1-1 إنّه ليشقّ حقّا على واحد
مثلي أن يستغرق في كلام على السعادة، وهو منتسب إلى فضاء تاريخيّ وحضاريّ
قد يتحوّل فيه التّأصيل لخطاب نظريّ بشأن السّعادة، حتّى وإن كان لا يطلبها
وإنّما يختبرها فكريّا فقط، إلى ضرب من الرّفاه المقيت الذي لا يعكس إلاّ
اغترابا عن الواقع الفعليّ. وليس معنى ذلك أن نلوذ فلسفيّا بالنّظريّات
والأطروحات التي ما انفكّت تؤصّل لخطاب في التّشاؤم تعتبره تمثّلا صائبا
للقدر المحتوم للإنسان على نحو ما نلتقي بذلك لدى شوبنهاور. وإنْ كان ينبغي
ألاّ نغفل، بالمقابل، عمّا ينهض لفلسفته من دعم وإسناد. وبالفعل فإنّ
أندريه كونت- سبونفيل يقول في ثنايا كتابه "السعادة يأسا" ما يفيد أنّ
انتسابه إلى حضارة مجتمعاتها مترفّهة هو ما ييسّر عليه تناول مسألة
السّعادة.
نعم، لقد كان لنا أسلاف كتبوا مغتبطين في مسألة السّعادة وفي سبل تحصيلها.
وطعّموا العربيّة بروح جديدة وأفعموها بمفاهيم، قبل أن تكون محمولة على
دلالات السّعادة والغبطة؛ كانت هي بدورها مفاهيم مغتبطة وغاية في الطّراوة،
حتّى لكأنّ شيئا منها يعلق باللّسان بعد نطقها، وما زالت بعد تتّسع لهذه
الظّاهرة أو تلك شريطة أن نعرف منبتها الأصليّ في المدوّنة التي تمتُّ
إليها بصلة من الصّلات أو في النّصّ الذي تنتسب إليه؛ فليس عيبا أن نصلها
وهي المفاهيم القديمة بظاهرة مستحدثة كما أنّه لا ضير –على ما أرى- في أن
نستدعي إلى مفهوم جديد ظاهرة قديمة لنرى إليها من خلاله، لأنّه كما لا حرج
في تهجين الأجناس الفنّيّة أو الأدبيّة فإنّه لا ضير أيضا في تهجين
المفاهيم شريطة مراعاة قواعد التّهجين، حتّى لا يكون المنتـَج مسخا. ولذلك
نبّهنا إلى معرفة المنبت الأصليّ؛ وهل مناهج التّفكير الفلسفيّ المعاصر
ومقارباته (حتّى وإن كنّا على فظاظة ونحن نأتي بها كلّها) من جينيالوجيا
وفينومينولوجيا وأركيولوجيا وتفكيكيّة وغيرها.. إلاّ رحلة إلى المنابت
الأولى للنّصوص والمفاهيم!. ولقد كان لنا أسلاف برعوا في التّهجين، فإذا به
على أيديهم تأصيل وإعادة تأصيل. لكنّ الأيّام دُوَلٌ…
إنّه ليشقّ حقّا على من يصله التّاريخ، على أساس قربى الحضارة
واللّغة، بالقضيّة الفلسطينيّة وبالشّأن العراقيّ وبما ابتلي به عرب
الرّاهن التّاريخيّ من هذه "الردّة الدينيّةّ" المخيفة وما ساموا به أنفسهم
بأنفسهم، أن يوجّه فكره وقلمه ناحية مسألة السّعادة كأنّما هو ينتسب إلى
أمّة سويّة.
هذا المقترب لا نروم من ورائه أن نتقاسم هذه السّعادة، وإن كنّا لا نرى
في ذلك ضيرا من النّاحية الأتيقيّة، وإنّما يُفترض بنا أن لا نسقط في وهم
مطلب السّعادة من جهة كونها قد تكون حدّا أقصى من ضمان السّلم والأمن
والطّمأنينة وتدبّر شؤون الجماعة بقدر معقول من الدّيمقراطيّة، ونحن لم
نوفّر بعدُ الحدّ الأدنى من هذا الضّمان. وربّما كان أجدى لنا ألاّ نكتفي
في اختبار مسألة السّعادة بسحبها فقط على محكّ المشروعيّة؛ ما دام هذا
الإجراء من شأنه أن ينمّ عن مغالطة تتمثّل في الإيحاء بأنّ السّعادة يمكن
على جهة التملّك أن تكون مطلبا مشروعا لبعض البشر دون الآخرين.
