أستعمل لفظ النهضة مقابل مصطلح
الرونيسانس Renaissance رغم عدم دقّة الترجمة، وأعني به تلك الحركة
الثقافية والفنّية التي بدأت مع بترارك الإيطالي (1304-1374) باعتبارها
عودة إلى ثقافة قدماء اليونان والرومان وفنونهم، وتطوّرت مع إيراسم
الهولندي (1466-1536) وآخرين، كحركة فكرية تضع الإنسان في مركز التأمّل
والسلوك.
أمّا مناسبة هذا الحديث فهي تخصيص مجلة النوفيل أوبسرفاتور الفرنسية
(عدد 23ديسمبر2009 -6يناير 2010) لملفّ كبير حول موضوع النهضة أو
الرونيسانس.
والواقع أنّ الملفّ في حدّ ذاته هو مفيد للقارئ الأوروبيّ العامّ، وهذا
هو هدف المجلة بالتأكيد، ولكنّه يثير بالنسبة للباحث المتتبع – من خارج
أوروبا- أسئلة دقيقة حول الخلفية الفكرية العامّة التي يثار من داخلها أو
بالاستناد إليها موضوع النهضة، ومدى التحرّر ممّا يدعى بالمركزية الذاتية
الأوروبية L’européocentrisme في تناول تاريخ العالم الحديث والمعاصر.
ومن باب الموضوعية أقول إنّ هذا الإشكال لم يغب تماما عن ملفّ المجلة
الفرنسية "اليسارية"، ولكنه في الواقع حضر حضورا عابرا وباهتا في المقال
التقديميّ المعنون بـ"عندما أعادت أوروبا اختراع العالم أو اكتشافه"، وفي
الحوار الهامّ مع باحث مرموق أشرف على إنجاز كتاب ضخم بعنوان "تاريخ العالم
في القرن الخامس عشر". ثمّ هناك الإشارة أو "الاستنتاج" العامّ بأنّ
العولمة الراهنة تعلن - بمعنى من المعاني- عن نهاية نهضة بعينها انخرط فيها
العالم منذ القرن الخامس عشر، وإمكانية الإعلان عن بداية عصر نهضة عالمية
جديد…
وهذا بالضبط ما أودّ التوقّف عنده في هذا المقال، والتدقيق فيه حسب ما
يسمح المقام، مركّزا على أطروحة أساسية: الزعم بأنّ النهضة في أوروبا قامت
كنوع من الاستثناء الأوروبي الفذّ ليس له سابق ولا ممهّد، بل إنها تمثّل في
جوهرها قطيعة مع عصر وسيط (أوروبيا وعالميا) ينعت عموما بالظلامي.
***في البداية، لا بدّ من التوقّف عند مصطلح العصر الوسيط.
فالشائع هو أنّ هذا العصر يمتدّ في أوروبا – تخصيصا- من القرن الخامس
الميلادي ( أي سقوط الإمبراطورية الرومانية وتثبيت المسيحية)، إلى القرن
الخامس عشر( أي ما يسمّى ببداية النهضة الأوروبية أو الرونيسانس).
والشائع أكثر أنّ هذا العصر الوسيط يرادف ألف عام من الانحطاط التاريخي
والظلامية الفكرية. والواقع أنّ هذه صورة غير دقيقة تماما في أوروبا
ذاتها (حتى لا نتكلّم عن الصين والعالم الإسلامي آنذاك)، وهي قد تبدّلت
رأسا على عقب مع تقدّم الدراسات الجديدة والمختصة حول العصر الوسيط ذاتها.
