المراهقون شبابٌ صغار… أم
أطفالٌ كبار؟! مرحلةٌ تلقي بظلالها الثقيلة على من يعيشها وعلى من حوله،
تغذي حروبا نفسية على جبهات متعددة. في الحدّ الأدنى تثير اضطرابات تتباين
شدتها بين المراهق/ة من جهة وبين الأهل والمجتمع بمؤسساته المختلفة من جهة
ثانية.
الضحية الأولى في كل ذلك هو المراهقـ/ة. سنحاول استعراض هذه المرحلة
العمرية الهامة والمؤثرة في حياة كل إنسان علّنا نقف على ما يثير الاهتمام
والفائدة.
اتفق العديد من العلماء على أنّ:
المراهقة Adolescence هي مرحلة الانتقال من الطفولة إلى الشباب، وتتسم
بأنها فترة معقدة من التحوّل والنمو، تحدث فيها تغيّرات عضوية ونفسية
وذهنية واضحة تقلِبُ الطفل الصغير عضواً في مجتمع الراشدين. (د.مالك مخول:
علم نفس الطفولة والمراهقة، منشورات جامعة دمشق، الطبعة الرابعة 1997، ص
266).
وإن كان تحديد بداية المراهقة يتعلق بالبلوغ الجنسي إلا أنه من الصعب
تحديد نهايتها، حيث تتعلق بالنضوج في مظاهر النمو المختلفة، وقد
ذكر(أريكسون) وعلماء آخرون أن هذه المرحلة تمتد من سن الحادية عشر إلى سن
الواحد والعشرين. لكن (نيومان ونيومان) قام بتقسيم المرحلة من الناحية
النظرية إلى فترتين أساسيتين: المراهقة المبكرة والمراهقة المتأخرة. (أ.د
حسين سليمان، السلوك الإنساني والبيئة الاجتماعية، مؤسسة مجد، الطبعة
الأولى 2005، ص 160)، ويضيف بعض العلماء المراهقة المتوسطة لهذا التقسيم.
يمكن القول أنّ المراهقة تبدأ على مقاعد الدراسة المتوسطة وقد تمتد حتى
الجامعة، مع الأخذ بالاعتبار أن المراهق قانوناً وبحسب تعريف (اليونيسيف)
حدث وطفل ما لم يتجاوز السن القانوني وهو18 سنة.
إنّ المراهقة عملية بيولوجية حيوية عضوية في بدئها، وظاهرة اجتماعية في
نهايتها، حيث يُعتبر البلوغ الإرهاص البيولوجي لسن المراهَقة ومؤشر
بدايتها. ويتحول الفرد من كائن لاجنسي إلى كائن جنسي له معالم جنسية واضحة
ظاهرياً، فتبدأ التغيّرات الجسدية عند الفتاة والشاب سواء بالوزن أو الطول
وتنمو الغدد الجنسية مظهرةً معالم الأنوثة عند الفتيات مُكلّلة بالطمث أو
العادة الشهرية، ويخشن صوت الفتيان مؤذناً ببلوغ رجولي الهيئة.
هناك فروق في التعامل مع هذه المتغيّرات تبعاً لثقافة المجتمعات التي
ينتمي إليها المراهقون. فالأبعاد النفسية والاجتماعية والأخلاقية لهذه
المرحلة ترتبط بسلوك المراهقين والأهل والمجتمع على حد سواء، والصعوبات
التي يعانيها المراهقون بسبب التغيرات الجسمية والجنسية تدفع لتوترات تنعكس
على من حولهم، وتؤدي بالتالي لعكس مفهوم خاطئ عن مرحلة المراهقَة التي
أسيء فهمها فارتبطت عادةً بالانطباعات السلبية ونُظر إليها على أنها مرحلة
"خطر" نظراً لتمرد المراهقين على مجتمعاتهم واعتمادهم سلوكيات سلبية طائشة
من وجهة نظر "الكبار" الذين يرفض المراهقون الانصياع لرغباتهم أو يتحدّونهم
سراً أو علانية. وفي مجتمعاتنا العربية حيث يعتبر الدين أحد أهم الأسس
المُشكّلة للعادات والتقاليد سواء بوجهها السلبي أو الإيجابي، يبدأ التابو
والمحرّم باختراق حياة المراهق وخصوصيته ذكراً كان أم أنثى:
فالعيب والحرام يُختصر بجسد الفتاة الذي يصبح "عورةً" بكامله، والشرف
يتوسط ما بين رجليها، وتبدأ رحلة التخويف للحفاظ على غشاء البكارة الذي
بفقدانه قد تفقد المرأة حياتها وعليها منذ تحولها لكائن جنسي أن تعي هذه
الحقيقة المدعمة بأيديولوجيا دينية ومجتمعية مشوهة، وتدخل الفتاة مرحلة
صراعات تحارب فيها على جميع الصعد أوّلها ذاتها التي تتفتق للخروج إلى
العالم كتفتق نهديها، لكن الخوف من هذا العالم الممتلئ بالممنوع والحرام
يحولان دون ذلك، هذا العالم الذي يجب أن تخاف فيه على "سمعتها وجسدها
وشرفها المصون" حيث يُختصر هنا تاريخ العائلة العظيم! وليست مقابلة مراهقة
الذكور في مجتمعاتنا الذكورية بأفضل حالاً رغم الفخر بالرجل القادم، فهو
الآن أصبح شاباً ويثير الاعتزاز بنفس أهله لأنه حامل الراية والوريث الشرعي
لأمجاد العائلة. وهذا ما يترتب عليه الكثير من الأعباء التي قد لا يتحملها
المراهق وقد لا يختارها أيضاً، ويُفرض عليه قالبٌ يجب أن يفصّل نفسه على
قياسه لا زيادة ولا نقصان شاء أم أبى.