ومن ثمّة يكون من الأجدى سحبها على محكّ يبيّن ما إذا كانت السّعادة تُقال
على جهة الوجود.
ونتصوّر أنّه لا مناص من مثل هذا الاختبار بعد التّحوّلات التي طرأت على
مجمل القيم التي كان الفكر البشريّ يجريها مجرى الوجود لرمزيّتها
المجرّدة، أو لانتسابها إلى مجال الغائيّة فإذا بها تغدو متعيّنة إلى حدّ
قابليّة لمسها في ظلّ تنامي التّدبير الرّأسمالي للاقتصاد وللمجتمع.
ولا نعني بذلك طبعا الانتقال من سجلّ مثاليّ إلى سجلّ مادّيّ على نحو
ما قد يتوهّم ضرب من الإدراك السّاذج للتّحوّلات التّاريخيّة، وإنّما نعني
بالأساس التّحوّل من مستوى تنتسب إليه قيم هي ضروب وجود؛ وقد تكون السّعادة
من بينها، إلى مستوى تستحيل فيه هذه القيم أشياء عينيّة قابلة حتّى
للتّكميم؛ وقد تكون السّعادة من بينها. بل إنّه قد لا يجوز حتّى أن نحصر
مقاربتنا في الانتقال من سجلّ التّعالي؛ حيث السّعادة حبيسة الإرجاء
الميتافيزيقيّ لها فلسفيّا ولاهوتيّا إلى سجلّ المحايثة؛ حيث السّعادة
حبيسة أنماط سلوك وضروب عيش يجري تسويقها بتسخير آليّات كثيرة من الدّعاية
والإشهار.
قد لا يجوز إذن أن ننحصر في المراوحة بين هذين المجالين؛ بحيث يتعيّن
الانتباه إلى أنّ البديل عن التّعالي لا يكمن بالضّرورة في القول
بالتّحايث؛ فكثير من الفلاسفة ما انفكّوا يبيّنون أنّ هذه الحالة من
الإشباع النّسبيّ والمرغوب فيها بشدّة لا يمكن أن تكون إلاّ فينا. وعليه
فإنّ المطلوب هو أن نفحص بنية ذواتنا. ولكن علينا أيضا أن نتبيّن ما إذا
كان الأمر معقودا على ذاتيّة فرديّة أم على ذاتيّة جمعيّة. وهذا يعني أن
نفتح الخطاب الفلسفيّ على أفضية(ج.فضاء) علوم النّفس وعلوم الاجتماع، وبشكل
أخصّ على الفضاء الأنثروبولوجيّ. وهذه ليست مهمّة منهجيّة فحسب، بل هي
مهمّة قيميّة كذلك. فهذه العلوم، وبخاصّة الأنثروبولوجيّ منها، تدفعنا إلى
أن نقايس أنفسنا، نحن العرب، بغيرنا من الأمم التي تستأنف اليوم التّأسيس
المعرفيّ للسّعادة أو تتولّى التّرويج لها اقتصاديّا.