وهذا يحيلنا أوّلا على كتاب الأمريكي شارلز هومير هاسكينز : نهضة القرن
الثاني عشر المنشور سنة 1927 والذي يمكن اعتباره أوّل من فتح الطريق نحو
إعادة النظر في التاريخ الوسيط وتجاوز النظرة الاختزالية الإقصائية لمفكّري
النهضة الأوروبية الكلاسيكية. نقرأ في هذا الكتاب الهامّ: "كان القرن
الثاني عشر في أوروبا حيويا ونشيطا في أكثر من ميدان. إضافة إلى الحروب
الصليبية ونموّ المدن وبروز الدول الغربية البيروقراطية الأولى، ففي هذا
القرن تألقّ الفنّ الرومانيّ وبدأ الفنّ الغوطي وبرزت الآداب العامية
وتجددت الكلاسيكيات اللاتينية والشعر اللاتيني والقانون الروماني واكتشفت
العلوم اليونانية والفلسفية وإغناء العرب لها كما ظهرت الجامعات الأوروبية
الأولى. لقد ترك القرن الثاني عشر أثره على التربية والفلسفة السكولائية
والأنظمة التشريعية الأوروبية والمعمار والنحت والدراما الدينية والشعر
اللاتيني والعامي". (ترجمة النص عربيا منقولة عن كتاب محمد عابد الجابري:
المثقفون في الحضارة العربية، ص26)
ثانيا: في سنة 1957 سينشر جاك لوغوف Jacques le Goff- وهو بمعنى من المعاني
سليل المدرسة التاريخية الفرنسية الشهيرة المعروفة بمدرسة الحوليات Les
annales- كتابه المتميّز : المثقفون في العصر الوسيط.Les intellectuels au
moyen age
وبالطبع، فالحديث عن مثقفين في العصر الوسيط يبدو –للوهلة الأولى-
مستفزّا وصادما لعموم المهتمّين بتاريخ وسوسيولوجيا الثقافة والمثقفين. إذ
المثقّف كواقعة ومفهوم هو حديث الظهور، باعتباره يرتبط تحديدا بحادث اتّهام
الضابط الفرنسيّ اليهوديّ دريفوس باطلا بالخيانة القومية ومحاكمته غير
العادلة ووقوف علماء وكتّاب إلى جانبه نشروا في جريدة لورور بتاريخ 14يناير
1898 بيانا بعنوان "بيان المثقفين" le manifeste des intellectuels يعتبر
"بيان" ميلاد المثقف الحديث. لكنّ جاك لوغوف يتجاوز في الواقع هذه
التحديدات البنيوية ويتحدّث عن المثقّف l’intellectuel من حيث هو أساسا
وحصرا الفرد المشتغل بالعمل الذهني/العقلي والمتعيّش منه، متميّزا في هذا
عن رجل الدين le clerc ورجل الدولة والإدارة (الموظف) أو رجل المال
والتجارة (البنكيّ والتاجر)… وعليه، يتقدّم المثقفون في العصر الوسيط
باعتبارهم أولئك المعلمين والأساتذة والأدباء والفنانين المرتبط ظهورهم
بنهضة المدن الأوروبية ابتداء من القرن الثاني عشر، وهم بالتالي يشكلون
كمجموعة - سرعان ما وعت نفسها باعتبارها كذلك- أساس ما يسمّيه جاك لوغوف-
مستحضرا هنا كتاب هاسكنز- "نهضة القرن الثاني عشر" في أوروبا.
ويزيد جاك لوغوف مدقّقا ليتكلّم في كتابه الرائد عن نهضات أوروبية ثلاث:
نهضة
القرنين الثامن/التاسع الكارولولينية (نسبة إلى الإمبراطور
الفرنسي/الألماني شارلمان) المنصبّة تحديدا على تحسين شكل الكتابة والخطّ
وأحوال التعليم عامّة.
نهضة القرن الثاني عشر الناتجة عن التأثير الحضاريّ العربيّ الإسلاميّ عموما والتأثير الفلسفي خصوصا في أوروبا.
نهضة القرن الخامس عشر/السادس عشر المشهورة بالرونيسانس.
النهضة الأولى محدودة بل ثمّة خلاف بين المؤرخين في اعتبارها كذلك.
النهضة الثالثة تتجاوز نطاق اختصاص الباحث لوغوف، لكنه يحسم أمرا أساسيا
بصددها لمّا يرفض مبدأ القطيعة الجذرية ويؤكّد واقعة الانعطاف المتبدّل.
وتبقى النهضة الثانية- نهضة القرن الثاني عشر وامتدادها داخل القرن
الثالث عشر هي ما يدرسه جاك لوغوف في الفصلين الأوّل والثاني من كتابه
مبرزا باقتدار منهجيّ صارم وتجرّد علميّ فذ واقعتين حاسمتين:
بروز
"المثقفين" كفئة سوسيو- مهنية متميّزة، والدور الرياديّ فكريا وتعليميا
وأدبيا وفنيا الذي لعبته في النهضة الأوروبية الوسيطية هذه، عبر مؤسسات
تعليمية بعينها (مدرسة شارتر، جامعات باريس وأكسفورد وبولونيا)، ومن خلال
شخصيات فذّة (ألبير الكبير، أبيلار، طوماس الأكويني، سيجير دي برابان…)
الحضور الفلسفيّ العربيّ الإسلاميّ عامّة والرشديّ خاصة في قلب هذه النهضة الأوروبية المبكّرة.
