على خلاف التفسير الديني الذي يرى أن "الموت" هو النهاية الحتمية للإنسان
التي ستفضي إلى الحياة البرزخية والخلود السرمدي في الحياة الآخرة ثواباً
أو عقاباً، فإن سيجموند فرويد، الأب الروحي لتيار التحليل النفسي الحديث،
والمعروف عنه مباهاته بالإلحاد، قد أفرد لموضوعة الموت فصلاً كاملاً في
مؤلفه الهام "الحب والحرب والحضارة والموت"، وهو من المؤلفات المتأخرة التي
أنجزها فرويد في حياته. وليست المصادفات هي ما دفع بسليل العائلة اليهودية
ذات الأصل النمساوي التي ينحدر منها فرويد، إلى تلمس ما تنطوي عليه أعماق
الإنسان، بل إن تأثره بالميراث المعرفي الذي خلفته ثورة كوبرنيكوس وداروين،
والثورة الجنسية التي أحدثتها أطروحات كرافت ايبنج وهافلوك ايليس، والتي
ترى في الجنس الأُس الذي تتأسس عليه الحياة الإنسانية، مستفيداً منها في
أبحاثه التي وقفت على قيمة الحياة الجنسية في تعليل المرض العصابي، من دون
أن ينكر طبعاً أن عائلته وشبكة علاقاته الأولية هي ما حرّضه على محاولة سبر
النفس الإنسانية، وكشف ما تضمره وتستبطنه من أسرار وألغاز.
والموت من وجهة نظر فرويد هو شيء طبيعي لا يمكن إنكاره أو الإفلات منه،
لكننا كثيراً ما نفكر في الموت باعتباره موت الآخرين، من دون أن نراعي أن
الموت هو موتنا نحن. هذا ما يقرره فرويد بشكل قاطع في بداية هذا الفصل، لكن
المفارقة قد تتجلى عند كثير ممن يناوئون منهج فرويد المادي على ما يبدو
فيما يطرحه، في كون الموت هو النهاية الضرورية للحياة، وأن كل واحد منا
مدين للطبيعة، وينبغي أن يتوقع أنه في يوم من الأيام سيوفي الدَّين.
لكن هذا لا يعني بأي حال أن فرويد قد تحوّل على حين غرّة إلى شيخْ أو
قسيس، لأن فرويد ينأى بنفسه عن الاعتماد على نصوص مطلقة تقول الحقيقة دفعة
واحدة، دون أن تترك للعقل فرصة للشك والتأمل والبحث.
الاستمرار في الإبحار: فرويد الفيلسوف، يقف من الموت موقفاً إنسانياً نبيلاً، وهو ممن يرون في
فكرة موت الآلاف في الوقت نفسه فكرة بشعة جداً، لذا فانه يناوئ الحروب التي
تواجه الإنسان بالموت وتجبره على الاعتراف والإقرار به، لأن الناس لا
يموتون في الحروب بالآحاد، بل بالعشرات في وقت واحد. لكننا - طبقاً لفرويد-
لا ننظر النظرة نفسها لموت شخص واحد، ولربما كان شعورنا تجاهه شعور
المعجبين بشخص استطاع أن ينجز أمراً شاقاً وينتهي منه، ونحن نؤجل نقده،
ونتجاوز أخطاءه، ونهتف قائلين: رحمه الله، ونجد في هذا التعبير ما يبرر
استعادة محاسنه وذكر ما ينفع ذكراه.
لذا فإن الفقد وحجم الخسارة الذي يخلّفه الموت فينا ما هو سوى شعور إنساني
خالص، بصرف النظر عن المرجعيات المعرفية والثقافية التي تؤسس وجهات
ومسارات التفكير لدينا. وفرويد نفسه يتفّهم النظرة التقليدية للموت، التي
تقول بأن احترامنا للميت أعز علينا من الحقيقة التي نعرفها عنه، بل إن هذا
الاحترام بالنسبة لمعظمنا لهو أعز علينا من اعتبارنا للأحياء.