1-2 ينبغي طبعا ألاّ ننسى هذه "النّحن" التي لا ننفكّ نطلقها هنا وهناك
دون أن نسائلها عن محتواها كما لو أنّها كلّ متجانس أو على الأقلّ وحدة
لكثرة متآلفة! فإذا لم تكن كذلك فهل يمكن أن نقول عندئذ إنّ السّعادة يمكن
أن تكون مطلبا ملحّا لبعضنا ومطلبا مرجَئا لبعضنا الآخر؟ ومع ذلك فإنّ
البعض الأوّل يشارك البعض الثّاني في الانتساب بعد إلى هذه النّحن؛ إنّنا
نقول في الحالتين بعضـ(نا). ألا بئس هذه (نا) تجمع إسلاميّا جاهلا لو اطّلع
بدقّة على سيرة الرّسول دون أن يُسمّـَى له، حكم على كثير من تفاصيلها
بالمروق عن الدّين، إلى إسلاميّ مراوغ هو خليط من براغماتيّة متوحّشة
وإحيائيّة ساذجة تتعامل مع اللّه كما لو أنّه ذات قاصرة يفوتها الانتباه
إلى مراكمة الرّبح عن طريق هذه القناة الفضائيّة أو تلك إلى إسلاميّ
مستنير يرشده العقل إلى ضرورة تنسيب الأحكام، لكنّه لم يهتد بعدُ إلى
المعادلة الصّعبة بين النّقل والعقل، إلى عروبيّ أمّيّ تشطّ به أهواء
الانتساب، إلى "رسم" من أمّته "درس"، إلى عروبيّ يتأرجح بعد بين لائكيّة
تغري بمكاسب الحداثة وبين شراكة دينيّة يراها موحّدة لصوت الأمّة، إلى
عروبيّ يرى في التّكتّلات القوميّة مدخلا للتّكتّلات الاقتصاديّة القادرة
على التّصدّي لخطر الاستقطاب العولميّ، قافزا بسبب إغراء النّظريّة على
واقع اقتصاديّ يشتّت أقطار أمّته إربا إربا، إلى ماركسيّ ساذج لم يدرك من
الماركسيّة غير القدرة على سدّ الفراغ العقدي، بعد أن فقدت العقيدة
السّماويّة تأثيرها فيه إلى ماركسيّ يتخبّط بين أدبيّات العقيدة والانحياز
للطّبقة الشّغيلة وبين الثّقافة التي يشيعها الخطاب اللّيبيرالي المتغنّي
بالدّيمقراطيّة، فيمدّ يده إلى أعداء الأمس البعيد (أتباع الدّين) إذا كان
تقديره أنّ الملحّ هو استهداف السّلطة في أسسها وأعداء الغد القريب
(البورجوازيّة ومناصروها) إذا كان تقديره أنّ الانخراط في لعبة
الدّيمقراطيّة يغنيه عن كثير من المعارك، إلى الشّيوعيّ الرّومنسيّ الذي
يرى في الأدبيّات الماركسيّة ثقافة إنسانويّة ترسم الطّريق نحو العدالة
الاجتماعيّة. بل إلى اللّيبيراليّ الذي تطغى عليه براغماتيّة متوحّشة فهو
ما زال بعدُ يُعدُّ الإنسانَ رقما اقتصاديّا في معادلات الإنتاج والرّبح،
هازئا بكلّ نقد يتذرّع بالقيم الإنسانيّة، إلى اللّيبراليّ المشبع بثقافة
حقوق الإنسان ورهانات الدّيمقراطيّة وإن كان يفوته أنّ كثيرا من الذين
يتحدّث باسمهم لا يشاطرونه همومه بل هم يرونه لاعبا في الهامش المترف من
الحياة، إلى المثقّف، سواء أكان ينتمي إلى هذا التّيّار أو ذاك الأفق، الذي
يدفن عقله في كتب/قبور فلا يتأتّى له بمثل هذا الصّنيع أن يترجم حصيلته
الثّقافيّة إلى فعاليّات ووقائع مباشرة، إلى السّياسيّ أو حتّى
اللاّسياسيّ، الذي واتته فرصة حسنة وربّما سيّئة، ليكون حاكما على
الأغلبيّة الصّامتة أو المنصمتة أو المصموتة؛ فمن الصّعب أن نجاري الوصف
كونها صامتة لأنّ حملها صرفيّا على اسم الفاعل ينسب إليها القدرة على القصد
حتّى وإن كان الصّمت، فربّما كان أجدر أن نتجنّى بفضل التّشقيق الصّرفي
على المفردة ونقول "منصمتة" لنشير إلى كونها جاهزة باستعداد فطريّ أو
ثقافيّ لحالة الصّمت، وإذا شئنا ألاّ نقسو عليها ما دام لنا فيها من تشدّنا
إليهم أواصر القربى وروابط الصّداقة قلنا متوسّلين مرّة أخرى بجناية على
المفردة يسعفنا بها التّشقيق الصّرفي "مصموتة" لنشير إلى كونها مغلوبة على
أمرها.