والفصل الثالث والأخير- تحت عنوان: من الجامعي إلى الإنسانوي- يخصّصه جاك لوغوف لمآل نهضة القرن الثاني عشر عبر مسارين:
مسار تحول عموم المثقفين الوسيطيين أنفسهم إلى فئة مندمجة بالكامل في بنية النظام القائم.
-تحول الفلسفة الوسيطية ذاتها - التي بدأت تاريخية تقدمية مع مدرسة
شارتر وعقلانية جدلية مع ألبير الكبير وتوفيقية مسيحية/رشدية مع توماس
الأكويني ورشدية خالصة مع سيجير دي برابان- إلى سكولائية فارغة ولا عقلانية
مرتدّة.
والنتيجة هي بروز القرنين الرابع عشر والخامس عشر باعتبارهما فترة تراجع
وسقوط حقيقيين…ضدّها تحديدا ستقوم النهضة الأوروبية المعروفة والمشهور
بالرونيسانس.
ثالثا: وفي نفس السياق، سينشر آلان دو ليبيرا Alain de liberaسنة
1991كتابا بعنوان التفكير في العصر الوسيط دعا فيه أساسا إلى ما يلي:
إعادة
النظر جذريا في تحديد مفهوم العصر الوسيط من حيث الزمن التاريخي ومن حيث
المضمون المعرفيّ: فالأمر لا يتعلّق هنا بزمن أوروبيّ واحد، ولكن بتركيب
أزمنة متداخلة: الزمن اليوناني الإغريقيّ، والزمن العربي الإسلاميّ، والزمن
اليهودي العبريّ، والزمن الأوروبي اللاتينيّ.
-إعادة الاعتبار للتراث العربي الإسلامي الذي ينعته دو ليبيرا
بـ"التراث المنسيّ" (عنوان الفصل الرابع من كتاب التفكير في العصر الوسيط)
ضمن مسار تكوّن الفكر الأوروبي خاصة والفكر الإنساني عامّة.
-أهمية ابن رشد والرشدية في بروز وتكوّن خطاب ثقافي أوروبي جديد حمل
لواءه بالخصوص "مثقفون فلاسفة" غير محترفين ولا مرتبطين بمؤسسات بعينها،
ولكنهم أفراد أحرار يمارسون التفلسف نمطَ حياةٍ وعقيدةً وسلوكًا، متوخّين
إدراك حكمة عقلية توفّر لهم لذّة فكرية سامية وسكينة عقلية كاملة. وهؤلاء
هم من ينعتون بـ"الرشديين اللاتين" الذين سيتحوّلون في القرنين الثالث عشر
والرابع عشر إلى "منار إشعاعي" يجلب ضدّهم غضب الكنيسة و"مثقّفيها"
فيتّهمون بـ"الهرطقة" و"الإلحاد"، وتصدر ضدّهم كـ"رشديين" قوانين المنع
و"التكفير".
والواقع أنّ القمع الكنسيّ وإن أفلح في ردع ما يسمّيه آلان ليبيرا
بـ"الرشدية الشعبية"، فهو لم يفلح في استئصال روحها "الثورية" (حالة
الرشديّ "المتطرّف" سيجير دي باربان Siger de barbant ) ونهجها
"العقلاني" (حالة طوماس الأكويني المعارض للرشدية على أساس منهجها العقلي
الجدلي ذاته). وهذا ما سيتطرّق إليه آلان ليبيرا في كتابه اللاحق: طوماس
الأكويني ضدّ ابن رشد، حيث سيحقّق ويقدّم النصّ الطوماوي الشهير "وحدة
العقل" الموضوع أصلا ضدّ ابن رشد والرشدية، ليختم بهذه الخلاصة الحاسمة: "
لقد استمرّ تأثير كتاب طوماس الأكويني "وحدة العقل" ولم تختف الرشدية.