إن هذه النظرة التقليدية للموت، كما يذهب فرويد، لتبلغ ذورتها عند إنسان
اليوم المتحضر فيما نشهده من انهيار تام نُصاب به كلما اختطف الموت شخصاً
نحبه، كأن يكون أحد الوالدين أو زوجاً أو أخاً أو أختاً أو صديقاً عزيزاً،
فنحس كما لو أن الآمال التي نجيش بها، والكبرياء الذي يملأنا، والسعادة
التي تغمرنا، كلها قد دفنت في القبر معه، ولن يعزينا فيه شيء، ولن يعوضنا
عنه أحد، ونتصرف كما لو كنا غير متحضرين ننتمي إلى القبائل الهمجية التي
كانت إذا مات أحد أفرادها حكمت على أحبائه بالموت.
وكأن فرويد يعاين الموت من موقع الحرص على الحياة والتمسك بها، على الرغم
مما يخلّفه من أثر عميق على حياتنا، فعندما نشعر بأن أعز ما في الحياة، وهو
الحياة ذاتها، مُعرض للخطر، فإن الحياة تفقد ثراءها، ولن تثير اهتمامنا
بحسب فرويد، ونحن نباعد بيننا وبين الخطر، ولا نعرّض أنفسنا إليه، لأننا
نعلم مدى حبّ الآخرين لنا، ومدى ما يمكن أن يصابوا بحزن علينا، ولذلك أيضاً
فنحن نبعد الخطر عن أحبائنا، ولا نقوى على التفكير فيما يمكن أن تفعله
الأم بدون ابنها، والزوجة بلا زوجها، والأطفال من غير أبيهم، فيما لو حلّت
بهم كارثة، ولهذا فأن المرء يميل إلى استبعاد شبح الموت عن تفكيره، والى
إسقاطه من حساباته، والمهم عنده هو أن يستمر في الإبحار، ولا يهم بعدها إن
عاش أو مات،.
بيد أن الموت لا ينبغي أن يترك للجزع والكمد سبيلاً لنهش إرادة البقاء
فينا، وأن يحاصر ما تبقى من أنفاس تصلح لإبداع الحياة في حيّزها الذي
تمنحنا إياه. وهذا خلاصة ما أراد فرويد إيصاله، لذا فهو يطالبنا أن نجهد في
تعويض أنفسنا عن هذا الإجداب في الحياة، بأن نصوغ عالماً من الأدب، سواء
في الرواية أو المسرح، نصوّر فيه شخصيات تعيش الحياة ولا تخشى الموت، وتعرف
كيف تختار المنية التي تناسبها، وأخرى لا تخشى الموت، بل تختاره لغيرها،
وفي الأدب وحده يمكن أن نواجه الموت بأن ندخل كل تجارب الحياة، ونخرج منها
سالمين، لم تصب حياتنا منها بأذى.
لغز الموت: فرويد يقف بعد ذلك عند الموقف المتناقض الذي اعترى الإنسان البدائي من
الموت، وهو موقف ملفت كما يصفه فرويد، إذ أن الإنسان البدائي لم يكن ينظر
إلى الموت نظرة جدّية، وكان يسلّم بأنه نهاية الحياة، ويتعامل معه بهذه
الصفة، ولكنه من ناحية أخرى كان ينكره ويسقطه من حساباته، ويرجع هذا
التناقض إلى التضارب في مواقفه من موت الآخرين والأغراب ومن موته هو نفسه
كما يزعم فرويد. إذ لم يكن لديه أدنى اعتراض في أن يموت الآخرون طالما أنه
يكرههم، وهذا معناه إزالتهم من الوجود، وفي الوقت نفسه لم يكن يخطر في باله
أنه سيموت حقاً، لأنه ليس من السهل أن يتقبل فكرة موته، لذا فان عليه أن
يواجه هذين الموقفين المتناقضين معاً وما يمكن أن ينتج عنهما من أثر على
حياته، فلم يكن سهلاً عليه أن يثكل زوجاً أو أخاً أو صديقاً أو أي أحد من
ذويه، لأنه لن يتقبل فكرة فقده بسهولة، لأن الحب - بحسب فرويد - ليس وقفاً
علينا وحدنا "يقصد الإنسان المتحضر"، ولكنه قديم قدم شهوة القتل. والسبب
الذي يُرجعُ إليه فرويد هذا الموقف عند الإنسان البدائي، هو أن هذا الإنسان
يستدمج من يحبّه في أناه، ويعتبره جزءاً من نفسه التي يحبها، وهنا يمكن أن
نعثر على التفسير السيكولوجي الذي يقول بازدواجية الشعور الذي ما زال يحكم
علاقاتنا العاطفية حتى اليوم، ولكنه كان أوسع تطبيقاً في المجتمعات
البدائية.