وإنّ صاحب هذه المقاربة لا يستثني نفسه من هذه الخارطة، لا من منطلق
التّواضع وإنّما من منطلق من التبست عليه الأمور فركن إلى ما يتوهّم نفسه
قادرا عليه، أي معاشرة الكتب قدر الإمكان يغالب ما أشكل عليه منها بما
تهيّأ له من عدّة وزاد، ويشرح على بعضها قدر المستطاع، ويترجم عن بعضها ما
سمح بذلك المزاج وما حثّ عليه الإعجاب؛ حتّى وإن كانت الكتب مقبرة لنور
عينيه ما دام لا يتقن غير ذلك. وهذه الخارطة إنّما هي خارطة "النّحن" التي
توحّدنا رغما عنّا وتملي على الواحد منّا أن ينوب عن الآخرين عندما يتحدّث
كما لو أنّهم يشاركونه نفس همومه، والحال أنّه لم يقصد البتّة أن يتحدّث
باسمهم، لكنّه في المقابل لا ينوي أن يحصر نفسه في ذاتيّة ضيّقة، فهو يروم
التّواصل أي يروم الانتساب إلى أكثر من ذاته الفرديّة لكنّه لا يعرف كيف
يسلّ هؤلاء من أولائك. والواقع أنّه ليس ثمّة ما هو أكثر إيلاما من وضع
كهذا؛ من وضع لا تعرف فيه إلى من تتّجه بالحديث، ومن وضع تبدو فيه للآخرين
عندما تتكلّم بهذه النّبرة كأنّك تبرّئ نفسك من شوائبهم.
2-1 كونيّة المعرفة هذه هي التي تستدعي أن نعود إلى التّاريخ الفلسفيّ
للسّعادة دون التّقيّد بالبحث في نسب هذا التّاريخ إن كان غربيّا أو
شرقيّا، فهو اليوم في ذمّة كل البشريّة. وبالفعل فإنّ السّعادة لم تكفّ
البتّة عن أن تكون الشّأن الأهمّ بالنّسبة إلى الإنسان؛ فما هو في حكم
البداهة هو أنّ كلّ امرئ يسعى إلى أن يكون سعيدا بحيث تبدو السّعادة هي
المحفّز لكلّ أفعال البشريّة، ما جرى منها مجرى عمليّا وما جرى منها مجرى
نظريّا، وما جرى منها في نفس الوقت المجرييْن معًا وإنْ بتفاوت. وحتّى في
الإقبال على الانتحار، على ما يقدّر باسكال، فإنّه يكون بالنّسبة إلى
المنتحر مفعولا من مفاعيل السّعادة. لكن أن نعيّن السّعادة على أنّها كلّ
ما يرومه الإنسان من حيث هو خير أسمى له إنّما هو توجّه اسمانيّ أكثر منه
حصرا لمفهوم السّعادة فعليّا، وحتّى في ما يخصّ تعريفها بالسّلب من جهة
بيان أنّها ليست الألم وليست الشّقاء وليست التّعاسة وليست غير ذلك ممّا هي
ليست إيّاه… إنّما هو إجراء أوّليّ، ليس إلاّ. وعليه فإنّه ينبغي أن
نستنبت مفهوم السّعادة من عين ما ليست هي إيّاه؛ لكن ليس باشتغال على
الخطاب فقط بحيث لا نفعل غير أن نقلب منطقيّة الخطاب من السّلب إلى
الإيجاب، أي لا يتعلّق الأمر بقلب مقولة الشّقاء عن طريق عمل تحويليّ إلى
مقولة السّعادة؛ فذاك لا يعدو أن يكون غير استغراق في المنحى الاسمانيّ، أي
ينبغي أن نشخّص بالفعل تجربة الشّقاء حتّى نتمكّن من المرور إلى تحديد
السّعادة على نحو ملموس. ولا نطلب ذلك من منطلق الاعتراض على الاعتبار الذي
يذهب إلى كون السّعادة شأنا خياليّا، فهي كذلك وستظلّ، وإنّما المطلوب أن
نقف على دلالتها في صميم التّخييل الذي تتلفّع به، فلا اعتراض على التّحديد
الذي يذهب إلى أنّ السّعادة هي دائما خطّ متخيّل بعيد يلوح في الأفق ولا
ينفكّ يتباعد كلّما توهّمنا الاقتراب منه، لكن هل إنّ اليوطوبيّات تجعلنا
أشقياء لكون السّعادة هذا الذي لا ينفكّ أبدا يتباعد عنّا في الأفق أم هل
إنّنا أشقياء لأنّنا لا نستطيع أن نرى السّعادة ضمن ما هو في متناول اليد؟
على نحو ما يتساءل باسكال.