بالعكس، ودون أن نتحدّث عن المراحل الثلاث التي مرّت بها في القرنين الثالث
عشر والرابع عشر، والحيوية العجيبة التي عرفتها في إيطاليا في القرنين
الخامس عشر والسادس عشر[التشديد منّي،ع.أ]، فهي استمرّت تقريبا أكثر نشاطا
في السنوات التالية لـ"تدخّل" طوماس الأكويني
***وعليه، فتاريخ العالم الحديث ليس هو تاريخ أوروبا متمركزة حول ذاتها.
بتعبير آخر : ثمّة مصير إنسانيّ "حديث" مشترك تفاعلت داخله حضارات قديمة
راسخة (الحضارة الصينية والحضارة الإسلامية بالخصوص)، وحضارة جديدة منبثقة
(الأوروبية). هذا أوّلا.
ثانيا: الانبثاق هنا يلزم فهمه بمعنى الصيرورة الممتدّة وليس بمعنى
الطفرة الخارقة. فصحيح أنّ أوروبا تميّزت وتفوّقت ابتداء من
"النهضة"/الرونيسانس وعلى امتداد "الثورات" الأوروبية المتلاحقة.
لكن هذا حدث باعتبار عاملين أساسيين:
1- فائض قيمة ثقافي ناتج عن تلاقح ثقافي مثلت أوروبا "الناهضة" بالضبط بؤرته المركزية.
2- فائض قيمة اقتصاديّ، ناتج عن حركية تجارية واقتصادية، ضخّ في شرايين أوروبا البرجوازية عنصر تطوّرها الفاعل والحيّ.
وعليه، يكون دخول "الأزمنة الحديثة" (التعبير للفيلسوف الألماني هيجل) علامة صيرورة تراكم جدلية ممتدّة لا عنصر قطيعة جذرية فجائية.
3- تمّت هذه الصيرورة الممتدة من داخل حدوث ما يصطلح عليه بـ"أزمة
الوعي الأوروبي" [ Hazard (Paul) : La crise de la conscience européenne
,1680-1715,Fayard,1961.
المرتبطة أساسا بالتغيرات الفكرية التي هزّت الصرح الفكريّ الأوروبيّ
المهيمن الذي بالرغم من الحركة الإنسية l’humanisme وحركة الإصلاح الديني
(اللوثرية تحديدا) فقد بقي ثابتا في عمومه، ولم يتزعزع ولم ينهر حقيقة إلا
تحت ضربات من يمكن نعتهم بالمفكّرين الأحرار (من ديكارت إلى سبينوزا، إلى
جون لوك ) أصحاب الفكر الحرّ الذي نشأ في سياق الاكتشافات العلمية
الجديدة، وبروز التفكير العلمي الجديد في منحاه العقلاني/التجريبي
وترسّخه..هؤلاء المفكّرون الأحرار الذين هم – بمعنى من المعاني - امتداد
للفئة "الرشدية" القليلة "المهمّشة" والمحاربة داخل مجموعة مثقّفي العصر
الوسيط الواسعة والمرتدة.
وعليه، فما برز تاريخيا (الفترة الممتدّة من 1453؛ سقوط القسطنطينية بيد
الأتراك العثمانيين، إلى 1517؛ انطلاق الحركة الإصلاحية اللوثرية)، وشاع
تحت اسم الحركة الإنسية، هو حركة فكرية وثقافية مميّزة للنهضة الأوروبية
"الثالثة" (الرونيسانس)، حيث احتلّ الإنسان –من حيث هو مفهوم وغاية- مركز
التفكير والسلوك، ممّا يعني من جهة، تحوّل الفرد الإنساني إلى بؤرة
الاهتمام العقلي والأخلاقي والجمالي بدل تجريدات اللاهوت "السكولائية"
المتأخّرة؛ ومن جهة أخرى، اعتبار كرامة وحرية الإنسان أوّلا وأخيرا.
ومن هنا – دون شك- الاتجاه نحو "إحياء" تراث "السلف" الإغريقي "الحيّ"،
واستلهامه، باعتباره نموذجا عقليا وأخلاقيا وجماليا يتمحور حول "الإنسان"
ويعتبره ويكرّمه.
وفي هذا الاتجاه سار بترارك الإيطالي - الذي يمكن اعتباره بمعنى من
المعاني، رائد الحركة الإنسية- ساعيا إلى جمع وتحقيق ونشر النصوص الإغريقية
الخالدة. كما ألّف هو نفسه نصه الشعريّ المشهور النشيد أو Canzoniere،
حيث سما بتجربة عشقه للجميلة لورا إلى مقام حبّ إنساني رفيع. وبالتالي،
تبرز نزعة بترارك الإنسانية والإنسية بمثابة نزوع نحو عالم مثاليّ يتعالى
على الحاضر القاصر والناقص.