فرويد لا يعتبر أن لغز الموت ـ كما يزعم الفلاسفةـ كان بداية التفكير
الفلسفي عند الإنسان البدائي، لأن هؤلاء الفلاسفة لم يولوا دوافع الموت
العناية الواجبة، إذ أن الإنسان البدائي لم يكن وهو يرمق جثة عدوه المطروحة
إلى جواره يعير أدنى تفكير في هذا اللغز، لكنه كان يزهو بما حقق من
انتصار. في حين كانت تتضارب المشاعر في داخله إزاء موت من يحب، لكنه لم يكن
معنيّاً بحقيقة الموت، وهذا ما جعله يرفض أن يعترف به بشكل كامل، لذا فقد
تحايل على فكرة الموت، وأقنع نفسه بموقف متوسط، فقد تقبل الموت كحقيقة،
وأقر بموته هو نفسه، لكنه رفض أن يعترف بأن الموت نهاية الحياة، مع أنه
طبقاً لفرويد ما كان ينبغي له أن يتوصل إلى هذه النتيجة، لأن عدم الإقرار
بأنه نهاية الحياة معناه أنه ليس نهاية الحياة بالنسبة لعدوه أيضاً.
بدائية الإنسان المعاصر: لكن ما يجعل المرء يتساءل عن موقف فرويد من الفلاسفة الذين عاصروه وسبقوه،
ممن تبنوا فكرة ميلاد التفكير الفلسفي عند الإنسان البدائي من واقعة
الموت، هو ما ذهب إليه فرويد نفسه في النص ذاته، الذي يقول فيه: "ولقد أمعن
البدائي التأمل في جثمان فقيده الغالي، وتولدت لديه فكرة الروح، وخرج منها
بفكرة الخلود، وتفجر عنده الإحساس بالذنب أو جزء كبير منه، فالواقع أن
الشعور بالذنب يضرب بجذوره إلى أعمق من ذلك، بل لقد تولّد لديه، أكثر من
ذلك، أول تفكير في الأخلاق، وكان تفكيراً غامضاً، وكانت أول وأهم المحظورات
الخلقية التي ذهب إليها ضميره المتيقظ "إنك لن تقتل"، لينشأ تحريم القتل،
كرد فعل ضد شعور الكراهية الذي أشبعه، والذي أحس به يكمن متستراً خلف الأسى
الذي كان يعتمل في نفسه على فقيده الغالي، ليمتد رد الفعل ضد شعور
الكراهية ليشمل كل الأغراب ثم الأعداء".
وعلى الرغم من ذلك، فان فرويد أنجز تنظيراً سيكولوجياً، إذا صحّ التعبير،
لواقعة الموت، والتي يخلص فيها إلى كون الإنسان المعاصر لا يعرف أن الموت
طائله لا محالة، لذا فانه يعيش بمعزل عن التفكير فيه، وهو في هذا يشاطر
الإنسان البدائي في تفكيره، وأن الزعم بأن الحضارة بموقفها التقليدي من
الموت، التي تدّعي أنها نقلت الإنسان من البداوة إلى المدنية، وغيرت نظرته
إلى الموت، قد كذّبته الحروب وفضحت زيفه، وكشفت عن البدائية التي يستدخلها
الإنسان المعاصر في أعماقه، وتدفعه للتصرف كبطل لا يعترف بالموت، ويرى في
موت غيره انتصاراً له، وبهذا فإنه يخلص إلى اعتبار أنه من الأوفق لو أننا
نظرنا إلى الموت النظرة الواقعية التي ينبغي أن ننظر إليه بها، والأفكار
التي ينبغي أن تكون لنا عنه، وأن نروّض أنفسنا أكثر على موقف اللاشعور من
الموت، ولو فعلنا هذا لكان ما نطالب به انجازاً حقيقياً، لأنه يجعل الحياة
أكثر احتمالاً، ومهما حاولنا التمويه على أنفسنا، فلن يفيدنا ذلك في شيء
طالما أنه يجعل الحياة أشق احتمالاً. ولنذكر المثل القديم: إذا كنت تريد
السلم، فلتستعد للحرب، ولقد حان الوقت أن تقوله بشكلْ آخر: إذا كنت تحتمل
الحياة، فلتستعد للموت.