إذا فكّرنا بهذه الطّريقة فإنّ هذه العلاقة السببيّة بين الشّقاء
والسّعادة يمكن أن تستقيم؛ لكنّها أيضا لا تستقيم إلاّ لأنّنا نتعاطى مع
السّعادة باعتبارها موضوع رغبة؛ حيث هذه الرّغبة لا تعدو في هذا المقام أن
تكون غير المسافة الفاصلة/الواصلة بين الشّقاء محفّزا والسّعادة مطلبا. على
أنّ هذه الأخيرة ليست مجرّد رغبة وإنّما هي مهمّة يضطلع بها الإنسان، وهو
حقيق بها من جهة كونه إنسانا؛ وعليه أن يكون في مستوى هذا الحقّ، أي عليه
أن يكون قادرا على أن ينهض بهذا الحقّ، بل من الواجب عليه أن يقبل على
النّهوض بذا الحقّ حتّى يستكمل صورة الإنسان فيه. وبمعنى آخر فإنّه حتّى ما
إذا كانت السّعادة هي ما نرغب فيه فإنّه يتعيّن على الإنسان أن يضطلع بها
من حيث هي مهمّة؛ ومن ثمّة لا تكون السّعادة مجرّد رغبة، وإنّها لكذلك،
ولكن ليس فقط. ولا تكون مجرّد حقّ؛ وإنّها لكذلك، ولكن ليس فقط. ولكنّها
تكون أيضا واجبا. ولعلّه من الطّريف أن نصوغ معادلة بشأن السّعادة قد تبدو
تأليفا بين عناصر كنّا إلى حين نظنّ أنّها متنافرة بحيث نقول: إنّ السّعادة
حقّ يجب أن نرغب فيه لكن المسألة لا تتعلّق فقط بمقتضيات السّعادة
وبمتطلّبات الأتيقا التي يُفترض فيها أن تتدبّر أمر السّعادة، وإنّما أيضا
بمبرّرات فلسفة السّعادة أو مسوّغاتها، أي بالمبرّرات التي تجعل القول
الفلسفيّ يتلفّت ناحية السّعادة. ولا نعني بذلك أنّه غريب على الفلسفة أن
تتناول هذه المسألة فهي تكاد تكون لصيقة الجذر الأتيمولوجيّ لعبارة
فيلوسوفيا؛ وإنّما نعني الاهتمام بالتّساؤل ما إذا كانت السّعادة منطلقا
يطلق منه الخطاب الفلسفيّ طائر السّعد ليجوب الأرجاء والآفاق التي هي أرجاء
تاريخ الفلسفة وآفاقه أم هل هي عتبة يتخطّاها الخطاب الفلسفيّ نحو أفضية
أخرى تعمّرها هواجس الحقيقة والوجود والسّياسة والأخلاق وغير ذلك من
موضوعات الفكر الفلسفيّ وأغراضه أم هل هي مقولة مركبّة ينتهي إليها
التّفكير الفلسفيّ بعديّا، إن اتّفاقا أو حتما، وهو يواجه هذه المسالة أو
تلك؟
لعلّه من الطّريف إلى ما يمكن أن نعتبره ضربا من الفوبيا الفلسفيّة
يعترينا عندما نوجّه النّظر الفلسفيّ ناحية السّعادة. فوبيا مأتاها دور
النّاعي الذي أضحت الفلسفة تلقانا به في هذا الفصل أو ذاك من فصول تاريخ
الفلسفة؛ فهي تارة تعلن موت الفنّ هيغليّا وطورا تعلن موت الإله نيتشويّا
وحينا تعلن موت الإنسان فوكولتيّا وحينا تعلن موت الإيديولوجيا على يد أكثر
من مفكّر وكاتب، ونخشى أن نلتقيها وهي تؤبّن السّعادة أتيقيّا.
