لعلّ من أهم ما يميز(الرواية
الجديدة)، أو رواية ما بعد الحداثة كما يسميها بعض النقاد، وبغض النظر عن
أسباب هذا التصنيف أو ذاك، فلعل أهم ما يميز هذه الكتابة الجديدة أنها سرد
ذاتي لأزمة ما. بمعنى أخر إن الأزمة، نفسية كانت أم وجودية، ميزة رئيسية في
النص الجديد، على الرغم من أن الزمن الآن هو مأزوم بطبيعة الحال! إلا أن
بعض الروائيين الجدد قد وجد في هذه العثرة بالذات ضماناً لاستمرارية نص
عابث وفوضوي يدور في فراغ هائل تغيب عنه الدلالات القديمة، ولا يعترف بها
أيضاً.
وفي الوقت ذاته يبدون وكأنهم يصنعون عتمةً وتشتت سرد واقعي حديث عن عمد
ونية مسبقة قبل البدء في الكتابة، طالما أنه لايوجد سوى الفراغ…
والحديث عن الأدب المعبأ بالأيدلوجيات، أصبح جزءاً من ماضيه بعد تلاشي
الأفكار الكبيرة تدريجياً والمقولات السياسية في الرواية، لذا كان كتاب
سبعينيات القرن الماضي أوفر حظاً من جهة سهولة انتقاء الموضوع والحماسة
الجاهزة لدى الجمهور.
لكن يمكنني القول إن أية رواية جديدة تنتمي إلى الزمن الحاضر، ولا تتأثر
بأزمته، هي رواية غير أصيلة، بمعنى الانتماء، لأنها ببساطة لا تعبر عن
الواقع المعاش، وقد لا يكترث بأمرها القارئ الحديث… ولكن في المقابل؛ أكثر
أنواع الروايات التي تظهر عليها ملامح الأزموية، إن صح التعبير، وبقوة هي
روايات السير الذاتية، الكثير من هذه النصوص تبدو مشغولة بهموم الذات
وكأنها لا تملك الوقت للاهتمام بشيء أخر!!
وهذا وهم اخترعه الكاتب كذلك، فما الذي يجعل من البطل في الرواية يظهر
وكأنه يعيش مكابداته القاسية وحيداً، بينما يستطيع أن يجعل منه بطلاً ليس
عاجزاً على الإطلاق وقادراً على قهر جميع المصاعب؟!..
ربما الرغبة في جعله متفرجاً، أو صامتاً، وغير معني بشيء مما يحدث خارج
باب بيته؟!… كموقف ساكن لعالم يمضي رغماً عنه.. فبعض الروايات التي تكون
مهمومة بالذات لا تكون الذات موضوعاً رئيسياً لها، وكأنها غير مو جودة
أصلاً، ثم ما الذي يؤكد للراوئي أن قصة حياته يتلهف إليها القارئ ولا يسأم
من متابعة تفاصيل مغامراته الجنسية في البار على سبيل المثال، أو إنجازات
إحداهن في حياتها المهنية كامرأة خارقة لغباوات المجتمع الذكوري الجاحد..!!
وفي كل الأحوال هي سيرة ذاتية غير مكتملة على الأغلب، تضاف إلى سير من
قبلها لم تكتمل، في ظل علاقة غائمة مع العالم الخارجي يسودها عدم الثقة
وعدم الاكتراث أيضاً.
التشتت، التسطيح.. النقصان.. وفقدان النهاية الحاسمة، ستبقى سمة السيرة
الذاتية، طالما أنها مجال صخب نقدي وإعلامي، وتحافظ على أزمة عدم
اكتمالها..
من مقلب أخر؛ إذا كانت النصوص الموسومة بالسيرة الذاتية تنطلق من تجارب
ووقائع حياتية عايشها الكاتب الذي لا يأبه كثيراً برصد التحولات الكبرى في
الجماعة البشرية، باعتبار أن الرواية فن صناعة أو رصد الأحداث في التاريخ
كما كان شائعاً، مع سقوط السرديات الكلاسيكية (ما بعد البنيوية) ، وهو معني
في المقام الأول بالحكي عن نفسه وأزمته الصعبة ضمن شكل أدبي أحياناً، فما
هي مقومات العمل الروائي ضمن السرد الذاتي في السيرة الجديدة؟؟
ربما تكون الأزمة في الواقع هي الإيقاع السريع للحياة اليومية المهمشة،
وتدفق التفاصيل المتناقضة، رتابة هذه اليوميات وغرائبيتها في آن واحد،
بينما أزمة روايات السيرة الذاتية خطورة وقوعها في فخ عدم الترابط بين
الحكايات والملل، وهذا ما جعل مهمة الكاتب أصعب؛ يتوجب عليه الإمساك بالنص
والتحكم بالسيطرة على مساحات صغيرة من الأوراق - نتيجة تكثيف الحكاية- ودون
أن تفقد الطابع الأدبي كذلك، إضافةً إلى أن معالمها لم تتضح بعد بالنسبة
إلى القارئ، بوصفها سيرة لذات، تأبى الاكتمال كخطيئة.. في زمن مأزوم جداً.