هذه المقابلة المجتمعية لتحول الأفراد من أطفال إلى مراهقين ـ مع التأكيد
على الفروق الفردية ـ تختصرهم جنسياً، ويبدأ الكبت والحرمان خوفاً من
اختراق المحرمات. فإقامة علاقات جنسية أمر محرّم وسط طاقات متفجّرة جنسيّاً
وجسدياً والعادة السرية على ما يفتي به رجال الدين من المحرّمات! عدا عن
أضرارها النفسية والجسدية. والاختلاط بين الجنسين أمر منبوذ وغير محمود
عقباه، ولا مجال لحلّ تلك الاحتياجات إلا بتناسيها من خلال "تلاوة الذكر
الحكيم والتعوذ من الشيطان الرجيم! وإشاحة النظر وأخذ العبر ممن تجاوز الخط
الأحمر ولم يرتدع وانصاع لأهواء نفسه الفانية".
ومع الأخذ بالاعتبار عدم توفّر قاعدة بيانات أو إحصائيات حقيقية لدينا إلا
أنه في أغلب الأحيان لا تخلو حياة مراهقـ/ة من تجربة جنسية بشكل أو بآخر.
بالتالي لا يخلو مراهقـ/ة من إحساس بالذنب والإثم أو العار والخوف بشكل من
الأشكال، وما يترتب على هذا الإحساس من ألم وعذاب يشلّ حركة المراهقـ/ة
ويزيد من التوترات والصراعات الداخلية.
في جوانب أخرى يتم تجاهل كل ما يعتمل في نفس المراهقين من اضطرابات
وتساؤلات ويتم التعاطي معهم كأطفال أحياناً وكناضجين في أحيان أخرى، عليهم
أن يدركوا بديهياً حقيقة الأمور فيقعون في ازدواجية ترسم إشارة استفهام
كبيرة!
هذا التعاطي السلبي مع المراهقين يزيد أعبائَهم والضغوطَ التي يعانون منها
نتيجةً للتبدلات الهرمونية والواضحة بالتغيّرات العضوية والنفسية.
فالمراهقون ينمون الآن ليس جسدياً وجنسياً فقط بل انفعالياً واجتماعياً
وأخلاقياً إضافةً لضرورة النمو المهني. كل هذه المتغيّرات تخلق عندهم
اضطرابات مختلفة تتجسد بسلوكيات متعددة لا يرضى عنها المحيط في أغلب
الأحيان. فهذا المجتمع متمثلاً بالعائلة ومروراً بالمدرسة والشارع والجيران
و.. و.. يحاول تدجين المراهقين وبرمجتهم وفق ما يراه مناسباً من وجهة
نظره، ولا سبيل للمراهقـ/ة إلا أن يصبح "حيواناً أليفاً" يستجيب للإملاءات
متجاهلاً وناسياً ذاته حتى ينال الرضا الاجتماعي، وفي حال العكس ومحاولته
إبراز ذاته وتحقيق شخصيته وفق ما يراه هو نفسه أو ما يحتاج إليه حقيقةً
بعيداً عن قوانين وقواعد المجتمع، نجد أن الأحكام السلبية تتخذ مكان
الصدارة لمواجهة المخالفين وما أكثرهم في هذه المرحلة. إضافة للتعميم
والتجنّي على المراهقين بدلَ تفهّمهم وإدراك متطلباتهم، متجاهلين استقلالية
المراهقـ/ة والرغبة باكتشاف الذات والتعبير عنها.