واضح إذن أنّ هذه التّساؤلات لا يعنيها أن تنوّع على المنهجيّة
التّقليديّة التي تكتفي بتسويغ السّعادة موضوعا للفكر الفلسفيّ من جهة
كونها شأها إنسانيّا؛ وإنّما هي تُعنى بخطاب السّعادة فلسفيّا أو
بجينيالوجيا هذا الخطاب.
وهذا ما يسفّه الاعتقاد في أنّ استئناف الحديث عن مسالة السّعادة اليوم لا
يعدو غير استرجاع لحديث مكرور يُعنى بإنشائيّة السعادة.
2-2 ما جدوى أن يكون المرء سعيدا؟
لا توجد طبعا إجابة عن هذا السّؤال الأخرق، كما يلاحظ كونت- سبونفيل
في مقالته بالموسوعة العالميّة. ولهذا يشير إلى أنّ السّعادة تُعرّف على
أنّها ما يُرغب فيه بإطلاق، أي هذا الذي يعادل بذاته الإشباع النّهائيّ
الذي تظلّ دونه مختلف الإشباعات، أو هو المتعة التّامّة حيث كلّ متعة دونها
إنّما تظلّ متعة منقوصة. وبعبارة أخرى فإنّه يتمّ تعريف السّعادة على
أنّها الهدف الذي ما بعده هدف، أو على الأقلّ ليس من بعده هدف غير ذاته.
لكن أن يكون مثل هذا التّعريف تعريفا إسمانيّا، كما سبقت الإشارة إلى ذلك،
فإنّ هذا ما يفسّر أنّ البشر الذين يتّفقون تماما أو يكادون على المفردة
إنّما هم يتّفقون قليلا على الشّيء أو لا يكادون: فالكلّ يسمّي "سعادة" ما
يرغب فيه، لكن كلّ البشر لا يرغبون في نفس الشّيء؛ في حين أنّه ليست
المفردة هي تهمّ وإنّما الشّيء، أي السّعادة نفسها التي ليست كلمة ولا هي
أيضا شيء. ولهذا فإنّ الاشتغال على مفهوم السّعادة يقتضي بالأساس تفادي
الانحباس في كلمة السّعادة كما يقتضي أيضا تفادي التّمسّك بالشّيء المرغوب
على أنّه السّعادة. فما عساها تكون عندئذ؟ وهل يمكن تحصيلها؟ وإذا كان
ممكنا فكيف يتحقّق؟
بيد أنّ الفلسفة وهي تنزع نحو السّعادة، فإنّما لكونها بالأساس تفكير في
الشّقاء من أجل مغالبته. فالأمر يتعلّق بأن نفهم لماذا نحيا بهذا الشّكل
السّيّئ، إنْ كثيرا أو قليلا، بل بأن نفهم لماذا نفتقد السّعادة حتّى وإنْ
كنّا لا نفتقد شيئا.
فإذا كان أرسطو يعرّف السّعادة بأنّها ما هو مرغوب فيه لذاته، فما هي
الرّغبة؟ وهذا السّؤال سبق لأفلاطون أن أجاب عنه في المأدبة، حيث ترد
الرّغبة لديه على أنّها نقص: "… إنّ من يرغب إنّما يرغب في شيء ينقصه ولا
يرغب في ما لا ينقصه". فلا يمكن أن نرغب في الصّحّة عندما نكون في صحّة
جيّدة، وإنّما نرغب في استمرارها، أي في ما ليس موجودا بعد. فتكون الرّغبة
بهذا معقودة على معنى الغياب. ومن ثمّة فلأنّ الرّغبة نقص تكون السّعادة
منقوصة.
