوم مفهوم الذات عند (فيتس)(Fitts) على وجود عدة مكونات للذات هي:
وصف الذات: وتعني وصف الفرد لنفسه كما يراها هو.
الذات السلوكية: ويدل على مدى تقبل الفرد لسلوكه.
الذات الجسمية: وهي رأي الفرد في جسمه وحالته الصحية والمهارات التي يتقنها.
الذات المعنوية الخلقية: وتشمل علاقة الفرد مع الأخلاق الاجتماعية السائدة.
الذات الشخصية: وتبين شعور الفرد بقيمته الشخصية وتقييمه لها باعتبارها جزءاً من جسمه.
الذات الأسرية: علاقة الفرد مع أسرته وطريقة إدراكه لذاته نتيجة لتعامله مع أفراد أسرته.
الذات الإجمالية: إدراك الفرد لذاته من خلال علاقته بالآخر.
هذه المكونات على اختلافها قد يعي الفرد جزءاً منها أو كلها، وقد يقبل
البعض منها ويرفض بعضها الأخر. الأهم من هذا وذاك أن يدرك دوره في كيفية
صقلها كما يرغب هو ويختار لنفسه، لنصل إلى إنسان يقبل ذاته ويتصالح معها.
وذلك لا يكون ما لم يعمد المرء إلى النظر في مرآة نفسه ويحدثها،
فـ(المونولوج) الداخلي والحديث مع الذات أمر لا يقل أهمية عن الحديث إلى
طبيب نفسي، فكل إنسان هو طبيب روحه إن شاء لأنه الأعرف بخفايا نفسه.
والبحث عن معنى وجوده سؤال يحير كل إنسان، وما يريده المرء قد لا يستطيع
تحديده إلا بعد أن يفهم قدراته ومهاراته التي يمتلكها، وحقيقة ميوله وأين
يستطيع أن يبدع ويتميز، وكيف يدرك تفرّده ويؤمن به، ويقبل بفخر ما يمتلكه
ويطوره فلا يحمّل نفسه أكثر من طاقتها في اختياره لمجال قد لا يصلح له، وهو
الذي يستطيع أن يكون خلاقاً ومبدعاً في مجال آخر لا يوليه الآن الأهمية
والتقدير اللازمين نتيجة الاعتقادات الخاطئة التي يحملها أو التي يكرسها
المجتمع في ذهنه. فتصحيح المعتقدات والأحكام المسبقة على الأمور حول
الإنسان تسهم في تعديل سلوكه وتقوّم مساره بما يريد ويتلاءم مع رغباته
واحتياجاته، لا كما يريد المجتمع من حوله.
بالتالي تتغير النظرة لكثير من الأمور التي تواجه الفرد، سواء في نظرته
لنفسه وطريقته في التعامل معها أو في نظرته للآخرين وطريقة التواصل معهم،
وحتى نظرته للحياة ومعطياتها وتعديل الطريقة في السلوك والأسلوب يؤثر
ويتأثر في العواطف والمشاعر على المستوى النفسي والاجتماعي أيضاً فكلما
كانت المشاعر أكثر وضوحاً وتوازناً كلما كانت الأفعال وردود الأفعال أكثر
منطقية وعقلانية، وكلما كانت الظروف والعوامل المترافقة مع عملية البناء
هذه إيجابية كلما حصدنا نتائج متميزة في أفراد يعون ذواتهم ويقدرونها
عالياً، بدون أمراض نفسية أو عقد مرضية.
ولعلّ أسوأ ما يعاني منه شبابنا تدني قيمة الذات لديهم وما يفرزه ذلك من
إشكاليات تسهم في زيادة أعباء المجتمع والأفراد نتيجة للمحاولات الرامية
لتغطية عقد النقص وإخفاء العيوب، عدا عن الإدعاءات الكاذبة على الصعيد
الشخصي والاجتماعي وصولاً إلى المهني، وما إلى ذلك من مدارات مشوهة حولنا
لكثرة ما يعطى الأشخاص أكثر أو أقل من قدرهم. يُضاف لكلّ ذلك قلة حيلة
الكثير من الأهل والأسر. كما أنّنا لا نجد على أرض الواقع هيئات حقيقة تسهم
في مساعدة الشباب على تحقيق الذات الفاعلة، فالمدارس قوالب جامدة لتصدير
عقول الحفظ والتلقين، والجامعات حدّث ولا حرج، قتلٌ للإبداع والتميز. أما
بقية ما قد يذكر من منظمات هنا وهناك فهي إما أنها لا تسير على خطى علمية
أو أنّ فئاتها المستهدفة ضيقة ومحدودة وتأثيرها لا يكاد يذكر. والمراكز
التي تسعى بشكل خاص وفردي للمساعدة في تقديم الدورات المختصة، كمراكز
البرمجة اللغوية العصبية أو فنون التواصل والتعامل مع الذات والآخرين وغير
ذلك، ما هي إلا برامج تسويقية، وإن امتلكت بعض منها المؤهلات العلمية فلا
يستطيع أغلب الشباب امتلاك المال الكافي للانضمام لبرامجها ذات الأسعار
العالية.
بالتأكيد هناك نماذج جميلة جداً لأفراد واعين أنفسهم وذواتهم ويقدّرونها
حق قدرها، ونحن نسعى لنكون من هذه الفئة ونرغب في أن تكون هي النموذج العام
وليس الاستثناء! لكن لن نكون متفائلين ونتناسى ما تنتجه مجتمعاتنا من ذوات
متضخّمة أحياناً ومتقزّمة أحيانا أخرى.
على عاتق من تقع مسؤولية دعم الشباب بشكل حقيقي؟ سؤالٌ نعرف جوابه طبعاً
إن تمعّنا النظر بمن سيستفيد من خلق جيل متميز ومبدع يملك ذاتاً إيجابية
فاعلة وخلاقة!
نسيت أن أخبركم أن المضحك المبكي في وضع صديقتي أنها عضوة في إحدى
المنظمات السورية غير الحكومية، والتي ـ بحسب جدولها المعلن ـ تعنى بالشباب
والأطفال و"تساهم في بناء شخصياتهم وقدراتهم" وغيرها من المصطلحات العظيمة
والأهداف الكبيرة كبر هذا الوطن (المعطاء) . . ولكن ؟