ونفس الملاحظة تصدق في حال توماس مور (1478-1535)- الممثّل الرئيسيّ لما
يمكن دعوته بالإنسية الإنكليزية وصاحب الكتاب الشهير: يوطوبيا المتضمن
لجزأين: جزء أوّل يفضح فيه حالة البؤس الفظيع المترتّب عن التحولات
الاقتصادية والاجتماعية الجديدة في الريف الإنكليزي، والجزء الثاني يصف فيه
نمط العيش السعيد والحكم الرشيد في جزيرة خيالية توجد في لامكان (المعنى
الحرفي والإيتمولوجي لكلمة يوتوبيا u-topie)
وإضافة إلى النزوع العقليّ والأخلاقيّ والجماليّ نحو إحياء "مثال" اليونان
القدماء، ونزعة التعالي فوق الواقع/الحاضر، برزت نصوص إنسية أخرى تتوسل
السخرية وسيلة لنقد الواقع/الحاضر.
ويبرز هنا بدون جدال اسم إراسم Erasme الهولندي الذي كان يعتبر نفسه
مواطنا عالميا وخصما عنيدا للنفاق الاجتماعي والدجل الديني، فبادر إلى وضع
كتابا عنونه ساخرا بـ"مديح الحماقة" أهداه إلى صديقه توماس مور. وهذا
الكتاب الساخر هو –في حدود الشكل- استلهام لكتابات كاتب إغريقيّ ساخر عاش
في القرن الثاني الميلادي هو Lucien de Samosta من مؤلفاته "مديح الصلع"
و"مديح ذبابة"!
وعليه، فالإنسية (وحركة النهضة هذه عموما) تمثل –دون جدال- جانبا مهمّا
من جوانب انطلاق صيرورة انخراط أوروبا في "الأزمنة الحديثة"، ولكنّه في
التقويم التاريخيّ العامّ جانب محدود بمحدودية فكر وروح الحركة الإنسية
ذاتها: ويتجلى ذلك في واقعتين أساسيتين:
تنكّر
هذه الحركة السافر للإرث الرشدي اللاتينيّ وهي تنزع إلى "إحياء" التراث
اليوناني/الرومانيّ، بل ومعاداة بترارك صراحة لكلّ ما هو عربيّ مسلم فكرا
وإبداعا.
انغلاقها
داخل نزعة أفلاطونية/أفلوطينية ضيّقة ومرتدّة، ومجافاتها التامّة لمجرى
التفكير العلمي الجديد ( نزعتها الأدبية الفنية الإحيائية الخالصة).
***الخلاصة: لم تقم النهضة أو الرونيسانس في أوروبا كنوع من الاستثناء
الأوروبيّ الفذّ لا سابق لها ولا ممهّد. كما إنها لم تمثّل في جوهرها
قطيعة مع عصر وسيط (أوروبي وعالمي) يلزم نعته عموما بالظلامي. بل النهضة
الأوروبية (ونزعتها الإنسية تحديدا) تلزم مقاربتها ضمن سياق ما كان عليه
حال التفاعل الثقافي "العالمي" في القرن الخامس عشر (وهذا عنصر قوّة خارق)،
وواقع أوروبي مأزوم في ذاته: وهذا هو عنصر ضعف حركة النهضة التي بقيت
حبيسة مركزيتها الأوروبية عموما. ولكنّ النهضة أو الرونيسانس في أوروبا
كانت بمثابة إعلان تاريخيّ مثير بأنّ العالم –بقيادة أوروبا- سيدخل دورة
"حضارية" جديدة…طغى فيها ما هو مركزيّ أوروبيّ على المشترك الإنساني
العامّ. فهل ما يعيشه العالم راهنا من انبعاث وتجاذب "مركزيات" إثنية
وثقافية عدّة هو دليل على استشراء التنافر و"صراع الحضارات"، أم بالعكس هو
إعلان ملتبس عن انطلاق مسار نهضة جديدة ستنتصر فيه نزعة المشترك الإنساني
على ما سواه؟
السؤال مطروح للنقاش…