وإذا كان النّقص ألما، فإنّ الإشباع يكون متعة. غير أنّ هذا لا يصنع
سعادة لأنّ الرّغبة ما دامت تنبثق عن نقص، أي عن حالة لا نكون فيها مشبعين
تكون هي بدورها ألما بوصفها غير مشبعة. وبما أنّها لا يوجد إشباع يستمرّ في
ديمومة لا تنقطع؛ فإنّ انقطاع الإشباع لا يعدو أن يكون غير نقطة انطلاق
رغبة جديدة. ولا يوجد تبعا لذلك حدّ نهائيّ يتوقّف عنده هذا "الجهد" إذا
ما توسّلنا بالمصطلح السّبينوزي في حديثنا عن الرّغبة، أي لا يوجد حدّ
نهائيّ يتوقّف عنده الألم.
إذا كان ما نجرّبه أو نختبره هو أن نرغب، أي أن نستشعر ما يعوزنا، أي
أن نتألّم فإنّه لا وجود عندئذ لتجربة سعادة؛ وإنّما ثمّة تجربة غياب
السّعادة. وهاهنا يسجّل شوبنهاور بهذه الدّعوة حضوره اللاّفت؛ فما نختبره
أخيرا، عندما تكون الرّغبة قد أشبعت، ليس حتما الألم، فذاك لا يكون إلاّ
عندما تتولّد رغبة جديدة وهو على أيّة حال أمر لن يتأخّر كثيرا طالما أنّ
لا ديمومة لإشباع، ولكن ليس أيضا السّعادة، فما عساه يكون؟ إنّه بدل حضورها
يكون ثمّة فراغ ناجم عن غيابها المنسوخ بعدُ. وهو ما يُسمّى الملل أو
الضّجر هذا الذي يكون بدل السّعادة المرجوّة ومكانها.. ليس ثمّة غير
التّجويف الذي تخلّفه الرّغبة بعد زوالها، ليس ثمّة غير ندبة الرّغبة التي
أُشبِعتْ للتوّ وزال إشباعها. وهكذا، على ما يقول شوبنهاور يكون الفكر
يائسا: فالسّعادة هي ما ينقصنا عندما نتألّم، والضّجر هو ما يعترينا عندما
لا نعود نتألّم. وإذا كان الألم تعبيرا عن فقدان السّعادة فإنّ الضّجر
تعبير عن غيابها: إنّ غيابَ غيابٍ ما لهو غيابٌ أيضا. وفي هذه الحالة لا
يمكن أن نعوّل على المأثور الدّيالكتيكيّ من أنّ نفي النّفي إيجاب. وإنّ
السّعادة، على ما يفسّر شوبنهاور، ليس إيجابيّة في شيء: إنّها ليست غير
غياب الألم؛ والغياب في تقديره لا يعني شيئا. فإذا كانت الرّغبة تزول في
صميم إشباعها، أي في تحصيل المتعة، فإنّ السّعادة تتلاشى في هذا المتعة
وتضيع، فإذا كانت غير منتقصة فإنّها ضجر بعْدُ وملل. إنّها لا توجد إلاّ
خيالا؛ فإذا كلّ سعادة بهذا المعنى لا تعدو أن تكون غير رجاء وإذا كل ّ
حياة لا تعدو أن تكون غير إحباط. ويلاحظ كونت-سبونفيل في هذا السّياق أنّ
جلّ المدارس الفلسفيّة تختلف بشأن السّعادة ولكنّها تتّفق بشان غيابها ممّا
يجعلنا نميل إلى أن نستنتج من ملاحظته هذه أنّه إذا كان ثمّة أفق كلّيّ
تنتهي إليه الفلسفات في تعدّدها فسيكون متمثّلا في مراس الفكر لفعل النّفي
وليس في التّحقيق الإيجابيّ لهذه القيمة أو تلك.