إنّ التمرد، الخجل والانطواء، العدوانية، الفشل الدراسي، التسرب المدرسي،
الأنانية العالية، الاكتئاب، فقدان الثقة بالذات، عدم وجود دافعية لأي شيء،
الانضمام لجماعات الميتاليكا Metallic والإيموشن Emotion وغيرها من
المظاهر التي تعكس يأس وابتعاد المراهق عن واقعه واغترابه عن مجتمعه،
وانحراف البعض نحو الإدمان بأنواعه والميول الجنسية المثلية وحتى السلوك
الإجرامي، ليست سوى أشكال مختلفة ونماذج شائعة للمشكلات التي يعاني منها
المراهقون. يظن الكثيرون أنها سمات المرحلة، لكنّ المختصّين يؤكدون أن هذه
المشكلات ليست صفاتٍ أكثر منها نتائج وردود أفعال لكيفية تعاطي الأهل
والمجتمع مع المراهقين. فكما نزرع فيهم سوف نحصد مع إدراك أنه في ظل سيطرة
العولمة ومظاهرها وثورة المعلومات والتكنولوجيا والاتصالات المذهلة
والتقنيات المتاحة بسهولة ويُسر زادت الأمور تعقيداً، والمراهقون والأطفال
الذين كانوا يتلقّون المعرفة من أهلهم ومدرستهم أو حتى جامعتهم ومن أقرانهم
أصبحوا الآن يعرفون الكثير ولكن بطرق أخرى وغير منظمّة، عبر الانترنيت أو
القنوات الفضائية وغيرها من التقنيات الحديثة الأمر الذي زاد الطين بلة في
كثير من الأحيان فالمراهقون ـ بدون دف وعود يرقصون ـ كما يقول المثل
الشعبي، فكيف هو الحال مع هذا الكم الكبير المتاح من المعلومات في أوج فترة
الاضطرابات والتوترات النفسية التي يعيشونها. ستصبح الصراعات أكثر احتداما
مع ذواتهم الضائعة والتي يحتاجون لصنعها وفهمها والتعبير عنها وتقديرها من
قبل المجتمع. ومع هذا المجتمع الذي يزداد تديّناً ويمعن في محرّماته
وضغوطاته، أو يزداد عبثيةً وإهمالاً لشؤون المراهقين نتيجة الأحوال
الاقتصادية الرامية بأثقالها على الجميع والأزمات العامة الأخرى محلياً
وعالمياً.
من الضروري وجود من يأخذ بيد المراهقين في تخبّطاتٍ لا يدركون أسبابها
وماهيتها. إنهم بحاجة لمن يستمع إليهم دون تلقين الوعظ والإرشاد، بحاجة لمن
يشاركهم ويعتبرهم كياناً مستقلاً يشقّ طريقه في هذا العالم ويريد إثبات
وجوده.
إنّ من يصيخ السمع في أعماق المراهق سيسمع صوتاً يصرخ متألماً: أنا وحيد..
لا أحد يفهمني.. لا أحد يحبني..لا يوجد من يشعر بي.. الجميع ضدي.. أنا
فاشل.. خائف.. أريد أن أكون متميزاً.. مختلفاً.. ناجحاً.. أنا على حقّ
والجميع مخطئون!
منولوج داخلي يعكس انشقاق المراهق واغترابه عن عالمه فهو في صف والكون كله في صفٍ آخر.
هو يريد أن يكون ما يختاره، لكنّه أيضاً. . لا يعرف ماذا سيختار!!
في الوقت ذاته تتلعثم الكلمات على لسان الأهل وهم يردّدون بخوف واضطراب:
ابني/ ابنتي مراهقـ/ة لا يستجيب/تستجيب لي، إنهم عكس العالم …ضد التيار
…إلخ.
قد يقول قائل إنّ الأمر ليس بهذا السوء أو بهذه المأساوية ـ هذا ما نأمله
جميعاً ـ ولكن إذا اطلعنا على الإحصائيات في بلداننا العربية الغير دقيقة
للأسف، حيث لا توجد مراكز دراسات تتمتع بمصداقية علمية وشاملة لقواعد
بيانات تفيد في أيّة دراسات، لوجدنا رغم عدم دقة الإحصائيات أرقاماً مخيفة
لنسب الأمية والتسرب المدرسي وعمالة الأطفال وللزيادة في عدد الجرائم
والجنح التي يرتكبها الأحداث، وغير ذلك من الأمراض الاجتماعية المتفشية
باطّراد بين أفراد هذه الفئة العمرية.
كل هذا يستدعي الوقوف والتمعن بالآليات الواجب اتباعها قبل أن يسبق السيف
العذل، وإن أردنا أن نكون صادقين مع أنفسنا فالتغيير والتقدم الذي ننشده
لمجتمعاتنا سيكون أكثر جدوى ومصداقية وبعيداً عن العبثية في حال بدأناه مع
أطفالنا ومراهقينا شباب المستقبل. وعلى قول الشاعر:
إن الغصون إذا قوّمتها اعتدلتْ
ولا يلين إذا قوّمته الخشبُ
قد ينفع الأدب الأحداثَ في صغرٍ
وليس ينفعُ عند الشيبةِ الأدبُ